نهب الآثار السورية هو نهب للتاريخ

لم تترك الأزمة السورية  المستمرة  مجالا وإلا دمرته وأصابته بالشلل، وكما يسلم البشر من ويلاتها، امتدت أيادي العبث والنهب إلى الآثار بسرقته وبيعه ضمن محاولات مستمرة  لطمس التاريخ السوري وتجريده من ذاكرته الحية.
ويقول الخبراء في التراث إن البنية التحتية والمباني يمكن إعادة بنائها وتعميرها إلا أنّ  حجرة واحدة من التراث نُهبت لن تعود ولو صرفت ملايين الليرات السورية.. يريدون قطع التواصل بين الماضي والمستقبل، وتجريد سورية من مخزون إسهاماتها الحضارية ودورها في مسيرة العطاء العلمي والثقافي والفني.
فصائل مجردة من المعرفة لا تجيد سوى لغة العنف والإرهاب عمدت إلى تدمير  المعالم التاريخية وتاجرت في  التراث والإرث السوري النادر بالتهريب والمتاجرة به في أسواق السمسرة خارج البلاد، في حين لم تسلم معالم أخرى من التكسير والتحطيم.
ولطالما نبّه المرصد السوري لحقوق الانسان منذ سنوات  من استمرار عمليات نهب الآثار التي باتت تجارة مرحبة للمليشيات المسلحة ومصدرا هاما لشراء السلاح وتدريب المسلحين وتنفيذ الهجمات العسكرية.
ويشدد زرادشت عيسو، مدير مكتب الآثار في الإدارة الذاتية، في حديث مع المرصد السوري، على ضرورة إيلاء هذا الموضوع أهمية كبيرة والعمل على المحافظة على الإرث التاريخي السوري وإنقاذ المواقع الحضارية والأثرية وترميمها وصيانتها من أجل أن تبقى شاهدا على عطاء الإنسان وإبداعه عبر مراحل التاريخ، ولكونها تمثل صلة الربط ما بين الماضي والحاضر، ويعتبر الحفاظ على أي لقى أثرية من الشواهد الهامة للحضارة الثقافية لأي منطقة كانت.

 ما هي الجهات التي سطت على  الأثار السورية ونهبتها؟

ظلت الآثار هدفا للتدمير منذ هجمات التتار والمغول في شاهد على الحقد على  الحضارات التي عاشتها المنطقة بتميز أبنائها وعبقرية إبداعهم، واستمرت إلى اليوم تلك العقلية التي تستهدف المنارات الحضارية والتراث الإنساني سواء من قبل همج الداخل بغية المتاجرة بها  أو من أعداء الخارج والشواهد على ذلك كثيرة مثلما حصل من نهب وتدمير للإرث الحضاري في العراق وسورية ، حيث تمَ نهب المواقع الأثرية بالإضافة إلى اللقى الموجودة في المتاحف والمستودعات ، وهذه الجهات معروفة إن كانت جهات محلية وهذه الجهات لا تستطيع عمل شيء بدون تمويل من جهات خارجية ، التي تقوم بدورها بعملية شراء هذه اللقى الأثرية المسروقة وإعطائها هويات جديدة وبيعها في مزادات عالمية.
كيف يمكن ردع تلك الانتهاكات التي تعمل على إضاعة تاريخ كامل؟
وفق ممثل الإدارة الذاتية ، يبدو أن مهمة  الرد ليست بالصعبة في ظلّ إيجاد  القوانين، ويقول: عن طريق تجديد وتفعيل عمليات الحماية ووضع القوانين الرادعة لكل إنسان يقوم بعملية الإتجار أو التنقيب غير المشروع أو بيع تلك اللقى الأثرية ، بالإضافة إلى ملاحقة الجهات المرتبطة بها خارجياً والقيام بفضحها ، وإن كان هناك مجال يمكن أن نقوم بعملية رفع دعاوى قانونية عليها ومحاولة استرداد تلك القطع المسروقة أو تثبيت هويتها الصحيحة وموطنها الأصلي .
وعن دور الادارة الذاتية، يقول محدثنا: يكمن دور الإدارة الذاتية في تنمية المجتمعات المحلية المحيطة بالمواقع الأثرية ، لتكون هي الدرع الحامي الأول لهذه المواقع ومنع العبث بها ، وأن تجعل من هذه المواقع عامل تنمية للمجتمعات التي تقع حولها وتهيئتها كمرافق جاذبة للسياحة الداخلية ومن الخارج.
من جانبه يرى  صلاح سينو، الخبير في الآثار في حديث مع المرصد السوري، أنّ مهمة الحفاظ على التاريخ في مختلف المناطق السورية  بات هدفا وجب أن تجتمع حوله مختلف الأطراف بقطع النظر عن الاختلافات.
أبرز عمليات النهب و سرقة الآثار من قبل الفصائل الإرهابية المسلحة والدولة التركية
يسرد سينو، مسار  نهب الآثار في عفرين ويقول:  منذ اليوم الثاني من الحرب التركية على منطقة عفرين السورية بتاريخ 21\2\2018 قامت الطائرات الحربية التركية بقصف معبد عين دارة الذي يعود إلى نهاية الألف الثاني ق. م وتدميره بشكلٍ بالغ ،وخلال فترة الاحتلال عمدت سلطات الاحتلال إلى اتباع سياسة ممنهجة تهدف إلى تدمير التراث الثقافي الإنساني المتراكم عبر الزمن والمتمثل في المواقع والتلال الأثرية والأماكن الدينية المقدسة لدى مختلف الأديان والمذاهب في المنطقة دونما تمييز علاوة على التعدي على حرمة المقابر والأضرحة، وحتى التراث غير المادي لم يسلم هو الآخر إذ عمد الاحتلال إلى تغيير الأسماء الكردية للقرى والبلدات والشوارع واستبدالها بأسماء تركية  وغدت المنطقة من أكثر المناطق السورية المنكوبة ثقافياً بالنظر إلى الكم الهائل من المواقع الأثرية والدينية المدمرة حيث تفيد آخر الإحصائيات المتوفرة لدينا بأننا قمنا بتوثيق 72 موقعا وتلا أثريا و31 مزارا ومكانا دينيا وهذه الأرقام لا تمثل العدد الحقيقي للمواقع التي تم تخريبها وتجريفها خلال فترة الاحتلال”.
تدمير التاريخ  تصرف عدواني لطمس الهوية
يتابع محدثنا:  إن مسألة تدمير وتجريف المواقع الأثرية والتاريخية تحمل في طياتها جوانب خطيرة للغاية تتعدى الدوافع المادية لمخططيها ومرتكبيها والتي حدثت في منطقة عفرين على نطاق أوسع وأعنف وشملت جميع المواقع والتلال الأثرية باستخدام الآليات الثقيلة التي تدمر أغلب القطع والمواد الأثرية الهشة بالأساس وتقوم بخلطها ونقلها من مكانها الأصلي في تداخل دون مراعاة التسلسل الطبقي لهذه التلال الأثرية، وكنا قد حذرنا ونبهنا المجتمع الدولي عبر مؤسساته ولجان تحقيقاته بعشرات التقارير والدراسات من أن هذا الأسلوب الحاقد يتم بشكلٍ  ممنهج  وخطير للغاية وينذر بخسارة أبدية لهذه المواقع والتلال الأثرية وما تحويه من كنوزٍ كانت ستشكل بنكاً هائلاً من المعلومات والقرائن المادية لتاريخ الحضارات التي استوطنت  في هذا الجزء من الجغرافيا البشرية لأن المواد الأثرية غير قابلة للاسترجاع إن لم يتم توثيقها ورفعها بشكل دقيق وعلمي في أثناء الحفر والتنقيب ما يعني أن هذه الخسارة لم تنحصر بجغرافية عفرين وسكانها الأصليين بل  تتعدى ذلك إلى تمزيق صفحاتٍ ناصعة وكاملة من تاريخ الإنسانية جمعاء، ومن أهم المواقع التي تم تدميرها معبد وتل عين دارة الأثري حيث يعود المعبد إلى نهايات الألف الثاني ق.م وتجريف التل المرتفع و المدينة المنخفضة بالآليات الثقيلة، وتمت سرقة أهم منحوتة مكتشفة في القرن الماضي وهي منحوتة الأسد البازلتي الكبير، إضافة إلى تدمير أكبر موقع كلاسيكي في الشمال السوري وهو موقع النبي هوري (سيروس) وملحقاته وتجريفه بالآليات الثقيلة بمساحة تتجاوز الـ(70) هكتارا بحسب شهادات السكان الأصليين والصور الفضائية ، كما لم يفلت موقع كهف الدودرية من الأيادي السوداء التي طالته وعبثت بمربعات البعثة اليابانية العاملة في الموقع قبل الأزمة السورية برغم عدم وجود أية منافع مادية في تخريبه، حيث يعود الموقع بحسب نتائج أخر موسم تنقيب الى (400000) سنة خلت، بالإضافة إلى تجريف أكبر تل أثري في منطقة عفرين، وهو تل جنديرس الذي كان قبل الأزمة السورية حقلاً علمياً لبعثتين أثريتين هما البعثة الألمانية السورية والبعثة الوطنية السورية، وقد وصل التخريب إلى مربعات البعثتين لدرجة اختفائهما وطمس معالمهما بحسب الصور الفضائية، ناهيك عن تدمير وهدم منزل البعثات ومستودعها وتحويل التل الأثري إلى أكبر قاعدة عسكرية تركية وسرقة جميع محتويات المنزل والمستودع والقطع واللقى الأثرية المستخرجة من التل نتيجة الحفريات التخريبية ونقلها إلى الأراضي التركية.. كما قامت السلطات التركية بالتعدي على المواقع العالمية التي كانت مسجلة في قائمة التراث العالمي لدى اليونسكو كمواقع كيمار وبراد مركز حج الطائفة المارونية، والمثوى الأخير للقديس مار مارون وكفرنبو و باصوفان وكفر لاب ودير سمعان العمودي المعروف بأجمل كاتدرائية بيزنطية متبقية في الشرق (قلعة سمعان) فضلا عن سرقة القطع واللقى الأثرية المستخرجة من هذه المواقع.يشار أيضا إلى سرقة الهيكل الجملوني المعدني المخصص لحماية اللوحات الفسيفسائية في موقع علبيسكة، وسرقة اللوحات المكتشفة خلال العام 2015م”.
ويعتبر محدثناأنّ هذه الممارسات اللاإنسانية التي تصنف كجرائم حرب ضد الإنسانية لا زالت مستمرة إلى الآن، في حين ظل المجتمع الدولي بمؤسساته المعنية وخاصة مجلس الأمن الذي أصدر عددا من القرارات الخاصة بحماية التراث الإنساني خلال الأزمة السورية، عاجزا عن إلزام الأطراف المنخرطة  في هذه الأزمة بهذه القرارات،الأمر الذي  شجع الدولة التركية على صب جام غضبها وحقدها على المناطق الكردية ومنطقة عفرين بشكلٍ خاص.
استعادة ما تم نهبه وتهريبه إلى تركيا من قبل الفصائل المسلحة لمحو الطابع الكردي عن عفرين المحتلة  أمر حتمي
يقول  سينو:إن المشكلة الرئيسية في هذا المجال هي عدم معرفتنا المسبقة بأغلبية المواد والقطع واللقى الأثرية التي كانت مدفونة لآلاف السنين وقامت السلطات التركية والفصائل الموالية لها بإجراء حفريات تخريبية بالآليات الثقيلة وإخراج هذه القطع واللقى الأثرية ما يعني جهلنا الكامل بالمواصفات والمواد وأعدادها والعلامات المميزة لهذه التحف الأثرية والتي هي من شروط المطالبة بها، عدا بعض المكتشفات العائدة إلى ما قبل الاجتياح التركي والتي من الممكن المطالبة بها كاللوحات الفسيفسائية لموقع النبي هوري ( سيروس ) المكتشفة من قبل البعثة السورية – اللبنانية ومحتويات مستودعها في الموقع المذكور ولوحات فسيفسائية أخرى عائدة لتل جنديرس تم الكشف عنها في تنقيبات البعثة السورية ومحتويات مستودع عين دارة وكهف الدودرية.. إضافةً إلى اللوحات الفسيفسائية المكتشفة في موقع عليبسكة عام 2015 من قبل الإدارة الذاتية وبعض القطع واللقى الأثرية التي ظهرت في أثناء الحفريات التخريبية الجارية من قبل السلطات التركية في موقع النبي هوري ( سيروس )، وكنا قد أثبتنا بالأدلة العلمية الدامغة خلال العام 2019 أن هذه اللوحات عائدة لسيروس إضافةً إلى محتويات الأسد،والتييمكن للدولة السورية أن تطالب الدولة التركية بإرجاعهاوإخطار الأنتربول بالمعلومات التي تكفل الملاحقةالدولية إن كانت خارج البلدين (سورية وتركيا)علما أن تركيا كانت طرفا رئيسيا في ارتكاب هذه الجرائم خلال فترة احتلالها المستمرة إلى الآن، ونعتقد أن مئات الآلاف من القطع واللقى الأثرية استخرجت من باطن التلال والمواقع والمدافن الأثرية بشكلٍ غير شرعي إضافةً إلى القطع التراثية القديمة المنهوبة من المنازل وتم نقلها إلى الأراضي التركية ضمن مستودعات سرية حالياً على غرار ما حدث في الحرب العالمية الثانية التي رافقتها عمليات سرقة ونهب الآثار من طرف النازيين ووضعت في أماكن سرية بعضها لا يزال غامضاً ومخفياً إلى اليوم..
الإشكالية هي أن الدولة التركية تنكر وجود أيةأثار سورية مسروقة على أراضيها وتخرج بين الفترة والأخرى لتعلن عن اعتقالها بعض الأشخاص ومصادرتها قطعاأثرية مهربة من سورية،والدليل الآخر هو الحفريات غير المشروعة في مئات المواقع والتلال الأثرية السورية في منطقة عفرين أمام أعين القوات التركية باعتبارها الحاكم الفعلي لعفرين إضافة إلى إدانتها عدة مرات من قبل مسؤولي الحكومة السورية بسرقتها عشرات الآلاف من القطع الاثرية وإثبات حدوث هذه الحفريات وعمليات النهب للأثار السورية في عدة تقارير صادرة عن مجلس حقوق الإنسان الأممي ومقره جنيف..
على الحكومة السورية متابعة هذا الملف ومطالبة المجتمع الدولي بإيقاف المجزرة التركية المستمرة إلى الآن بحق التراث الثقافي السوري وإعادة القطع المسروقة والمنهوبة من سوريا بشكلٍ عام.

هل يمكن محاسبة المجرمين دولياً 
قال محدثنا إنّ  بنود اتفاقية لاهاي لعام  1954  تتضمّن العديد من المواد وكذلك البروتوكول الأول والثاني من اتفاقيات جنيف واليونسكو 1970 على مفردات تمنع وتحذر من تخريب وتدمير الممتلكات الثقافية التي تم تعريفها في المادة الأولى، وجاءت المصطلحات والمفردات بشكلٍ فضفاض من قبيل تتعهد الأطراف السامية باحترام الممتلكات الثقافية ووقايتها ولا يجوز ويحظر وما إلى ذلك من مصطلحات تحذيرية إضافةً إلى المادة ( 28 ) من اتفاقية لاهاي 1954 تحت مسمى الجزاءات والتي نصت على ما يلي 🙁 تتعهد الأطراف السامية بأن تتخذ في نطاق تشريعاتها الجنائية كافة الإجراءات التي تكفل محاكمة الأشخاص الذين يخالفون أحكام هذه الاتفاقية أو الذين يأمرون بما يخالفها ، وتوقيع جزاءات جنائية أو تأديبية عليهم مهما كانت جنسياتهم ) وهذا يعني أن الحكومة السورية والحكومة التركية باعتبارهما من الأطراف التي وقعت على الاتفاقية  يقع على عاتقهما واجب ملاحقة ومحاكمة هؤلاء المجرمين بموجب قانون الآثار السوري والتركي، إلا أننا نشير هنا مرة أخرى إلى أن  الطرف التركي متورط بشكل مباشر في هذه الجرائم، وعلى هذا يقع واجب المحاسبة على كاهل الحكومة السورية بالشكل المعروف قانونياً حسب الظروف الراهنة.