هل تتطور الأزمة السورية إلى حرب عالمية؟

56

يطرح التعقيد الذي تمر به الأزمة السورية، ومستوى التوتر الذي تنتجه في عالم العلاقات الدولية، تساؤلاً عما إذا كان ذلك سيدفع الأمور إلى حد اندلاع حرب عالمية كبرى كنتيجة، أو ربما مآل نهائي، لحالة التزخيم التي تشهدها نواة هذا الصراع، سورية، والاستنفار الحاصل على حوافيها الإقليمية، وما تنتجه من تعقيدات على مستوى العلاقات بين الفاعلين الكبار والذي بدأ يتمظهر على أزمات، إما أنها تبدو رديفة للأزمة السورية، كحالة أوكرانيا، أو صدى لها، مثل أزمة اليمن.

تؤكد الخبرة التاريخية أن الحروب الكبرى طالما تلطّت خلف أزمات أخذت في الغالب شكل التصدّع الوطني الداخلي، ولم تلبث ارتداداتها أن عمّت الإقليم الذي تقع فيه، ثم شكلّت الشرارة التي أشعلت نيران حروب كبرى، ولم يكن مصادفة حصول تلك الأزمات في مفاصل تاريخية معينة، كانت في الغالب عبارة عن صدى لتغيرات حاصلة في بنية النظام الدولي واستجابة لمطالب جيوسياسية ناشئة، ما يحوّل ساحة الأزمة إلى مختبر لمعاينة التوجهات والرهانات وسبر الإمكانيات. ومن الناحية النظرية تملك الأزمة السورية كل المواصفات التي تؤهلها لأن تكون شرارة حرب، سواء لجهة التفاعلات الحاصلة في عمقها وعلى هامشها، أو لجهة درجة الاحتكاك التي تفرضها بين اللاعبين المختلفين.

ولعل الخطورة التي ينطوي عليها هذا النمط من الأزمات هو عدم القدرة على السيطرة عليها أو ضبطها، إذ في لحظات معينة يكون مختلف اللاعبين على قناعة أنهم يديرون الأزمة بطريقة صحيحة، وأن تقديراتهم حولها صائبة، غير أن تركيزهم غالباً ما يكون محصوراً على هزيمة الأطراف المقابلة، حيث يصبح صانع القرار أسيراً للقادة الميدانيين والإداريين المشرفين على العمل، المنخرطين في صراع مع نظرائهم على الجبهة المقابلة والمشغوفين بتحقيق النصر عليهم، وفي هذه الأثناء تنضج سياقات الأزمة بحيث تكون قد وصلت إلى مرحلة يصبح انفجارها بوجه الجميع أمراً حتمياً، كما أن الانفجار يصبح الخيار الوحيد لمختلف الأطراف، ولسوء الحظ أن القناعات حينها تكون قد وصلت إلى حد اعتبار هذا الانفجار بمثابة فرصة وليس خطراً.

الأزمة السورية، وحتى تاريخها هذا، لم تصل إلى تلك اللحظة لأسباب عدة، منها أن التوازنات التي تقيمها الأطراف ما زالت صامدة، كما أن الأهداف التي يتحرك ضمنها أطراف اللعبة تبدو في نظرهم على الطريق الصحيح، فلا تزال أميركا ترى في الأزمة فرصة استنزافية جيدة لخصومها الدوليين والإقليميين، ولا تزال روسيا وإيران تعتقدان أن الأزمة تهيئ لهما ساحة لإثبات حضورهما وللمشاغبة على نظام دولي لا يملكان الكثير من الأوراق للتأثير عليه أو على ما يعتبرانه قواعد ظالمة ينطوي عليها ولا يتم تطبيقها إلا على الساحة السورية، والأثمان التي تدفعانها حتى اللحظة لا تزال بنظرهما تتساوى وهذا النمط من الحراك الدولي.

على مستوى التواصل بين أطراف الأزمة، ما زالت هناك قنوات لامتصاص التوتر، سواء من خلال المفاوضات بين إيران والغرب أو التواصل الديبلوماسي بين واشنطن وموسكو، وهذه الحالة تتيح لتلك الأطراف هوامش ممكنة للمناورة واللعب، كما يجري بين فترة وأخرى فحص قواعد الاشتباك والتأكد من استمرار صلاحيتها وبقائها تحت سقف الممكن.

أكثر من ذلك لا يبدو أن العالم يضع يده على الزناد، ولا وجود لأثر استعدادات لمثل هذا الوضع، حيث يرى الجميع أن ثمة وسائل لا تزال حتى اللحظة فاعلة في إدارة الصراع بين الأطراف وهي قابلة للاستمرار ويجري توسيعها ما أمكن. صحيح أن الفاعلين استهلكوا في السنوات الأخيرة جزءاً كبيراً من ترسانة أوراقهم التفاوضية، لكنهم حتى اللحظة ما زالوا يستطيعون إزاحة بعض الشوك عن طرق تلاقيهم.

لكن كل ذلك لم يمنع ظهور عدد من الأزمات، أو ربما كان عاملاً مساعداً وبيئة خصبة لانفلات الكثير من القضايا من تحت السيطرة واضطرار الأطراف إلى استخدام أسلحة في المعركة باعتبارها أدوات غير حادة مثل العقوبات الاقتصادية وتخفيض أسعار النفط، وهي أدوات تقع تحت تصنيف الحروب الفاترة حتى اللحظة. ومن شأن تراكمها أن يؤدي إلى تبلور أزمة كبيرة يصبح تفكيكها أمراً مستحيلاً، أو قد تصل إلى درجة الغليان، ما قد يؤدي إلى اندفاعات أكبر باتجاه الخطر.

غير أن الخطر الأكثر وضوحاً وإمكانية للتفجر حتى اللحظة، هو درجة التدمير الحاصلة في بنى النظم الإقليمية، باعتبارها نظماً فرعية للنظام الدولي، من النظام العربي إلى النظام الشرق أوسطي، والنظامين الأوروبي والآسيوي، وهذا التدمير حصل نتيجة الأزمات القائمة في قلب هذه النظم، ونتيجة تحولها إلى جدران لامتصاص حدة الصراع الدولي، من غير وجود آليات لضبط النزاعات داخل تلك الأطر، والواضح أن هناك درجة عالية من الانفلات والتوتر ضمن هذه المستويات، ولعل الحالات التركية – الإيرانية، والروسية – الأوكرانية، والكورية- الكورية، هي الأكثر وضوحاً، وهي في مجملها تعبيرات حادة لحالة الاضطراب والصراع الدولي، وتملك قابلية للاستقطاب والتفجر في كل لحظة.

مما لا شك فيه أن العالم، في السنتين الأخيرتين، استهلك كمية كبيرة من التشحيم بين مسننات حراكه، وليس ثمة في الأفق ما يدل على إمكانية ترميم الخراب الحاصل في آليات النظام الدولي، فهل تكون تجليات الحرب العالمية على شكل تصدعات إقليمية، أم أنها تتطور عند لحظة ما ويقع الصدام بين الكبار؟

غازي دحمان – الحياة