واشنطن خانت الأكراد مرة أخرى

21

كانت الشاخصات التحذيرية حاضرة كل الوقت. ومع ذلك، أصاب قرار الرئيس دونالد ترامب الفظ بسحب القوات الأميركية من شمال شرق سورية الأكراد السوريين بالذهول. وبين عشية وضحاها، تحطم حلمهم بتأسيس منطقة كردية متمتعة بالحكم الذاتي، وأصبح عليهم الآن أن يختاروا بين العودة إلى الجبال لمحاولة البقاء على قيد الحياة، أو البقاء متحفزين، في انتظار نظام الأسد العائد إلى السيطرة وما يرتبه لهم في ذهنه بعد ست سنوات من تمتعهم بشيء من الحكم الذاتي. يبدو أن الخوف من التعرض لخيانة القوى العظمى مكتوب في الحمض النووي للأكراد. وكانت ولادتهم كواحدة من أكبر الأمم التي بلا دولة في العالم من أنقاض الإمبراطورية العثمانية قد جاءت من وعد لم يتم الوفاء به، والذي بذله المنتصرون في الحرب العالمة الأولى، أو هكذا يرى الأكراد الأمر. وبعد أن تقسموا بين أربع دول –تركيا وإيران والعراق وسورية- قاتلوا وماتوا في البحث عن الحرية والوطن. وأثبتت نجاحاتهم على الدوام أنها قصيرة الأجل؛ ففي كل مرة، اختفى الفراغ الذي كانوا يستغلونه، وتخلى عنهم الحلفاء الأقوياء الذين ظنوا أن بإمكانهم الاعتماد على دعمهم. ضغط الأكراد من أجل تحقيق الميزة في أعقاب الغزو الأميركي للعراق، الذي سمح للأكراد بأن يؤسسوا منطقة فيدرالية؛ ومرة أخرى في أعقاب الاحتجاجات الجماهيرية في سورية في العام 2011، والتي تحولت إلى حرب أهلية، خالقة بذلك فراغاً في شمال الشرق كان الأكراد سريعين إلى ملئه. وعندما ظهر تنظيم “داعش” في المشهد في العام 2014، انضم الأكراد في كل من سورية والعراق سريعاً وعن طيب خاطر إلى التحالف الذي جمعته الولايات المتحدة لمحاربة التنظيم الإرهابي الذي شكل تهديداً مباشراً لهم. وأملوا في أن يُترجَم ولاؤهم للولايات المتحدة، عند انتهاء الحرب، إلى دعم واشنطن خطوات في اتجاه تحقيق الأهداف القومية الكردية. لكن ذلك لم يتحقق. وقبل أكثر بقليل من عام، رفضت الولايات المتحدة القدوم لنجدة الأكراد العراقيين عندما تجاهل رئيس منطقة كردستان العراقية، مسعود برزاني، إصرار واشنطن على أن لا يعقد استفتاءاً على إقامة دولة كردية. ومنح ذلك الاستفتاء، إلى جانب تحذيرات الولايات المتحدة، فرصة لبغداد كي تستعيد أراضي شمال العراق التي طالب بها الأكراد منذ وقت طويل، بحيث تقوضت بذلك التطلعات الكردية إلى الاستقلال. ثم جاءت إشارة تحذيرية أخرى في العام 2018، عندما وقفت الولايات المتحدة متفرجة عندما اجتاحت القوات التركية منطقة عفرين ذات الأغلبية الكردية في شمال سورية، وقامت بطرد مقاتلي وحدات حماية الشعب، التجلي السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا. وكانت وحدات حماية الشعب قد سيطرت على شمال سورية في العام 2012، عندما كانت قوات الحكومة السورية منشغلة بمحاربة الثوار في الأماكن الأخرى من البلد. وبسبب افتقارها إلى القوى البشرية، استقرت دمشق على خيار السماح للمقاتلين الأفراد بأن يفعلوا. كما تذكرت الحكومة السورية أيضاً علاقتها بحزب العمال الكردستاني التي تعود وراءاً إلى الثمانينيات؛ وإذا ما واجهت الخيار، فقد فضلت وحدات حماية الشعب العلمانية، التي تنطوي على طموحات في السيطرة على الشمال الكردي فقط، على المتمردين الإسلاميين الذين يسعون إلى الإطاحة بالنظام. أثبت كل من مقاتلي البشمرغة التابعة للبرزاني في العراق ووحدات حماية الشعب في سورية أنهم يشكلون أصولاً متميزة يمكن الاعتماد عليها في حملة التحالف المناهضة لـ”داعش” الرامية إلى القضاء على التنظيم. ومع ذلك، لم يتلق أي من الطرفين المكافأة التي اعتبروا أنهم يستحقونها. وربما كانوا قد تعايشوا مع هذا الإدراك بينما يواصلون علاقتهم بهدوء مع الدول الغربية، على أساس أمل ضئيل بأن المستقبل ربما يجلب لهم المزيد من العوائد. لكن المؤلم هو أن واشنطن ذهبت شوطاً أبعد على ما يبدو، فأدارت ظهرها لهم ويبدو أنها تتركهم تحت رحمة الدول ما بعد العثمانية. وربما يجب منحهم العذر على اعتقادهم الآن بأن الولايات المتحدة استخدمتهم ببساطة كما لو أنهم شركات أمن خاصة، كجزء من تحالف تكتيكي لتحقيق أجندتها الاستراتيجية التي افترقت عن تطلعاتهم في نهاية المطاف. والآن، يبدو أن تاريخ صلاحية العقد المبرم بين أميركا ووحدات حماية الشعب الكردية قد انتهى. يمتلك الأكراد العراقيون ميزة السيطرة على منطقة فيدرالية تتمتع –لأسباب منطقية- بعلاقة جيدة ببغداد، وميزة وجود ممثلين لهم في الحكومة المركزية، والذين يستطيعون المساعدة في جعل نهج العراق تجاه الأكراد معتدلاً بما يكفي. وعلى النقيض من ذلك، تجد وحدات حماية الشعب الكردية في سورية نفسها محاطة بالأعداء –تركيا، والنظام السوري، وحتى أكراد برزاني الذين ينظرون إليها بعين الشك. وإذن، ما التالي بالنسبة لمقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية؟ يمكنهم أن يختاروا القتال، لكن التضاريس الطبيعية المنخفضة لا تصب في مصلحتهم، خاصة ضد الجيوش. ولديهم خياران آخران أيضاً: الانسحاب إلى الجبال في شمال العراق، حيث يمتلك حزب العمال الكردستاني معاقله الخاصة منذ وقد طويل وحيث يمكن أن يتمكنوا من تحاشي نيران القوات التركية؛ أو إبرام صفقة مع النظام السوري للاحتفاظ ببعض المكاسب التي حققوها منذ العام 2012. على مدار الصيف، خاضت وحدات الشعب الكردية مسبقاً محادثات مع دمشق، لكنها سرعان ما تعثرت بسبب رفض حكومة الأسد العنيد منح الأكراد شبراً واحداً، واعتقاد وحدات حماية الشعب بأن الولايات المتحدة تقف خلفها. وإذا عاد الأكراد إلى التفاوض مع دمشق الآن، فإنهم سيجدون أسداً أقل استعداداً للتسوية من السابق، لأن إعلان ترامب عن انسحاب غير مشروط للقوات الأميركية تركهم يدورون في مهب الريح. ولعل أفضل ما يمكن أن يأملوا في تحقيقه هو عقد تحالف مع دمشق من أجل إبقاء القوات التركية خارج سورية –بعد أن تعهد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، باستهداف وحدات حماية الشعب. ولكن، هل سيمنح بشار الأسد الأكراد قدراً من الحكم الذاتي في شمال البلد في المقابل؟ لا يوجد أي طريق جيد للتقدم بالنسبة للأكراد. ولكن، ما يزال بالوسع تجنب الأسوأ. الآن، يعود إلى روسيا، التي تمسك بمعظم الأوراق في سورية، أمر جلب أنقرة ودمشق إلى الطاولة. وبالنسبة لتركيا، يكمن الهدف النهائي في أن لا تخضع حدودها مع سورية لسيطرة قوات وحدات حماية الشعب/ حزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره عدوها الأبدي. وبالنسبة للأسد، فإن الهدف هو سورية خالية من القوات التركية وعودة الأجهزة الأمنية السورية إلى السيطرة في كافة أنحاء البلد، بما في ذلك الشمال الكردي. ويستطيع النظام السوري أن يتعايش مع وحدات حماية الشعب، وإنما فقط إذا وُضِعت في مكانها “المناسب”: أن تكون مقلوعة الأنياب، مذعنة، وحليفاً مفيداً ضد أنقرة. السؤال الآن هو ما إذا كان الدبلوماسيون الروس يستطيعون أن يرتقوا إلى مستوى مهمة الحيلولة دون حدوث السيناريو الأسوأ: اشتباك وحدات حماية الشعب في قتال حتى الموت ضد تركيا؛ والهروب المذعور للسكان الأكراد السوريين إلى شمال العراق؛ وربما، عودة انبعاث “داعش” التواق إلى عمل ما يعرف كيف يفعله أكثر ما يكون: استغلال الفوضى.

المصدر : الغد