آخر القلاع الروسية في أوكرانيا وسوريا

50

8629433russiavladimirpoutine

عقدة الاضطهاد هي التي تدفع باليمين لتسيّد الساحة، وبالصقور إلى التحليق من جديد تحت تأييد جماهيري لإعادة روح الكرامة المفقودة. في ألمانيا وبعد الحرب العالمية الأولى كانت الظروف مهيأة لصعود التيارات القومية والأصوات العالية المطالبة بالانتقام لألمانيا التي أهانتها وحطمتها معاهدة فرساي عام 1919، عندما أرغمت القوى المنتصرة الإمبراطورية الألمانية على تجريد جيشها وتحديده، وحمّلتها تعويضات الحرب التي أثقلت الاقتصاد الألماني. في هذه الظروف صعد هتلر ليسترد الكرامة المفقودة فورّط ألمانيا والعالم بأكمله في حرب عالمية ثانية.

في روسيا ظهر بوتين من حقبة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وهو قد عاصر كبقية جيله انهيار الإمبراطورية الروسية الأخيرة دويلة بعد دويلة، ولم تنجح بروسترويكا غورباتشوف – أول الحمائم الروسية – ولا يلتسين من بعده في ضمان الرخاء الاقتصادي لما تبقى من روسيا، من بين الركود الاقتصادي والجمود السياسي لدولة لم تعد تملك من أسباب القوة إلا السلاح. ظهر من الحطام من يحاول الإبقاء على رأس الدب مرفوعا رغم الوهن الذي أصابه.

أعاد بوتين روسيا للواجهة مرة أخرى. تمسك بآخر ما تبقى من ممالكها وممتلكاتها وإرثها السوفياتي. كانت نظريات ضرورة وجود قوتين عظميين لتوازن دولي قد بدأت تؤول للسقوط، بعد أن مالت كفة ميزان القوى للطرف الأميركي، وتلاشي الروسي. في عهد ريغان الذي يُنظر إليه كبطل قومي تفكك الاتحاد السوفياتي، وكان من حسن حظ أحد أبرز الصقور الأميركية أن يكون في مواجهة أحد أبرز الحمائم الروس غورباتشوف. الآن بدأ ميزان القوى يشهد تغيرا ملحوظا، كفة القوة الروسية عادت إلى الحياة، وهذه المرة تبدّلت مراكز الصقور والحمائم، بعد أن تولى رئاسة روسيا أبرز صقورها فيما يقود أميركا أحد حمائمها.

وفي هذه المواجهات التي أصبحت مؤخرا ساخنة على صفيح من الدماء والقتلى، تساقطت قطع الشطرنج، والمهزوم فيها هو المتردد، بينما الفائز هو المهاجم غير العابئ بقوانين أو أعراف اللعبة.

السياسة الروسية البوتينية الجديدة هي عدم التفريط في أي حصن من الحصون الروسية، حتى لو تحول الأمر من المدافعة السياسية إلى الدفاع العسكري. لذلك كشرت روسيا عن أنيابها في أوكرانيا بعد أن قال الشعب كلمته، واستطاع التغيير بالقوة ضاربا بالمفاوضات الروسية الأوروبية عرض الحائط، ومختارا جزرة أوروبا على عصا روسيا. هذا الخيار الشعبي لا يعني لروسيا شيئا، لأن قرار الإبقاء على أوكرانيا تابعة لروسيا هو قرار في السياسة الروسية الجديدة لا يحق لغير الكرملين اتخاذه، وهو مستعد لاستخدام كل ما يمكن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

ساعدت على هذه الجرأة غير معروفة العواقب تجربة الروس في سوريا، فالتخاذل الأميركي في دعم الثورة السورية واختلاق ألف عذر لعدم تمويلها، وترك ساحة المعركة للروس لتوجيهها بما يخدم مصالحهم، كلها عوامل جعلت روسيا تشعر بأن الفرصة ما زالت متاحة لممارسة هذا الضغط في كل حصن استراتيجي آخر.

الحرب الباردة بين الطرفين الأميركي والروسي أشبه ما تكون بلعبة شد الحبل. في عهد ريغان كان غورباتشوف مرخيا للحبل أكثر مما يجب فانفرط عقد المسبحة السوفياتية، والآن أرخى أوباما الحبل فشده بوتين إلى الدرجة التي أحرج فيها أوباما أمام منتقدي سياسته الخارجية، وحقق معها ما يصبو إليه من الحفاظ على المصالح الروسية.

وبين هذه وتلك تتراكم جثث البشر ضحايا صراع القوى وتضارب المصالح. شبه جزيرة القرم الأوكرانية التي دخلتها هذه الأيام قوات روسية شهدت عام 1771 أبشع مذبحة تاريخية، ذُكر فيها أن 350 ألف تتري قتلوا على أيدي جيوش روسيا القيصرية، والآن تعود إليها الجيوش الروسية من جديد. وفي سوريا بلغ الضحايا عشرات الآلاف بفضل الدعم الروسي.

من يبلغ بوتين بأن عقارب الساعة لا تعود للوراء، وأن الحفاظ على الهيبة الروسية ليس بفرد العضلات من جديد، لكن بقيادتها إلى عالم حديث، تحترم فيه خيارات الشعوب، وتبني علاقاتها الاستراتيجية مع من تختاره هذه الشعوب لقيادتها لا من تفرضه روسيا عليها؟

فائق منيف