أثمان حرب الاستنزاف السورية الطويلة

المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي المرصد السوري لحقوق الإنسان

73

لأول مرة منذ قرابة عشر سنوات، لم تتغير خرائط مناطق سيطرة القوى العسكرية السورية طوال الشهور الستة الماضية، حيث لم تشهد الوقائع السورية خلال هذه الفترة أية مواجهات عسكرية كبرى، وحافظ كل من النظام وتنظيمات المعارضة وقوات سوريا الديمقراطية على مناطق هيمنتها. لكن طوال الفترة ذاتها، لم يحدث العكس أيضا. إذ لم تتحلحل أي من المسائل وأشكال الصراع السورية المستعصية، لا سياسيا ولا عسكريا ولا حتى دستوريا. انتهت حروب تغيير الخرائط السورية، لكن فقط كذلك، وبقي كل شيء آخر على حاله، عالقا ومتوترا ومنذرا بأنه لا أفق لشيء.

ففي نفس هذه الفترة، استمرت عمليات قصف النظام السوري لمناطق سيطرة المعارضة في شمال غرب البلاد، القصف الذي بادلته التنظيمات الراديكالية بقصف مماثل على مناطق النظام. كذلك بقي الطيران الروسي يشن غارات شبه يومية على تلك المناطق، وتركيا أدخلت مزيدا من قواتها وعتادها لنفس المنطقة. الأمر نفسه حدث بين المليشيات الموالية لتركيا، وبدعم منها، وقوات سوريا الديمقراطية في منطقة شرق الفرات. 

على مستوى أقل، استمرت عمليات الاغتيال المنفلتة في محافظة درعا، وصار لتنظيم “داعش” ظهور أوضح في مختلف مناطق البادية. الطيران الإسرائيلي بقي يقصف بشكل أسبوعي مراكز النظام ومعسكرات المليشيات الموالية لإيران، وهذه الأخيرة صارت تمارس حكما فعليا على الكثير من المناطق، مثلما يفعل الجيش الروسي في مناطق أخرى. وطبعا زادت جميع أشكال الفقر والفوضى وتراجع التعليم وسوء الإدارة وقلة فرص العمل وانتشار وباء كورونا في مختلف المناطق السورية.

سينمو جيل من السوريين، هؤلاء الذين سيعتبرون أن الأحوال السورية الراهنة ليست استثناء قط، بل “هكذا هي الحياة”، التي لم يروا ويعيشوا غيرها

أي أن المعادلة السورية صارت قائمة على أنه لا حروب موسعة في المستقبل المنظور، لكن مساعي جميع الأطراف لإنهاك الأنداد ستستمر بضراوة منقطعة النظير، وبذلك ليس من حلول سياسية أو ميدانية لأية تفاصيل عالقة، مهما كانت حلولا نسبية وجزئية. فالحروب الكبرى بين السوريين ممتنعة لأن التوازن بين القوى الإقليمية والدولية لم يعد يتقبل ذلك، وليس لأن قوى الحرب السورية قد استُنزفت، أو صارت النخب الفاعلة مؤمنة بالحلول السلمية.

حرب الاستنزاف السورية هذه لن تكون مجرد محطة سالبة في الدوامة السورية، بل تبشر وتؤشر ملامحها الأولى لأن تكون مرحلة طويلة وقاسية، لا تقل ضراوة وعنفا عن مرحلة الحرب المفتوحة التي عاشها السوريون طوال العقد الماضي.

كانت زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لرأس النظام آخر الآمال بأن تكون مرحلة السلام تالية لعقد الحرب، لكن مجموع التصريحات الروسية أثناء وبعد الزيارة، دلت على أن ذلك بعيد المنال، وأن السوريين سيدخلون مرحلة استنزاف طويلة الأمد.

مع هذه المرحلة الاستنزافية، سيتخلى ملايين السوريين المنفيين والمهجرين عن أية آمال بإعادة تصحيح دورة حياتهم عما قريب. فالحروب السورية التي كانت تبشر بنهايتها القريبة، كانت بالنسبة لهؤلاء مؤشرا لإمكانية مغادرتهم لأنماط حيواتهم القلقة، كأناس ومجتمعات كانوا عالقين في مرحلة استثنائية، دون أوطان. 

ملايين السوريين اليائسين هؤلاء مجبرون اليوم على القبول بكامل طيف شروط البقاء المديد في بلدان الاستضافة، بالذات في دول الجوار، التي تطبق عليهم أكثر القوانين جورا، وتتعامل الأغلبية المطلقة من مجتمعاتها مع هؤلاء السوريين بفوقية ونبذ واضحين، بينما تتحطم كل أشكال التنمية التعليمية والاقتصادية والمدنية بالنسبة لأجيال متلاحقة من هؤلاء السوريين. الذين هُم فقط قرابة ثلث السوريين.

نفس هذه المرحلة، ستدفع أمراء الحرب في مختلف مناطق السيطرة السورية لأن يوسعوا أعمالهم ويشرعنوا أفعالهم، وبالتالي ممارسة المزيد من العنف والسطوة بحق المجتمعات المحلية حيث يسيطرون، عبر الهيمنة على الحياة العامة ونهب المزيد من الخيرات وممارسة الأفعال دون أي قيد.

فأمراء الحرب كانت تردعهم مخاوفهم بأن تكون آليات المسائلة والمحاسبة قريبة العهد، بُعيد مرحلة نهاية الحروب تماما. لكن الوقائع على الأرض تبشر بأنه لا شيء من ذلك، وأن حالات الثراء والصعود الاجتماعي التي شكلها قادة المحاور هؤلاء، ستترسخ وتتحول إلى حقائق دائمة على الأرض. وأن هؤلاء القادة العسكريين المتأتين من أكثر الأوساط السورية بؤسا وتخلفا ومحافظة وحرمانا، سيكونون القوة “النخبوية” الأكثر تأثيرا على مستقبل سوريا.

حكم أمراء الحرب المديد هذا، سيحطم كامل الطبقة الوسطى والأكثر تمدنا وتعليما في كامل المناطق السورية، في نفس الوقت الذي ستسمح سطوتهم بتبدلات جذرية في سلم القيم الاجتماعية السورية، من خلال منح المزيد من الطاقة والسطوة والمركزية لدور العنف وفاعلية الهويات الأهلية وصعود الذكورة والمحافظة الحياتية.

حرب الاستنزاف السورية ستعني بأن قوى الهيمنة في هذه البقعة السورية أو تلك ستسعى لتحويل معتقداتها ونزعاتها السياسية إلى أشكال من “الدين السياسي”، ببساطة لأن غياب أي أفق للمصالحة في إطار دولة سورية مستقبلية، سيرفع عنهم حرج القبول بأشكال من التواطؤ التي كان يُمكن أن تُفرض عليهم عبر آليات المصالحة، بحيث يتطلب من كل قوة أن تتخلى نسبيا عن معقدها السياسي لخلق مساحة وسطى بين المتخاصمين، وبالتالي إعادة تأسيس السلطة العامة في البلاد عبر هذه المصالحة.

وحدهم دراويش سوريا دفعوا ويدفعون وسيدفعون كل الأثمان، في زمن الاستبداد وفي زمن الثورة والحرب، ووصولا إلى الآن، زمن اللاشيء

فالإسلاميون الراديكاليون في مناطق سيطرة المعارضة السورية، سيزيدون من فاعلية سلطات ومؤسسات الحُكم الثيوقراطية، وستزيد الأسدية من نزعتها لتكريس حكم العصابة المحيطة بها، وعبر القوة العارية، التي وصلت راهنا لمستوى منع السوريين من دخول بلادهم ما لم يدفعوا خوة مباشرة لهذه السلطة. كذلك، فإن الحاكمين في شرق الفرات سيستمرون في فرض أجندتهم وخياراتهم الأيديولوجية، دون انتباه أو اعتبار للشراكة مع باقي القطاعات المجتمعية والسياسية في مناطق حكمهم.

في ظلال كل هذا، سينمو جيل من السوريين، هؤلاء الذين سيعتبرون أن الأحوال السورية الراهنة ليست استثناء قط، بل “هكذا هي الحياة”، التي لم يروا ويعيشوا غيرها. هذا الجيل الذي سيكون جاهزا لقبول واستمراء كل شيء، لأنه سيكون الأكثر جهلا وبعدا عن حقوقه “الطبيعية”، حتى تلك البسيطة التي تحفظ كرامته الآدمية.

أخيرا، ستتوافق وتتعامل القوى الإقليمية والدولية مع المسألة السورية حسب شرطها الراهن، ستعتبر أن مجموع المناوشات والصراعات الجزئية وغياب العدالة الاجتماعية وتهشم سلطة القانون وحكم المليشيات وهشاشة الحياة هي بمجموعها الصورة العادية والطبيعية والحقيقية لسوريا، بل ربما تعتبرها ملعبا مناسبا لتمرير الكثير من حاجاتها وآليات توازنها، كما فعلوا طويلا بلبنان بعد حرب العام 1982.

وحدهم دراويش سوريا دفعوا ويدفعون وسيدفعون كل الأثمان، في زمن الاستبداد وفي زمن الثورة والحرب، ووصولا إلى الآن، زمن اللاشيء.

 

 

 

الكاتب : رستم محمود – المصدر: الحرة