أجواء الصراع في الساحل السوري

20

 تركت الحرب في سورية بصماتها على كل شيء، البشر والحجر .. حتى تلك المناطق التي كانت بعيدة عن الصراع ، أو اعتبرت كذلك حصلت على نصيبها الوافر، وإن اختلفت طريقة الدفع.
كنت في اللاذقية في آذار (مارس) العام 2011، كانت الطريق إليها مقطوعة وكان لا مناص من الانتظار لرحلة جوية تقلني من دمشق إلى اللاذقية. كان الطلب على مقاعد الطيران كثيفا والطقس سيئا فترددت على مطار دمشق ثلاث مرات في ثلاثة أيام.
هذه المرة وصلت إلى اللاذقية بالسيارة في رحلة استغرقت خمس ساعات، حين تغادر فضاء حمص وتقترب من جغرافية الساحل عبر بانياس والقرموس وطرطوس، سيفاجئك جمال الطبيعة البحر على يسارك وكروم العنب والزيتون على يمينك ، لا تلحظ على الطريق بين الفينة والأخرى إلا لافتة إعلانية لفرن بدائي يبيع مناقيش الصاج ومعها أكواب الشاي الأسود على حافة مزارع بسيطة، وكأنك في مشهد سينمائي.. حين تقترب من اللاذقية ستتزايد الحواجز الأمنية، وسترى الطائرات الروسية والسورية في سمائها، وقتها ستعرف أنك تقترب من مركز القيادة الحكومي في هذه الحرب.
اللاذقية ومدن الساحل مثل طرطوس خصوصيتها في هذا الصراع ، فهي معقل التأييد للرئيس السوري وحلفائه، وهي الخزان البشري للجيش السوري بطائفتها العلوية التي اختارت الجيش لأسباب بدأت اقتصادية قبل الاستقلال ثم تحولت سياسية بحكم العشيرة والقرابة فيما تلا من عقود.
في العام 2011 كان هول الصدمة يحدق بالجميع، كانت حالة من الإنكار والخوف من سقوط النظام.. وقتها كان صديقي الذي جاء بي من المطار قد وضعني في ميكروباص مغلق وقطع بنا مسافة 20 كيلومترا صعودا إلى القرى العلوية، وظل يهاتفني كل نصف ساعة تقريبا ليطمئن أني بخير بعدما دعاني للعشاء وأعادني لفندقي.
قبل أن اتصل بصديقي هذه المرة كنت أتوجس من الرد الذي سيأتي به الهاتف ” كأن يكون مثلا ” أن هذا الرقم لشخص غير موجود، لكن تبين أن كليهما بخير.
اللاذقية لقاء مع الشيخ
حين سألت الشيخ خليل الخطيب ، وهو مفكر إسلامي وأحد شيوخ الطائفة العلوية، قبل سنوات عن أسباب تأييد الطائفة للمؤسسة الرسمية والتصاقها بها قال لي “ليس كل العلويين أغنياء أو في السلطة، ولو اختار السوريون أي رئيس يحافظ على مواقف سورية الوطنية والقومية لأيدناه”.
الطريق إلى قرية الشيخ “مزار القطرية” يمر بالكثير من القرى العلوية، في كل منها تصطف صور ضحايا الصراع من الجيش الحكومي، شباب وقادة عسكريون من مختلف الأعمار والرتب. لا تخلو قرية من موكب تشييع، ولافتات التأييد للرئيس السوري.. أعداد هؤلاء تكشف عن الثمن الذي دفعته اللاذقية ومنطقة الساحل في الصراع، لا شك أن هناك قتلى آخرون “وشهداء” آخرون في مناطق أخرى لا صور لهم، لأنهم كانوا على الجانب الآخر من الصراع حتى لو كانوا مدنيين.
سألت الشيخ ، هل سيكون “ثمن الدم ” مزيدا من السلطة ؟ لم يتردد في الإجابة” من سقطوا ، كانوا يدافعون عن الوطن ، ولا فرق بين شهيد في حمص وشهيد في اللاذقية بالنسبة لي “.
فهل تمنح صور “الشهداء ” في قرى الساحل امتيازا في حال انتصار النظام على المعارضة المسلحة؟ يجيب الشيخ ” الطائفة العلوية لم تدفع الثمن بمفردها وهي من مكونات الشعب السوري، اما ارتفاع نسبة وجودها في الجيش فقد يكون اقتصاديا”.
قد يتفق كثيرون مع الشيخ الذي يدعو للتقريب بين المذاهب، لكني سمعت كلاما آخر ، وقرأت لافتات أخرى، تسطر ” لمذهبية الصراع” . وتشي بأن تسوية الصراع لن تكتمل دون مراجعة الماضي.
قال لي سائق تاكسي ” عندما تنتهي الحرب ربما لا تستطيع أن ترفع عينيك في سوري من الساحل”… سألت صديقا “مواليا ” من أهل الساحل: هل النظام في معرض تقديم تنازلات عندما تضع الحرب أوزارها؟ قال لي ” ما لم يقدمه النظام تحت الضغوط في السنتين الأوليين من الصراع، لن يقدمه بعد انتصاره”.
اللاذقية  خطاب الحرب
يصر الرسميون والموالون أن هذه “الأزمة” لم تكن طائفية في الأساس، وإنما أُريد لها أن تكون كذلك بفعل أطراف خارجية. يصر المعارضون أن ما حدث كان “انتفاضة سلمية” لم تبدأ عسكرتها إلا بعد أن استخدمت السلطة السلاح ضد المتظاهرين العزل. بين هؤلاء وأولئك، شرع النظام مؤخرا وبدعم الحليف الروسي في مبادرات مصالحات وتسويات جهوية” وفتح قنوات التنفيس . إذ ليس صدفة أن تنقل المحطات الإذاعية السورية الخاصة تصريحات معارضة الخارج، وبيانات “المرصد السوري لحقوق الإنسان” الذي يتخذ من لندن مقرا له.
في اللاذقية وقرى الساحل لن تسمع سوى خطاب الموالاة ، وإن كان لابد من نقد فسيبدو طفيفا لجماعات داخل النظام وليس لسياساته. يؤكد الموالون وجهة نظرهم بالإشارة إلى الأعداد التي استقبلتها تلك المناطق من النازحين من حمص وحلب ” لو كانت الحرب طائفية، فكيف يحتمي سكان حلب وحمص بـ”أعدائهم” ؟ ربما يكون ذلك صحيحا على المستوى الشعبي، لكنك حين تعلم أن “سوريا نازحا ” من المناطق المدمرة لابد أن يحصل على تصريح أمني للإقامة عند قريب أو صديق أو استئجار غرفة في منزل ، فستعرف أن الصورة ليست وردية مطلقا.
تعيش اللاذقية اجواء أمنية أكثر تشددا من دمشق، في دخولنا وخروجنا من المدينة استوقفتنا عشرة حواجز أمنية على الأقل لتدقق أوراقنا، لكن في ليلة مباراة الكلاسيكو بين ريال مدريد وبرشلونة، كانت المقاهي والنوادي مكتظة بالرواد، الذين يحملون شعارات الناديين ، دون اكتراث. على “الشاطئ الأزرق” رأيت عشرات العائلات القادمة من مناطق الداخل لقضاء عطلة على بحر اللاذقية، الذي ما يزال جميلا وأزرق حتى الآن.

المصدر: الغد