أحلام التغيير في الزمن الراكد

27
على مشارف عامٍ جديد، بحسب التقويم الميلادي، وأفول ما قبله، ينتاب المرء شعور ملتبس على علاقة بالزمن والعمر الذي انقضى، وما بقي من مساحةٍ في أعوامه المقبلة، يمكن أن يبني عليها أحلامَه ويعمّر مشاريعه. في هذه الأوقات التي يستعدّ فيها العالم للاحتفال بيوم رأس السنة، كل شعب بطريقته أو طرقه الخاصة، فإن شعوب منطقتنا التي لم تتوقف فيها طاحونة الحروب الخارجية والبينية في العقود الأخيرة، من الحرب اللبنانية الأهلية التي دامت أكثر من خمسة عشر عامًا، والاجتياح الإسرائيلي لبيروت وحرب المخيمات، وحربي الخليج، الأولى والثانية، والاجتياح العراقي للكويت، وسقوط بغداد والاحتلال الأميركي، وما تلاه من نزيف الأرواح والدماء والاقتصاد والثروات العراقية. هذا إذا استثنينا القضية الفلسطينية التي في الواقع لا يمكن عزلها، ثم تأتي مرحلة ما سمي الربيع العربي، حيث ضاقت القوالب جميعها على شعوب المنطقة، وتمكّن منها الفقر والجوع وانتهاك الكرامات واغتصاب الحقوق وسلب الإرادات والإقصاء عن تقرير المصير ورسم خطط المستقبل، والحرمان من الثروات الوطنية، وهدر المال العام وغيرها الكثير، تحت ضغط الاستبداد المتمكّن من المجال العام، استبداد سياسي وديني واجتماعي في تحالفٍ جبّارٍ، من الصعب تفتيته وفصم عراه، والبرهان قدّمته تجارب الربيع العربي في كل المناطق التي انتفضت فيها الشعوب. وقد دخلت شعوب منطقتنا

في حالة اليأس الجماعي، على الرغم مما تقدّمه كل موجة احتجاجاتٍ من دغدغة للأحلام، أو مداعبة للخيال، بإمكانية التغيير الحقيقي. فأين الخلل؟

كل ما قيل عن فشل التغيير وإجهاض الحلم الثوري وأحلام التغيير يحمل جزءًا من الحقيقة، من الجدير بنا عدم إهماله، فإذا كنّا قد استنكرنا، في البداية، خطاب المؤامرة التي اجتمع العالم كله من أجل تدبيرها وتنفيذها في سورية، علينا مراجعة حساباتنا ومواقفنا، فالواقع يقدّم البراهين الكثيفة على وجود مؤامرةٍ كل الأطراف ضالعة فيها، وكل الشعب دفع ثمنها، وما زالت مستمرة، وإذا اتهمت الطائفية السياسية من شريحة من الشعب، واستنكرتها شريحة أخرى في المقابل، فإنها موجودةٌ وفعلت فعلها في كل المناطق بين التابعة للنظام أو الواقعة تحت سيطرة المعارضة أو الفصائل القتالية، بل كان فعلها أخطر لما حازت عليه من دعم وتجييش وشحن طائفي، وسخر لها من المنابر الإعلامية والأقلام والمنابر الدينية أيضًا بدعمٍ خارجيٍّ، لم يبخل بالمال والعتاد بأشكاله كافة، وهذا يشكل جزءًا من المؤامرة. وإذا قيل إن النخبة الثقافية لم تتفق فيما بينها على الأساسيات، ولم تضع أمام عينيها هدفًا وترسم له خريطة طريق، بل انزلقت إلى الخلافات والاصطفافات السياسية، وتنكّرت لإرثها الثقافي والفكري، أو تناقضت معه في غالبيتها، كذلك لم نحد عن الحقيقة، وإذا كانت النخب التي نصّبت نفسها ممثلاً عن الشعب السوري، بدعم وسند خارجيين، قد قدّمت أداءً يمكن وصفه بالفاشل في أحسن حالاته، إذا لم نقل إنه مرتهن، وهو الأرجح، وأنها شوّهت القيم الديمقراطية، وشلّت الممارسة الديمقراطية، وجرّت الحراك الشعبي إلى ميادين الارتهان والاقتتال، فإن في هذا القول جانبًا كبيرًا من الحقيقة.
مع نهاية عام وبداية آخر، ونحن، الشعب السوري، نرنو إلى الحراك الشعبي اللبناني الذي أحدث، كما الحراك السوري، انقسامًا بشأن تسميته أيضًا، فاتهم بالعداء للشعب أو التنكر لقضاياه المحقة كل من لا يسميه ثورة، فإن القلق والخوف يستبدّ بنا ولكلٍّ أسبابُه. الأمر الوحيد المتفق عليه عند غالبية الشعب السوري هو النظر بعين الإعجاب والترقب القلِق لهذا الحراك السلمي  

المدني الذي أبقى على سلميته، وكان ما يزال يداري كل المحاولات الرامية إلى خرقه وتفتيته وحرفه عن سلميته، ولكن البوادر، في الأيام الأخيرة، تبعث على القلق والخوف من الانزلاق إلى الفوضى التي لا يمكن التكهن بمآلاتها، وإلى أين ستدفع البلاد المسنودة إلى بحصةٍ على شفير الهاوية، فواقع الحال أن البلدين متشابهان كتوأم، بل يمكن القول إنهما وجهان لعملة واحدة، لبنان الخمسين سنة الأخيرة، أو يمكن القول منذ بعد الاستقلال، قائم على الديمقراطية الزائفة، نظام محاصصة طائفية ترسّخه ديمقراطيةً مضلّلة، وفي سورية، هو بلد طائفي في العمق تحت ستارٍ من العلمانية الزائفة.
عندما قلتُ، في جلسةٍ مع صديقة لبنانية في بداية الحراك السوري، لا يوجد في سورية زواج مدني، شهقت إحدى الحاضرات: معقول؟ سورية بلد علماني. لا، يا عزيزتي، سورية ليست بلدًا علمانيًا إلاّ بالدستور والخطاب السياسي، بينما الواقع أننا شعب مقيّد بالقوانين والمرجعيات الدينية، ومحكومون بمنظومة العشيرة والقبيلة والعائلة، وقضية الزواج والميراث والأحوال الشخصية كلها قائمة على هذا الأساس. ولم يكن يعني الحكومات المتعاقبة أن تشتغل على هذا الأمر، فبقاء الحال كما هو، أو بالأجدى تكريسه، كان مطلبًا كي تسير الأمور على النحو الذي سارت عليه، ليبقى المجتمع غارقًا في استنقاعه الذي يشكل رصيد الأنظمة القمعية، فهي تعرف أكثر ما تعرف عدم شرعيتها وتحسب حساب المستقبل الذي تقول فيها الشعوب كلمتها، وعندما 

يصرخ الشعب، فإن الرصيد جاهز لاستخدامه بالطريقة التي استخدم بها. هذا وجه الشبه الفاقع بين الحالتين، اللبنانية والسورية. أما المشترك القوي بينهما فهو الفساد المستشري في بنى الدولة والمجتمع، الذي يشكل ركيزة الأنظمة القائمة على أركانٍ بعيدة عن الديمقراطية وإشراك الشعب فيها.
كشفت المرحلة البون الشاسع والهوة العميقة بين النخب وقاعدتها الشعبية، مع التقدير للتجارب التي خاضتها تلك النخب، والفواتير التي دفعتها وهي باهظة، وتجاربها النضالية كانت مكلفة، لكن هناك خللاً ما، تكشّف عن أن ما أحدثته من فرق في الوعي الشعبي كان ضئيلاً، بشكل لم يكن من الممكن البناء عليه. والشعارات التي أطلقت في بداية الحراك كانت كلمات يردّدها الناس في الشارع الثائر، من دون فهم حقيقي لمدلولها ومعناها. وما أظهرته السنوات التسع من تهتّك مجتمعي، وانقسام شاقولي وعرضي، لدى الشعب السوري، يدعو إلى القلق والخوف واليأس من الغد. لقد انقسمت النخب الثقافية والسياسية والمجتمعية، وهذا ما أنتجته الحرب الكارثية، وصار الكل ضد الكل، حتى الوجدان تشوّه، ولم يعد الضمير معنيًا بالقيم الإنسانية، ولا تحرّكه مشاعر التراحم أو الغيرة الإنسانية، فأمام مباريات المجازر، كان انقسام الجمهور يترسّخ. هذا يدين هنا ويصمت هناك، وذاك يدين هناك ويصمت هنا، والقتيل واحد هو الشعب السوري. كيف لضميرٍ أن يرى جسد طفل ممزّقا إلى أشلاء، ويشيح النظر وكأن الموت لم يمرّ عليه؟ كل ما أنتج هو ضغائن تخزن مؤونة للقادم والبصائر تصر على ظلامها. حتى أمام الموت الطبيعي، لم يسلم أحد من التشفّي، فانقسم الشعب بين شامت ومحرم للترحم على الميت، وآخر يدعو له بالرحمة والسكينة لروحه، آخرهم الراحل محمد شحرور، فأي ضلالٍ دفعت المحرقة السورية الناس إليه؟ وكيف يمكن الخروج منه؟ هل الزمن كفيلٌ بأن يغسل الضمائر ويفتح آفاق العقل؟ وهل رصد الحالة اللبنانية، وما يشكل لبنان بالنسبة لسورية وسورية بالنسبة للبنان، يمكن أن يدفع السوريين إلى مراجعة أدائهم السابق ومواقفهم؟
في لجّة الدماء والمستنقعات التي غرقت فيها شعوبنا، هل يمكن للزمن أن يتحرّك، وأن يكون للبدايات الجديدة مكان أمام النهايات الكارثية التي وصلنا إليها؟ هل بقي مكان للحلم في النفوس، بعد هذا الكم من الفواجع الجماعية والحياة المتردّية، والانتهاك الدائم للحياة والكرامة والأرواح والأوطان أمام أعين العالم والمجتمع الدولي الذي يصوغ سياسات العالم، ويصنع مصائره بادّعاء الحقوق الإنسانية وصونها؟ أسئلة حارقة وأجوبة خرساء يفرضها واقع الحال.

الكاتبة:سوسن جميل حسن- المصدر:العربي الجديد