أزمة هوية: من هو السوري؟

المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي المرصد السوري لحقوق الإنسان

40

الدراسات الاجتماعية بمختلف اتجاهاتها تشير إلى أن لكل مجتمع خصائص وسمات اجتماعية، وثقافية، وتاريخية متماثلة يجتمع حولها أفراد المجتمع الواحد، ومن هذا المنطلق يستمد الفرد شعوره العميق بالانتماء لهذا المجتمع أو ذاك ويدافع عن خصائصه، وسماته، وعقائده، ومستعد أن يدفع دمه من أجل الحاضن لهذا المجتمع على أرضه الذي ندعوه: وطنا.
وهذا الوطن الجامع يمنح لكل فرد هويته، التي تنسبه إليه، ويصطلح بتسميتها بالجنسية، فأنت سوري نسبة إلى أرض ضمن حدود جغرافية معينة، وإلى شعب يعيش فوق هذه الأرض. وتتغير هويتك تبعا لتحركات الخطوط المرسومة للحدود التي تحد الدول جراء الحروب وتمدد حدود دولة على حساب أخرى، فمن كان سوريا بالأمس يمكن أن يكون تركيا اليوم، كما وقع في لواء اسكندرون مثلا، أو إسرائيليا كما حصل في الجولان ( ولو أن سكان الجولان رفضوا الجنسية الإسرائيلية) أو لبنانيا، أو أردنيا، أو فلسطينيا بعد جريمة سايكس ـ بيكو. وهذا الأمر ينطبق على العالم أجمع فمن كان يوغسلافيا بالأمس بات كرواتيا، أو بوسنيا، ومن كان ألمانيا بات فرنسيا في تحركات حدود الألزاس واللورين بسبب الحروب بين البلدين وهكذا..، وهذه الهوية يمكن أن تتغير بحكم الهجرة القسرية، أو الطوعية من بلد إلى آخر، فمن كان إيرلانديا صار أمريكيا، ومن كان لبنانيا صار أرجنتينيا.. ومن كان برتغاليا صار برازيليا..
الهويات القاتلة: لا شك أن الكاتب الكبير أمين معلوف عبر عنها ببراعة عندما تتجزأ الهوية من هوية جامعة عامة، إلى هويات فرعية تصبح أقوى من الهوية الجامعة وتتناحر الهويات فيما بينها لأسباب عرقية، أو دينية، أو مناطقية، أو مصلحية. وتتعصب لها ومستعدة لسفك الدماء من أجلها فتندلع الحروب الأهلية كما حصل في لبنان بين الطوائف المختلفة مثلا، أو في السودان مؤخرا بين شماله وجنوبه، أو إسبانيا بين جمهوريين وملكيين خلال ثلاثينيات القرن الماضي، أو الهند مع بدايات الاستقلال بين الهندوس والمسلمين وانسلاخ الباكستان عنها، أو في رواند بين الهوتو والتوتسي، أو أمريكا بين الجنوب المعادي لتحرير « العبيد» والشمال المؤيد لقرار إبراهام لنكولن بتحريرهم.. ولو تم الانفصال لكان للأمريكي الشمالي هوية تختلف عن هوية الأمريكي الجنوبي. وما حصل مؤخرا من اقتحام للكابتول ليس سوى صورة أخرى لهوية بيضاء تحاول فرض سيطرتها على باقي الأعراق. وقد عبر أكثر من مسؤول أن لو كان المهاجمون من السود أو المسلمين لارتكبت بحقهم مذبحة كبيرة ووصموا بالإرهاب وتدمير الديمقراطية الامريكية.

عندما تتجزأ الهوية من هوية جامعة عامة، إلى هويات فرعية تصبح أقوى من الهوية الجامعة وتتناحر الهويات فيما بينها لأسباب عرقية، أو دينية، أو مناطقية، أو مصلحية

الهوية السورية: سوريا بحدودها الحالية ( حدود ما بعد حرب 67) تضم مجتمعا يضم مكونات متعددة المعتقدات والأعراق منهم من جاؤوا لاجئين (كالأرمن الذين لجأوا إلى سوريا إبان الحرب العالمية الأولى وتمركزوا بشكل أساسي في حلب ومعظمهم من الطائفة الأرثوذكسية، لم ينخرطوا في الثورة السورية لكنهم يقفون إلى جانب النظام) ومنهم من بقايا السلطنة العثمانية (كالتركمان الذين انخرطوا في الثورة ضد النظام وشكلوا ألوية عسكرية كلواء السلطان مراد، وهم مسلمون سنة). الآشوريون، والكلدان، والسريان، منهم من هرب من العراق إلى سوريا، أو من تركيا، ومنهم متأصل في مناطق الشمال الشرقي في منطقة الرقة منذ القدم من العهد الآشوري. وجميعهم من الطائفة المسيحية السريانية، متحالفون مع الأكراد في الشمال، وشكلوا وحدات عسكرية واجهت بشكل أساسي إرهابي داعش وهم أقرب للنظام. الشركس مكون عرقي هاجروا من هضبة القفقاس إلى سوريا في نهايات القرن التاسع عشر بعد أن حاربتهم روسيا وهم من الإسلام السنة، وتمركزوا في مدينة القنيطرة ثم نزحوا بعد حرب 67 إلى باقي المناطق في سوريا، مع اندلاع الثورة السورية حافظوا على الحياد، ثم بدأت هجرتهم المعاكسة إلى القفقاس ومناطق أخرى. الكرد ويشكلون أكبر مكون عرقي بعد العرب منهم متأصل منذ القدم، ومنهم من تواجد منذ العهد الأيوبي، ومنهم من لجأ من تركيا، يحتلون اليوم ثلث مساحة سوريا ويدعو جزء كبير منهم للانفصال أو الفيدرالية على أقل تقدير وهم أقرب للنظام، وجزء آخر التحق بالثورة ضد النظام.
المسيحيون في سوريا بكنائسهم المختلفة (كاثوليك، ارثوذكس، بروتستانت) يقف جلهم في تحالف إلى جانب النظام، المسلمون بطوائفهم المختلفة ( سنة، شيعة، علويون، اسماعيليون، موحدون) هم من العرب ويشكلون الغالبية العظمى في سوريا تسيطر عليهم الطائفة العلوية كباقي الطوائف والأعراق منذ نصف قرن بعد انقلاب حافظ الأسد، الحكم الذي اعتمد على تحالف الطائفة مع تحالف « الأقليات» وجزء من المسلمين السنة والعشائر. هذه المكونات المختلفة للمجتمع السوري التي تشبه إلى حد بعيد مكونات المجتمعات الأخرى في البلدان المجاورة كانت تتعايش فيما بينها تحت مظلة الدولة المركزية المسيطرة منذ المد الإسلامي من أموية، وعباسية، وفاطمية، وأيوبية، ومملوكية، وعثمانية، وفرنسية، ومع كل دولة تتمدد الحدود أو تنحسر في حركة مد وجزر إلى أن نشأت سوريا بحدودها الحالية بعد الاستقلال عن فرنسا في العام 1946 لتصبح جمهورية مستقلة حكمتها دولة مدنية ( فترات وجيزة لا تتعدى الثماني سنوات) وما تبقى عسكرية بانقلابات متتالية، جاء الأخير منها من الطائفة العلوية التي ليست بالضرورة تقف كلها وراء حكم العائلة الاسدية فالخلافات فيما بينها أيضا عميقة (آل جديد مع آل الأسد أو آل مخلوف مؤخرا مع آل الأسد) مع قيام الثورة ضد النظام الطائفي، طفت الخلافات العرقية والمذهبية، وبرزت تيارات سياسية مسلحة كل يدعو لنظام سياسي معين، وهوية مختلفة، فالميليشيات الإسلامية المتطرفة ( داعش والنصرة وأخواتها) تدعو لدولة إسلامية (النصرة وأخواتها تسيطر على إدلب، وداعش عادت من جديد في البادية السورية) وتيارات طائفية تدعو لتقسيم على أساس طائفي، أو عرقي، معيدين سيرة التقسيم الاستعماري الفرنسي السابق، وتيارات علمانية تدعو لقيام دولة مدنية ديمقراطية علمانية، وكل هذه القوى تتصارع فيما بينها تغذيها تدخلات خارجية (أمريكا، روسيا، إيران، تركيا) لكل منها مصلحة خاصة فيها، أما السوري غير المنتمي، أو الناجي بجلده من أتون هذه الحرب العبثية التي أججها النظام فهرب إلى خارج الحدود بأعداد مليونية غيرت الخارطة الديمغرافية، جزء كبير منهم بات له هويات مختلفة، في بلاد أخرى وغير مستعد للعودة للهوية السورية. وربما كانت هذه خطة النظام ليكون المجتمع السوري « أكثر تجانسا» كما صرح بشار الأسد.

الكاتب: رياض معسعس – المصدر: القدس العربي