“أنا في سورية وأريد العودة إلى وطني”

المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي المرصد السوري لحقوق الإنسان

39

كتب صحافي سوري على صفحته في “فيسبوك” “أنا في سورية وأريد العودة إلى وطني”. لا يوجد رد أبلغ من هذه العبارة على “المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين السوريين”. استطاع نظام الأسد، بمسعى ثابت يجمع بين الاستبداد والفساد والتمييز والعنف، أن يحقق اغتراباً بين السوري وبلده، أكان السوري خارج سورية أو في بلده، حتى بات السوري في الداخل لا يشعر بأنه في وطنه. يريد النظام وحلفاؤه من المؤتمر المذكور أن يكون أحد مداخل التطبيع بين طغمة الأسد والمجتمع السوري الذي أمعنت في تمزيقه. في الحق، هذا المؤتمر هو التكملة الطبيعية للكذبة القديمة التي فسّر بها الأسد هجرة السوريين بالملايين إلى أطراف المعمورة، والتي تقول إنهم “يفرّون من الإرهابيين”. التتمة الطبيعية لهذه الكذبة أن يعود السوريون بعد طرد “الإرهابيين” وانتصار “البطل” المتحمس للفوز في انتخابات الرئاسة في الربيع المقبل (بين 16 إبريل/ نيسان و16 مايو/ أيار 2021)، الموعد الذي حدّدته السلطة للانتخابات.

ينبغي أن يشعر السوريون في الداخل بأنهم في وطنهم، قبل أن ينتظر أحدٌ عودةً طوعيةً للاجئين

على هذا، جعل فشل المؤتمر الكذبة القديمة تبدو عاريةً في القاعة، ما دفع رأس النظام إلى سترها بالتأكيد أن عدم عودة اللاجئين ناجم عن “العقوبات اللاشرعية” وعن تحويل “قضيتهم الإنسانية إلى ورقة للمساومة السياسية”. أما نائب وزير الخارجية، فيصل المقداد، فقد اجتهد برأي آخر، يقول إن مسؤولية عدم عودة اللاجئين تقع على فيروس كوفيد 19. هكذا نفهم أن سبب فرار السوريين من بلدهم هو الخوف من الإرهابيين، وسبب عدم عودتهم هي العقوبات وكورونا والتلاعب السياسي لبعض الدول. لا محل ولا دور إذن للنظام نفسه في كل هذه العملية.
السهو التقني خلال إحدى الاستراحات جعل كلام بعض السوريين الذين يقومون بمهمة الترجمة في المؤتمر مسموعاً من دون علم منهم، الشيء الذي نقل إلى العالم آراءهم الحقيقية. قال أحد هؤلاء المترجمين، في لحظة تحرّرهم من الرقابة، إنه لو أتيح للسوريين الباقين أن يخرجوا لخرجوا غداً. من الطريف أن تسمع هذا القول من شخصٍ يشارك في مؤتمر لعودة اللاجئين. ولكن الحقيقة أنه قول يعبّر عن حال غالبية السوريين المتورّطين في الحياة تحت ظل نظام الأسد.

اكتشف السوريون أن الشعارات كانت تترجم، طوال عقود، إلى مدّخرات بمليارات الدولارات باسم أبناء النظام في الجنّات الضريبية، أو ملاجئ السرية المالية

لا تخفى على أحد قائمة العوامل التي تدفع السوري اليوم إلى الهجرة، من الاعتقال السياسي الذي يفتح فمه لابتلاع أي سوري في الداخل، من دون أي ضمان لخروجه حياً، إلى العنف الذي لا يوفر أحداً، إلى التشبيح الذي يسرق حقوق الناس البسطاء أو الأقل قوة، على أيدي زعرانٍ تسندهم الأجهزة الأمنية، إلى البؤس الاقتصادي الذي وصل إليه الشعب السوري على يد نظامٍ لم يكن يرضى بشعار أقل من الوحدة والحرية والاشتراكية مجتمعة، فاكتشف السوريون أن هذه الشعارات كانت تترجم، طوال عقود، إلى مدخرات بمليارات الدولارات باسم أبناء النظام في الجنّات الضريبية أو ملاجئ السرية المالية، مثل بنما أو سويسرا أو الولايات المتحدة الأميركية.
يقول بشار الأسد، في خطابه أمام المؤتمر، إن “موضوع اللاجئين في سورية هو قضية مفتعلة”. لم ينتبه كاتب الخطاب إلى التعارض بين أن تكون قضية اللاجئين مفتعلة وأن يكون السوريون قد فرّوا للنجاة بأنفسهم من الإرهابيين. هل فرّ السوريون من بلدهم لأسباب وجيهة أم أن فرارهم كان افتعالاً؟ لم يكن المنطق، في أي يوم، مرجعاً لكلام سياسيين يرون البلاد من منظور مصالحهم الخاصة. ولن تجد طغمة النظام تناقضاً بين دعوتها اللاجئين إلى العودة، وفرض ضريبة مالية باهظة على من يعود. كما لن تجد الطغمة التي فرّ الناس من حكمها وعنفها المنفلت مشكلة في أن تدعو اللاجئين الفارّين إلى العودة. 
غالبية اللاجئين السوريين يرغبون، ككل اللاجئين في العالم، بالعودة إلى وطنهم، لكن السؤال الذي يجتهد الأسد ودائرته في إشاحة النظر عنه: من يجرؤ من السوريين على أن يعود طوعاً إلى بلدٍ تحكمه طغمة أوصلت البلاد إلى هذه الحال؟ يعلم كل لاجئ سوري أن عودته محفوفة بخطر الاعتقال المفتوح على الموت، وأن عودته تعني أن يُكمل حياته وهو يدفع ثمن موقفه من الطغمة التي تدرك جيداً، على الضد من مزاعمها، أن السوريين فرّوا من آليات حكمها وبطشها وتشبيح أزلامها.

لن تجد طغمة النظام تناقضاً بين دعوتها اللاجئين إلى العودة، وفرض ضريبة مالية باهظة على من يعود

ما يحرّك قضية اللاجئين السوريين اليوم هو اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التي سيكون للاجئين السوريين دور فيها وهم خارج قبضة الأسد. تخشى طغمة الأسد أن يعبّر السوريون عن خيارهم بعيداً عن إملاءاتها، لذلك فإن عودة اللاجئين، ولو اضطر النظام إلى وضعهم في خيم بسبب دمار بيوتهم ومدنهم وبلداتهم، كما صرّح محافظ ريف دمشق، مطلوبة اليوم للنظام، لكي يكون هؤلاء في لحظة الانتخابات تحت سيطرة أجهزة الأسد. ليس هناك من يشك اليوم في أن قضية اللاجئين السوريين، التي اعتبرها رأس النظام في خطابه “قضية إنسانية ووطنية”، لا تنطوي، في منظوره، على شيءٍ من الإنسانية والوطنية سوى بقدر ما تخدم مسعاه إلى ولاية جديدة، بعد أن ألمح الاتحاد الأوروبي، في اجتماع له في بروكسل أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي، إلى موافقةٍ أوليةٍ على ترشّح الأسد للانتخابات الرئاسية شريطة إشراك المعارضة في الحكم.
يبقى السؤال: هل حقاً تريد طغمة الأسد عودة اللاجئين السوريين؟ ألم تر فيهم “بيئة حاضنة” للإرهاب؟ ألم يحبّذ رأس النظام خروج معارضيه من البلد لأن في هذا تحقيقاً لفكرته عن المجتمع المتجانس؟ في الحق، عودة اللاجئين لا تعني طغمة النظام إلا بقدر ما يمكن لعودة نسبة منهم أن تعطي انطباعاً بحل الموضوع السوري.
ينبغي أن يشعر السوريون في الداخل بأنهم في وطنهم، قبل أن ينتظر أحدٌ عودةً طوعيةً للاجئين. ولا يحتاج الأمر كثيراً كي يشعر المرء بأنه في وطنه، يحتاج فقط إلى وجود حدودٍ معقولةٍ من دولة القانون، إلى اطمئنان السوري، وهو في بلده، أن مؤسسة الدولة تحميه حين يحترم القانون، وأن القانون ليس ورقةً يمكن لأي شبيحٍ أن يعجكها ويرميها في وجه خصمه الذي سوف يجد الدولة في صف الشبّيح، وليست في صف القانون. لكن طغمة الأسد لا تستطيع توفير هذا الحد الأولي من مفهوم الدولة، ولا تجد، مع ذلك، قيمةً أخلاقيةً تردعها عن الاستمرار في الحكم، وعن دعوة الفارّين من حكمها إلى العودة.

 

 

الكاتب: راتب شعبو – المصدر: العربي الجديد