أهداف الحملة الإعلامية الروسية على الأسد

28

خلال الأسابيع الأخيرة، ظهرت سلسلة من التعليقات الصادرة عن أصوات مميزة ومطبوعات روسية بارزة موجهةً الانتقادات ضد النظام السوري ورئيسه بشار الأسد. فمن وكالة «ريا فان» الإخبارية الاتحادية إلى صحيفة «برافدا»، ومن صحيفة «كومرسانت» حتى مؤسسة «نادي فالداي» البحثية، كالت التحليلات مختلف الاتهامات ضد النظام السوري بالفساد، ودعم أمراء الحرب، وانعدام الكفاءة، فضلاً عن الهوس الكامن بتحقيق الأهداف العسكرية غير المتسمة بالواقعية على حساب الموارد المتضائلة، وأهواء إعادة الإعمار، وخيالات الإصلاحات السياسية والاقتصادية.
وخلص استطلاع الرأي العام في المناطق الخاضعة لسيطرة الرئيس السوري، وأجرته منظمة ذات صلات بالسيد يفغيني بريغوزين – الصديق المقرب من الرئيس فلاديمير بوتين، ومالك «مجموعة فاغنر» للخدمات الدفاعية – أن نسبة 31% فقط من السكان تؤيد الرئيس السوري وسياساته، في حين أن النسبة المتبقية من السكان يرون أن الفساد الحكومي من القضايا الخطيرة للغاية، وألقت نسبة 60% منهم باللائمة على تكاليف المعيشة غير المقبولة، وأعربت نسبة 54% عن قرارها عدم التصويت لصالح بشار الأسد في الانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها في عام 2021 المقبل.
وكان الظهور العجيب لمثل هذا التدفق غير المتوقف من الكتابات العامة والمتسمة بالدقة والأمانة عن الأوضاع في سوريا من قلب روسيا مفاجأة كبيرة في حد ذاته، وكذلك كان الحذف المفاجئ للعديد من تلك التعليقات والتحليلات عقب أيام فقط من ظهورها في المجال العام. وليس هذا من عمل القراصنة أو المتسللين كما زعم البعض في أوقات لاحقة، فهل كانت حملة موجهة ومنسقة تهدف إلى البعث برسالة محددة وموجهة رأساً من الكرملين إلى قلب دمشق؟ أو ربما كانت بكل بساطة إفاقة مفاجئة من جانب روسيا على واقع المستنقع الآسن الذي زحفت إليه بملء إرادتها؟
ربما تكمن الحقيقة في مكان ما بين هذين السيناريوهين. لكن، وبعد كل شيء، اعتمد الكرملين مسارات أخرى متعددة لتوجيه الإهانات إلى الأسد من قبل، تماماً كما حدث في زيارة الرئيس الروسي الخاصة إلى قاعدة حميميم الجوية السورية في ديسمبر (كانون الأول) من عام 2017، عندما جرى إقصاء الرئيس السوري بصورة متعمدة ومنعه من المسير جنباً إلى جنب مع الرئيس الروسي. وكذلك في رحلات الزيارة السورية الرسمية لموسكو، حيث كانت الأعلام الوطنية السورية غائبة بصورة واضحة عن الصور المشتركة التي جمعت فلاديمير بوتين مع الأسد. ومنذ التدخل العسكري الروسي في الأزمة السورية في سبتمبر (أيلول) من عام 2015 – ذلك التدخل الذي من دون شك كان سبباً في إنقاذ النظام السوري من الانهيار الوشيك – ظل نظام الأسد يقوم بدور الشريك المزعج للغاية وغير المتعاون تماماً بالنسبة إلى موسكو التي تواصل المطالبة بالكثير في مقابل منح القليل، هذا إن منحت أي شيء من الأساس. وعلى الرغم من الوضعية العالمية للنظام السوري بوصفه أكبر نظام حكم يرتكب جرائم الحرب في القرن الحادي والعشرين، لا يمكن لأحد ملامة روسيا على إحباطها الشديد من رفض الشريك السوري مواصلة اللعب وفق قواعدها ومحاولة إصلاح الفوضى العارمة التي أحدثها حتى الآن في سوريا.
وخلال الشهور الستة الماضية، انزلق الاقتصاد السوري إلى هاوية الأزمة، مدفوعاً في ذلك بالانهيار المالي الذي شهده لبنان المجاور، ولكنه تفاقم إثر الفساد المستشري، وسوء الإدارة، والإصرار غير المبرر على منح الأولويات للحملات العسكرية الباهظة التكاليف. ولقد ارتفع التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، فضلاً عن أزمة القمح التي تتحدى مقدرة المواطن السوري العادي على شراء السلعة الرئيسية في البلاد. ولقد رفع النظام السوري الدعم عن المواد الأساسية الأخرى، مع تقليص دور قطاع الأعمال الصغيرة. ويبدو أن شيوع وباء «كورونا» في المناطق الخاضعة للنظام، مع احتمالات دخول قانون «قيصر» الأميركي حيز التنفيذ الفعلي في الولايات المتحدة اعتباراً من يونيو (حزيران) المقبل، سوف يكون له تأثير كبير على النظام السوري خلال الأسابيع والأشهر المقبلة. وفي الأثناء ذاتها، يعاني قطاع النفط والغاز في سوريا مشكلات كبيرة، ويرجع ذلك بصورة جزئية إلى الاضطرابات الناجمة عن هجمات تنظيم «داعش» الإرهابي في الصحراء السورية الوسطى، وإلى سحب المنتجات الهيدروكربونية من المصادر الحكومية بواسطة أمراء الحرب وكبار رجال الأعمال لبيعها في السوق السوداء في لبنان. وفي غضون ذلك، توقفت مشاريع إعادة الأعمار البارزة تماماً، وأُحيلت إلى حملات العلاقات العامة العرضية مع القليل من أعمال البناء والتشييد ذات المغزى.

ومن الناحية العسكرية، يواصل نظام الأسد منح الأولوية لحملته في المناطق الخاضعة لقوى المعارضة في إدلب في حين يستمر في تجاهل استقرار الأراضي الخاضعة لحكمه، أو مواجهة إعادة ظهور تنظيم «داعش»، أو حتى التفكير في استثمار الأموال في توجهات غير عسكرية. ولقد تحسن موقف النظام السوري إزاء النقص الطويل الأمد والحاد في القوى البشرية، وذلك لبعض الوقت من خلال إضفاء صفة الميليشيات على القوات المسلحة السورية، بيد أن القرار الحكومي بحل (تفكيك) الجيش العربي السوري قد ألحق الضعف بالمصدر الأساسي للنفوذ الروسي في البلاد. ومنذ عام 2015 كانت جهود إعادة المركزية وإعادة هيكلة الجيش العربي السوري من المكونات الرئيسية في التدخل العسكري الروسي في سوريا، ولكنها تواصل الصراع لقاء التحديات التي تفرضها النخبة من كبار رجال الأعمال، والرامية إلى الإبقاء على الميليشيات ذات الصلة الوثيقة بها والاحتفاظ بها مستقلة بصورة جزئية على الأقل.
ويبرز الفساد كإحدى المسائل ذات الحساسية الكبيرة لدى روسيا في سوريا، نظراً لتأثيرها المزعج للغاية على قدرة النظام السوري على العمل بكل كفاءة، وشفافية، وبطريقة تزيد من احتمالات جذب الاستثمارات الأجنبية. وبعد تأمين استمرار النظام السوري مع إضعاف خصومه الأكثر التزاماً على الصعيد الجيوسياسي، جرى إيلاء تركيز روسيا على محاولة إعادة سوريا إلى حظيرة المجتمع الدولي. وتعد المتطلبات المالية لعمليات إعادة الإعمار الهادفة – والتي تقدر بنحو 300 مليار دولار على أقل تقدير – تفوق بكثير قدرات الاقتصادات السورية والروسية والإيرانية مجتمعة. ولذلك، هناك حاجة ماسة للغاية لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى سوريا. ولكن بعيداً عن احتمالات العقوبات الأميركية الثانوية التي قد يأتي بها قانون «قيصر» الأميركي حال سريانه، فإن اقتصاد النظام السوري يتحرك فعلياً وحرفياً على عجلات الفساد ولا يمكن أن يكون أقل جذباً للاستثمارات الخارجية منه الآن. وترتفع وتيرة الاقتتال العام والمرير بين النخبة المحسوبة على دوائر النظام السوري، كما هو واضح من فيديو رجل الأعمال السوري رامي مخلوف على حسابه في «فيسبوك» بتاريخ 30 أبريل (نيسان) من العام الجاري، فضلاً عن سلسلة من الاحتجاجات والاحتجاجات المناوئة والمقالات الافتتاحية في مختلف الصحف الموالية لمنافسه الأول رجل الأعمال سامر فوز، وكلها تعكس بوضوح نظام الحكم الضعيف، والهش، والمنقسم على ذاته، والمفعم بالفساد، والذي يضمن بشكل فعلي لأي مستثمر أن يخسر أمواله.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، تعد محاولات روسيا الناجحة بدرجة كبيرة في عرقلة ما تسمى عملية جنيف، ولتمكين الآليات الجديدة والبديلة على غرار آستانة، واللجنة الدستورية السورية في جنيف، قد سببت إنقاذ النظام السوري من آفاق المحاولات الدولية الجدية في فرض التغييرات السياسية ذات المغزى على دمشق. ولقد جرى تحييد موقف الأمم المتحدة داخل سوريا بصورة فعالة، وأُجبرت في الآونة الراهنة على إدارة اللجنة الدستورية التي تعد مقدرتها على إحداث أي تغيير في سوريا منعدمة المعنى والمغزى من الناحية العملية.
ولكنها، رغم ذلك، تحظى بغطاء معتبر من الشرعية الدولية الحقيقية، ومن ثم فإن رفض النظام الحاكم من التعامل معها بالجدية المطلوبة مع تكرار ما سلف من أعمال الإفساد قد أثار حفيظة، وربما غضب، صناع السياسات في روسيا. ومع حالة الإرهاق الفعلية التي تعتري النخب الغربية من الأزمة السورية راهناً، فإن المشاركة الحقيقية والبنّاءة من جانب النظام السوري في عملية مثل اللجنة الدستورية السورية من شأنه أن يتيح مجالاً سياسياً جديداً أمام الاستراتيجية الدبلوماسية الروسية. لكنّ التنازلات، وإنْ كانت بأي درجة طفيفة، تتعارض تماماً مع الأصول التي يرتكن إليها نظام الأسد.
كانت المقاربة الروسية إزاء الأزمة السورية تتسم بالوحشية وانعدام الرحمة والتعاطف تماماً. ولقد كانت روسيا مسؤولة بصورة مباشرة، ومتواطئة كذلك، في عدد لا يُحصى من جرائم الحرب التي ارتُكبت في سوريا منذ تدخلها عسكرياً في عام 2015. لكن، وعلى الرغم من ذلك، لا تزال موسكو تسعى حالياً لأن تستعيد دمشق مكانها المفقود على الساحة الدولية. ومع ذلك، فإن حالة اللامبالاة الواضحة من النظام السوري في استعادة الشرعية الدولية، وإخفاقاته الداخلية الشديدة، سوف تستمر في إعاقة روسيا عن بلوغ غاياتها النهائية.
وعندما تحركت روسيا على الصعيد العلني إعراباً عن عدم رضاها عمّا يجري في سوريا، تماماً كما يبدو خلال الأسابيع الأخيرة، لا تزال أمامنا فرصة سانحة، وإن كانت صغيرة، للدبلوماسية الانتقائية. ولا مجال لسوء الفهم في هذا السياق: فإن احتمالات التخلي الروسي راهناً عن بشار الأسد ونظامه الحاكم لصالح أي رئيس آخر يخرج من رحم التسويات السياسية المتوقعة هو احتمال صفري النتيجة. بيد أن الاستعداد الروسي بشأن التفاوض حول قضايا أخرى من المستوى الثاني هو من الاحتمالات القائمة، شريطة أن يعرب الجانب السوري عن جديته والتزامه في هذا السياق.
ولكن، إن تركنا مثل هذه الفرص تنسلّ انسلال الماء الزلال من بين أيادينا، فإن حالة الوضع الراهن تبقى هي الموقف الذي يتسنى للقيادة الروسية تحمله، والتعامل معه، وإدارته على النحو الواجب، وذلك على الرغم من طبيعة الوضع الراهن الفوضوية وغير القابلة للتنبؤ بمجرياتها في كثير من الأحيان.

 

 

 

الكاتب:شارلز ليستر – المصدر:الشرق الاوسط