أوروبا وحدها أمام تسونامي اللاجئين وأميركا لا تريد أن تكون جزءاً من الحل

65

بعد الهجوم الإرهابي الثلاثي في باريس، سارعت الحكومة اليمينية الجديدة في وارسو إلى ربط هذه الجريمة بسياسة الاتحاد الأوروبي، وهددت برفض حصتها من اللاجئين، ووجد رئيس حكومة سلوفاكيا روبرت فيتسو في موقف بولندا فرصة التقطها ليعلن هو الآخر أنه لن يقبل حصة بلاده من اللاجئين كما ولن يستقبل أحداً منهم على الإطلاق، وفي تصريح نقلته أسبوعية «دير شبيغل» قال «إن سياسة الحصص لا تؤدي سوى إلى زيادة الحوافز على الهجرة»، هذا فيما كان رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك نعى حتى قبل حصول الاعتداء الإرهابي في باريس منظومة (شنغن) بقوله» إن العد التنازلي لحماية شنغن يوشك على نهايته».

تكشف دراسة أعدتها المؤسسة الألمانية (Bertelsmann) أن «إلغاء العمل بمنظومة «شنغن» سيكلف الاتحاد الأوروبي 1,4 تريليون يورو في السنوات العشر المقبلة»، فيما ستبلغ خسائر ألمانيا وحدها 235 بليون يورو للفترة 2015-2025.

النمسا وألمانيا وسلوفينا وهنغاريا والسويد شددت جميعها من إجراءات الرقابة والأمن على حدودها وأعادت الرقابة والتفتيش في تعارض مع اتفاق التنقل الحر بين الدول الأعضاء، كما أعلنت بلجيكا غلق حدودها موقتاً مع فرنسا لدواع أمنية ومخافة موجة من اللاجئين، وأخرجت باريس على عجل من إدراج مكاتب وزارة العدل خطة طواها النسيان، تقضي بحبس كل من يشتبه به بالإرهاب والترويج للتنظيمات الجهادية، وتفعيل التعاون والتنسيق بين منظومات الشرطة وأجهزة الاستخبارات في الدول الأعضاء، مع فرض الرقابة المشددة على الحدود.

 

تضامن وتصدعات

خلف الدعوات للتضامن مع الشعب الفرنسي في محنته الجديدة مع الإرهاب، تبدت الشقوق في جدران منظومة القيم الأوروبية و «تفتحت» أزهارها لتكشف عن ثلاثة تصدعات جدية استفزت تساؤلات ملحة عما إذا كان الأوروبيون سيتمكنون من ترميمها، ومنع توسع أبعادها ونطاقها، وابتداع خطوات توقف الانهيار الشامل كمقدمة للخروج بأتحاد أقوى، وبمنظومة قيم تصمد في مواجهة متغيرات جيوبوليتيكية خطيرة وإرهاب معولم بحيث لا تترنح أمام تسونامي التحديات والارتدادات التي تفرزها مجتمعات الشرق الأوسط الغارقة في نزاعات مسلحة وحروب أهلية.

التصدع الأول يتمثل في الانقسام الحاصل بين القوميين المتشددين المناهضين للمشروع الأوروبي الذين يدعون إلى إغلاق الحدود الوطنية وإعادة العمل بإجراءات الرقابة والتفتيش، والقوى السياسية والفئات المجتمعية التي تلح لوضع سياسة أوروبية موحدة لمواجهة الآتي الأعظم.

القضية الأكثر جذباً لاهتمام الفرنسيين والأوروبيـــين في شكل عام في الظرف الراهن، هي ما إذا كان الإرهاب سيشحن حزب مارين لوبين (الجبهة الوطنية) والأحزاب الأخرى المتشددة بجرعات جديدة مــن التأييد والدعم الشعبي في سياق اتساع دور وحضور أحزاب جاذبة لما يسميه المحللون «الغالبيات المهددة» التي تتشكل من مجموعات كبيرة من الناس خائفة ومتوجسة من التغييرات الديموغرافية، ما يدفعها إلى ترداد فعل وسلوك ظلا حكراً حتى الآن على الأقليات والهويات الفرعية.

رينو كاميو مثقف فرنسي منجذب بقوة لليمين القومي الفرنسي المتشدد يطرح هذه الفكرة في كتابه «الاستبدال الكبير» ويقول «إن فرنسا مقبلة على أكبر عملية تغيير ديموغرافي في تاريخها، إذ إن السكان الفرنسيين سيحل محلهم في غضون جيل او جيلين اقليات يمكن تلمس وجودها من الآن بسبب الهجرة ومعدلات النمو المرتفعة في أوساط المهاجرين من العرب والمسلمين».

يسجل كاميو ظواهر جديدة تتبلور في المجتمعات الأوروبية وتكتسب مع مرور الأيام أبعاداً تزداد خطورتها مع فقدان المواطن الأوروبي روحانيته وهويته الثقافية، بفعل ثلاث ايديولوجيات تزدهر برأيه في المراحل الانتقالية وهي:

عولمة الرأسمال والمواقف المناهضة للعولمة التي يتبناها ويروج لها اليساريون والفوضويون، والأسلمة.

تتغذى هذه النزعات من الشهرة الواسعة والشعبية المتزايدة التي تحظى بها حركات مثل (PEGIDA) الألمانية، وتيار (البديل من أجل ألمانيا)، والحزب الشعبي الدنماركي، وحركة الديموقراطيين السويديين والبريطانيين(UKIP). هذه الحركات والتيارات بدأت تترك تأثيرات ملموسة حتى على شعارات وبرامج الأحزاب التقليدية وبالتالي باتت إلى حد ما ترسم وتحدد وتصيغ أشكال الرد الأوروبي على هذا التحدي الجديد.

 

الإرهاب: رؤى متباينة

التصدع الثاني يتمحور حول فكرة ورؤية الحرب ضد الإرهاب. الرئيس فرنسوا هولاند ورئيس حكومته مانويل فالس يلوذان بخطاب ولغة اعتاد السياسيون اللجوء إلى استخدامهما في حالة الطوارئ، فهما يصنفان «داعش» بأنه «جيش من الإرهابيين»، ما يعني أنهما يعلنان الحرب الكونية على هذا التنظيم والارهاب المعولم في شكل عام، هذا يعيد الذاكرة إلى موقف فرنسا وغيرها من الدول الغربية ومعارضتها وانتقاداتها اللاذعة للولايات المتحدة التي كانت أعلنت حرباً شاملة ضد الإرهاب بعد «11 سبتمبر»، وقد استغل الكرملين ومن في فلكه هذه المعارضة واستخدمها ذريعة لتكرار اتهام الغرب بسياسة المعايير المزدوجة.

في دراسة تحليلية أعدها الباحثان في المجلس الأوروبي للشؤون الخارجية مارك لينارد وفيسلا تشيرنيفا ونشرتها جريدة «نيويورك تايمز»، قالا انه إذا كان «داعش» خطط ونفذ هجمات باريس من سورية والعراق، فإن خطاب الحرب سيكون مناسباً في شكل اكبر مما مع «القاعدة» كون التنظيم الأول يمثل في الواقع العملي شبه دولة» وتساءلا «لو تحالفت ثلاث أو أربع دول مع فرنسا وقامت جميعها بشن حرب ضد «داعش» في البلدين المذكورين، فكيف اذاً ستتعامل دول أخرى لا تشارك في التحالف مع هذه الحرب؟».

تزعمت الولايات المتحدة بعد جريمتي 11 أيلول حرباً شاملة ضد الارهاب بدلت في شكلها وجوهرها المبادئ والقواعد المألوفة في القانون الدولي لجهة الأهداف الشرعية، والاعتقال، والاستجواب وغيرها، فكيف ستتصرف فرنسا بصفتها المستهدفة في شكل واضح من الجماعات الجهادية وعلى رأسها «داعش» و «القاعدة» في هذه الحالة. هل ستحارب في إطار الشرعية الدولية بعد أن تضع في متناول المجتمع الدولي ما يكفي من الأدلة والقرائن المقنعة المفترض وجودها لكي تدعم موقفها، وذلك بسبب عدم وضوح نصوص ومبادئ القانون الدولي في هذه المسألة.

أوروبا وردود الفعل

يتفرع النقاش الدائر الآن في الأوساط السياسية والأكاديمية والإعلامية في أوروبا إلى عدة محاور أولها: هل يتحتم على أوروبا ان تستنسخ رد الفعل الاميركي في المواجهة مع «داعش» وأخواته من الحركات الجهادية المسلحة، وتقوم بملاحقة الارهابيين وقتلهم أينما كانوا بطائرات الدرون.

وثانيها: كيفية التعامل مع مواطنيها الذين يلتحقون بصفوف هذه الجماعات في العراق وسورية وليبيا وغيرها، ويرجعون إلى فرنسا او إلى غيرها من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي؟ هل ينبغي اعتقالهم من دون أوامر قضائية، وسحب جنسياتهم الفرنسية ووضعهم في السجون من دون محاكمات بتهمة ارتكاب جرائم حرب؟ الإشكال المحير هو ان هذه الإجراءات تظل حتى الآن خاضعة لنقاشات وسجالات عميقة ومتناقضة في اجتماعات الهيئة التنفيذية للاتحاد ، ولا يتوافر حولها إلى هذه الساعة إجماع بين الدول الأعضاء التي يتخذ بعضها مواقف معارضة لهذه الخيارات. إلا أن المسألة التي تثير الاهتمام الأكبر برأي خبراء الاستراتيجيا الأوروبيين تكمن ليس في ضرورة تصفية وتدمير «داعش» وإنهاء خلافته، فهذا أمر محسوم ولا عودة عنه، وانما الطريقة المثلى التي يجب اتباعها في رسم الطرق التي من شأنها منع هذا التنظيم من تخطيط وتنفيذ هجمات جديدة في أوروبا. إضافة إلى استفزاز نقاش جدي حول موضوع ذي أهمية أكبر من شن الحرب، يتمثل في حاجة أوروبا الملحة الآن اكثر من أي وقت مضى إلى معاهدة عسكرية تقليدية مشتركة وتوحيد وتنسيق شكل وجوهر المواجهة والتصدي لظاهرة «داعش» التي تعد الأخطر في تاريخ الحركات الجهادية المعولمة.

 

ميونيخ وأزمات مستفحلة

تقف أوروبا بمواجهة أزمة تعد الأخطر من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية، وهي تعي جيداً أن الولايات المتحدة ليست لديها لا الرغبة ولا الإمكانية التي تتيح لها ان ت لعب دوراً محورياً في حلها، وهو ما تجلى في مؤتمر الأمن في ميونيخ، حيث من على منابره اشتكى ارفع زعماء الاتحاد الأوروبي من ان مشاكل أوروبا تعمقت في شكل لم يكن متوقعاً في العام 2015، والمشكلة أن مسيرتها ستبقى في الاتجاه نفسه خلال العام الحالي. وقال رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في باريس كاميي غراند» ان أسس منظومة الأمن الأوروبية بدأت بالانهيار من جهات متعددة». وأضاف» الانطباع السائد والمتزايد في الاوساط التنفيذية الأوروبية هو أن الإدارة الاميركية الحالية تركز اهتمامها على تثبيت ما تحقق بدلاً من محاولة الوصول إلى ما هو افضل، هذا فيما تتخذ المشاكل مساراً انحدارياً نحو الأسوأ».

في السياق ذاته، قال الباحث في «معهد هدسون» الاميركي وولتر رسل مييد: «في واشنطن لا يتحدثون كثيراً عن امكانية ان تكون الولايات المتحدة جزءاً من الحل، ما يشير إلى ان أوروبا تختفي من الحسابات الاميركية»، مشيراً إلى انه «من وجهة النظر الأوروبية ينبغي الحوار مع بوتين سواء أعجبنا به أم لا».

ورأى ديريك جوليت الذي عمل في البيت الأبيض في الفترة 2009- 2015 أن «الأوروبيين يجب ان يعتمدوا على أنفسهم في حماية أمنهم القومي، كما وعليهم عمل كل ما ينبغي في هذا المجال، حتى لو لم تتخل واشنطن عن التزاماتها حيال أوروبا» وأضاف «ليس خياراً واقعياً الاعتقاد أن الولايات المتحدة تحل كل المشاكل والأزمات، على الرغم من ان كل حليف أوروبي يريد ان تقدم له اميركا الأكثر» مشدداً على «ان هذه ليست استراتيجية ناجحة».

هذا كله يقودنا إلى التصدع الثالث في العلاقات بين الدول الأعضاء، ويرتبط في شكل وثيق بأزمة اللاجئين وتأثيرها على مقومات الأوضاع الداخلية والعلاقات مع دول الجوار وذلك على خلفية السجال المحتدم حول أولوية الأمن على حساب الحريات الفردية وحقوق الإنسان وكذلك تفعيل الدور الأوروبي في تسوية الازمات الدولية وصياغة وتشكيل العالم المعاصر، ما يقودنا إلى واقع ان الرؤية التي سادت بعد الثورات الملونة في أوروبا الشرقية وتركيزها على تحويل مجتمعاتها في القرن الواحد والعشرين من أنظمة ديكتاتورية قمعية إلى ديموقراطيات تعتمد التعددية والسوق الحرة وتكون نموذجاً يلهم المجتمعات الأخرى في الشرق قد تراجعت ولم تعد على جدول الأعمال الأوروبي تحت ضغط الفوضى التي يصدرها الشرق الأوسط والتي ضربت بما أفرزته من آثار وردود أفعال الوحدة الأوروبية، وهزت منظومات القيم الأخلاقية والحضارية الأوروبية.

تحفز معطيات ومتغيرات الأحداث سجالات داخل الاتحاد الأوروبي، تعد في جوهرها ومسارها، الأعمق والأخطر، وتتعلق بعلاقة أوروبا بالدول الكبرى. فروسيا لا تخفي طموحها إلى زيادة نفوذها ودورها وتأثيرها على أوروبا، مستفيدة من غرق القارة في الإحباط من موجات اللاجئين الذين يهددون وجودها ومنظومات قيمها، فضلاً عن وقوعها أسيرة رعب متزايد من عمليات ارهابية محتملة لا قدرة مطلقة لها على منع المزيد منها في المستقبل. هذا فضلاً عن ان الرئيس التركي رجب طيب اردوغان التقط فرصة اللحظة المناسبة لابتزازها بعد ان أدرك أنه ما دام يهددها بفتح حدود بلاده أمام مئات آلاف اللاجئين، فسوف تكف عن إلقاء الدروس والمواعظ عليه حول مصادرته الحريات الفردية والعامة وملاحقة من ينتقده من الصحافيين، وممارسة العنف المفرط مع الأكراد وتكريس السلطات بيديه.

 

مركل تقاتل على جبهة النزاعات

مركل تقف وحيدة على جبهة النزاعات السياسية والسجالات الكلامية، ساعية بكل ما تملك من حجج ومبررات لإيجاد توازن بين الالتزامات الأخلاقية وأحكام التشريعات الأوروبية في ما يخص اللاجئين من جهة، وموقف الرأي العام الأوروبي المتشدد والرافض إلزام الدول الاعضاء باستقبال وإيواء حصص محددة لكل منها من اللاجئين من جهة اخرى.

منتقدو المستشارة يتعكزون في موقفهم هذا على ارهاب باريس، كدليل جديد على فقدانها القدرة على التحكم والسيطرة على تسونامي اللاجئين. ولم يعد سراً ان مواقعها في الحزب الديموقراطي المسيحي تضعف بتأثير الصراعات الداخلية كما أظهرت استطلاعات الرأي، وتواجه في الداخل معارضة متزايدة وشرسة لسياستها التي فتحت أبواب المانيا لأكثر من مليون طالب لجوء العام الماضي، وعلى المستوى الأوروبي بات حلفاؤها نادرين بسبب رفض حكومات الدول الاعضاء حصصها من اللاجئين. ويجمع المحللون على ان خسارتها في الانتخابات المقبلة تهدد ليس رد الفعل الأوروبي ضد الارهاب وأزمة اللاجئين فحسب، وانما أيضاً قد تقوّض في شكل شامل العمليات الاندماجية ومنطقة اليورو وعضوية بريطانيا في الاتحاد.

 

الحياة