أين هي الهوية الوطنية السورية؟

المقال بعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي المرصد السوري لحقوق الإنسان

27

يحيل مفهوم الهوية الوطنية إلى فكرة الوطن والوطنية، وهذه مفردات كثيرًا ما تردّدت، وتُردّد اليوم بوتيرة أكبر وحميّة أشد، على مختلف الألسنة السورية، ولا تسلم من أن تكون وسيلة أو مطيّة لركوب موجة الانتماء الحقيقي والأحقية بالوطن، ونزع الشرعية عن الآخر الذي ليس من هويتي أو جماعتي، ونكران الوطن والوطنية عليه، بل نعته بالخائن والعميل. وفي الواقع، لو طرحنا “سؤال عالماشي”، كما كان قبل سنوات طويلة في برنامج الإعلامي السوري، مهران يوسف، على عيّنات عشوائية من الشارع السوري، لهالنا حجم الجهل بالمعنى الحقيقي لهذه المفردات ومعانيها ودلالاتها، على الرغم من الحرص الشديد على التفاخر بها وتكرارها حدّ الابتذال.
ما هي الهوية؟ سؤال يبدو بسيطًا، لكنه أكثر تعقيدًا من حصره في جملة واحدة، بما يحمله من بعد فلسفي ومدلول لغوي ومفهوم اجتماعي وثقافي، إلى ما هنالك من فضاءاتٍ يمكن لهذا المفهوم أن يفتح عليها، لكن الهوية تتطلب عناصر يجب أن تتوفر من أجل أن يفصح مفهومها عن ذاته، فهي خصوصية الذات والوعي بها، وما تمتلك من ميزاتٍ فردية، أو لمجموعة بشرية، تجعلها مختلفةً عن الغير، كما للغير تلك الميزات التي تخصه. وإذا كان الوطن، في تعريفٍ بسيط، هو التاريخ والجغرافيا، لأن جغرافيا بلا تاريخ لا تشكل وطنًا، بمعنى أنه الأحداث التي تتراكم مع الزمن، تخص مجموعة بشرية تعيش على بقعة جغرافية محدّدة، فإن هذه المجموعة تحمل هوية وطنية تخصّها وتتمايز بها عن غيرها، تترجم انتماء أفرادها إلى الوطن، فهي تعبر عن كيانٍ تشكله عناصر تنصهر في هذه البوتقة الكبيرة، ويتولّد عنها روح الانتماء إلى الوطن الذي يتجلى بأعتى درجاته بالشعور الوطني أو الوطنية، تلك الرافعة التي تحوّلت إلى سلاحٍ يرفعه السوريون بعضهم في وجه بعض… ما الذي أوصل السوريين إلى هذا الدرك من “انعدام الوطنية” المتنامي، عكسًا من تطاول أمد الحرب وانهيار حياتهم إلى درجة الفقر والجوع والتشرّد واللجوء وانعدام المشاريع الفردية والعامة؟

الهوية السورية، كما تفصح عن نفسها اليوم، متشظية عصابية مضطربة تتقلص باستمرار، لتضيق أكثر كلما تقدم الوقت في الحرب السورية

للهوية عناصر عديدة، منها المادي ومنها الثقافي والنفسي والاجتماعي والديني والتاريخي، تتواشج بعضها مع بعض لتشكل الهوية، لكن الهوية تحتاج أيضًا إلى عوامل تحافظ عليها وتبنيها، كالمجتمع والانتماء إلى المكان، والتاريخ والبقعة الجغرافية والنشاط الاقتصادي والحياة العامة والدستور الذي يحكم الكيان، وبموجبه تسن القوانين، ويصون الحقوق ويحدّد الواجبات، وينظم العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبينه وبين الدولة والثقافة التي تعتبر المعبّر الأساسي عن الخصوصية التاريخية لمجموعة بشرية، وهي تتميز بصفة التراكمية، يتدخل في صياغتها عبر الزمن الدين والعادات ومنظومة القيم والموروث الشعبي وغيره.
لماذا الهوية السورية، كما تفصح عن نفسها اليوم، متشظية عصابية مضطربة تتقلص باستمرار، لتضيق أكثر كلما تقدم الوقت في الحرب السورية، والأزمة الوجودية التي باتت تهدد الغالبية الساحقة من الشعب بين الداخل بكل مناطقه وبلدان اللجوء، خصوصا في الجوار، حيث يشكلون الكتلة الكبرى من اللاجئين؟ هذه الهوية المضطربة الهشة المتهافتة على عتبات الانتماءات الضيقة، والتي أضاعت طريقها إلى ذاتها، هي نتيجة تراكم انتهاك الكرامة والوعي عقودا، ما نجم عنه فجوة معرفية وروحية، كانت تزداد هوّتها باستمرار، فالهوية على علاقةٍ حيويةٍ ومتينةٍ بالديمقراطية وفكرة العدالة واحترام الفردية والحقوق بكل أشكالها، وهذا ما لم ينعم به الفرد السوري بالشكل المقبول، حتى في المدة القصيرة التي اتسمت ببداية حياة ديمقراطية في منتصف القرن الماضي، انتهت بقيام الوحدة مع مصر. أما ما بعدها فلا يخفى على متابع أو مراقب يريد أن يفهم ويبحث عما خلف الظواهر والسياسة العلنية أو المعلنة، بعيدًا عن الشعارات الرنانة التي تجهر بها الأنظمة. من الطبيعي أن أي جماعةٍ تعيش حالة من التهتك الاجتماعي والانهيار الاقتصادي والاستقطاب السياسي العنيف، فإن هويتها الثقافية تتداعى، فكيف إذا كانت عقودا تعاني من القسر ضمن قالب وحيد، ومن قهر هويات ثقافية لبعض مكونات الشعب؟ لأن الديمقراطية كانت غائبةً بالمطلق عن المجتمع السوري، وعن الممارسة السياسية. وعاش الشعب بمكوناته المختلفة تحت سطوة القمع ومصادرة الحريات، وأهمها حرية الرأي والتعبير، وانتهاك الحقوق، فإن الهويات الضيقة المشحونة بالتنافر بعضها مع بعض، تنتعش اليوم وتطفو على الوجه، مثلما لو أنها الضمان الوحيد لوجودها مدجّجة بأسلحةٍ ترفعها بعضها بوجه بعض، بعصبية قاتلة لكل خطوةٍ تدفع الشعوب في اتجاهٍ صحيحٍ يوصلها إلى ركب الحضارة الإنسانية.

أي جماعةٍ تعيش حالة من التهتك الاجتماعي والانهيار الاقتصادي والاستقطاب السياسي العنيف، فإن هويتها الثقافية تتداعى

الديمقراطية هي الضامن الأكبر للهوية الوطنية، فمعها يتحقق مبدأ العدالة والمساواة وانعدام التمييز وتكافؤ الفرص وصون الحقوق وسيادة القانون والتداول بالشأن العام حقا للجميع، وتشكيل الأحزاب، بما يسمح به الدستور، وينشَط المجتمع المدني، وتزدهر الثقافات المحلية، وتُصان الحريات، ومنها حرية المعتقد والعبادة والرأي والتعبير، وتحترم الفردية وتصان الحرية الشخصية، وتأخذ مؤسسات الدولة أبعادها، وتمارس واجباتها، ويساهم الجميع في عملية البناء، ويستفيد الجميع من عائدات الدخل، وغيرها من مجالات الحياة العامة والخاصة. انعدام الديمقراطية، وتحكم الطغيان السياسي والاجتماعي والديني في حياة الناس وسلوكهم، واستشراء الفساد والمحسوبيات، وفسح المجال العام لرجال الدين والطوائف وزعماء العشائر، ذلك كله أدّى إلى تراجع الوعي بالهوية الوطنية. وسمّم انتهاك المواطنة الشعور بالوطنية وغيّبه، ثم قضت الحرب على البقية الباقية من هذا الإحساس بالانتماء، وحلّت محلها هوياتٌ ضيقةٌ احتلت مساحة الوعي والضمير، وصارت بديلاً عن الهوية الوطنية، وصار الوطن كطفل دائرة الطباشير القوقازية. ولكن من دون رحمة، تجعل المتشادّين يرأفون به ويخافون من تمزّقه، وهو يتمزّق ويئن أمام أعينهم، ويصير ساحة نزاع واحتلالات ونفوذ، والشعب يقاتل بعضه بعضا، ويحاول كل فريق نزع الشرعية عن الآخر شريكه في الوطن، واتهامه بالخيانة، وبدلاً من تطوّر الهوية كحالة طبيعية لمقدرتها الحياتية، صارت تذوي وتتراجع وتبدو كطفل يشيخ، عاجزة عن أن تكون منتميةً إلى الحضارة الإنسانية وعن الدفع باتجاه المستقبل.

جيلٌ من السوريين ولد ويكبر في الخارج، أي أن ركنًا أساسيًا من تشكل هويته سيعتمد على النوستالجيا والمرويات الشفهية التي يقدّمها الأهل

توّج وباء كوفيد 19 محنة السوريين، متحالفًا مع تردّي أوضاعهم المعيشية إلى الحضيض، فكرّس الشقاق في ما بينهم، حتى صار يتعمّق بين السوريين في الداخل والسوريين في الخارج، ويتبادلون الاتهامات الجارحة في ما بينهم، وهم في الحقيقة جميعًا يعانون من اضطراب الهوية، فهناك أجيالٌ من السوريين ولدت وتكبر في الخارج، أي أن ركنًا أساسيًا من تشكل هويتها سيعتمد على النوستالجيا والمرويات الشفهية التي يقدّمها الأهل، أو المرجعيات الأخرى التي تتدخل في صياغة وعي جمعي، وهي مرجعياتٌ دينية بالدرجة الأولى، وهم لن يستطيعوا أن يشكّلوا هوية خاصة بهم، إذا لم يندمجوا بالمجتمعات المضيفة، ولن تكون هويتهم السورية سوية أو سليمة، طالما تفتقد إلى التراكم التاريخي فوق الجغرافيا السورية. كذلك صارت معاناة سوريي الداخل قيدًا يلجم عقولهم وأرواحهم في غياب مقومات الحد الدنى للعيش الذي يبقي على الحياة فقط من دون أي اعتبارٍ للكرامة، ولديهم، زيادة على ذلك، جائحة كورونا التي تحصد أرواحهم برخص، كما كان الموت يحصد أرواحهم برخص أيضًا.
يحيلنا المفهوم الفلسفي للهوية إلى اليوم العالمي للفلسفة الذي احتفلت به الأمم المتحدة به في التاسع عشر من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، وأريد من الاحتفالية هذا العام دعوة العالم إلى التأمل في معنى جائحة كوفيد 19، وتوكيد الحاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى “التأمل الفلسفي” لمواجهة الأزمات المتعدّدة التي نمر بها. وتحت عنوان “لماذا يوم للفلسفة”؟ يقول منشور الأمم المتحدة: تنبع الفلسفة من الميل البشري الطبيعي إلى أن يكون البشر مندهشين بأنفسهم وبالعالم من حولهم. لكن الواقع يبرهن أن السوريين تجاوزوا الدهشة إلى الذهول، وصاروا ذاهلين عن واقعهم وهويتهم الوطنية، حتى أنهم استهلكوا قولا ردّدوه بمرارة بأن الوطن للأقوياء والأغنياء والوطنية للفقير، ومذهولين من عالمٍ يصرّ على أن هناك ما يهدّد حياة البشرية اسمه فيروس كورونا، وهو يحصد الأرواح أمام عيونهم، بينما صارت معركتهم المصيرية العظيمة مع رغيف الخبز، والعالم لم يندهش بمحرقتهم وقتلهم وتهجيرهم.
يقول اليوم العالمي للفلسفة إنها توفر الأسس المفاهيمية للمبادئ والقيم التي يقوم عليها سلام العالم: الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة والمساواة، لا تشكل أهمية بالنسبة إليهم، وليسوا مشغولين بمفهوم الهوية الوطنية، لكنهم جاهزون أمام أي حدث للتراشق بالخيانة وانعدام الحس الوطني، حتى في تداول خبر وفاة الوزير وليد المعلم، اختلفوا في جواز الرحمة عليه أم عدمه، وجعلوه معيارًا للوطنية.

 

 

 

الكاتب: سوسن جميل حسن – المصدر: العربي الجديد