إدلب التي تقاتل الفناء

47
تكشف الباحثة، نوغا كدمون، في كتابها “على قارعة الطريق وعلى هامش الوعي” أحد أهم جوانب الصراع العربي الفلسطيني بشأن أسماء القرى الفلسطينية التي تم تدميرها وطرد سكانها، لأن الأسماء تبقى سنوات طويلة تحمي حيّزها وهوية المكان، تعيش من التاريخ الذي يحميها، وتستقر فوق الجغرافيا التي تقع فيها، وهذا ما يجعل المعركة على الأسماء في حالة الصراعات السياسية عليها مهمة للغاية، بل وحاسمة، لأن الاسم هنا يحمل معاني تتجاوز معناه الحرفي، حتى إن الأسماء غير المهمة تصبح مهمة للغاية، ليس لأنها أسماء، بل لأنها، أولا وقبل كل شيء، هوية، وهذا الربط بين الاسم والحفاظ عليه كان دائما مسألة ضرورية لإعادة صياغة رواية المكان التي ظلت تعتمد على “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، بشكل خاص في القضية الفلسطينية.
تعاني مدينة إدلب السورية اليوم ما عانته المدن والقرى الفلسطينية من تهجير إجباري لأهلها الأصليين، ومن محو كامل لوجودهم فيها، وتدمير لآثارهم في المكان، ولكن هذا كله ليس على يد العدو الإسرائيلي، ذي النظرية الصهيونية المعتمدة أصلا على الاحتلال، بل على يد الجيش السوري الذي بقيت الميزانية المخصصة له تأكل من قلب المواطن السوري الذي كان راضيا، لأن ذلك يذهب لكي يبني السوريون جيشا سيحرّر فلسطين يوما، لكن الديكتاتور الأب بنى جيشا ليحمي فقط عرشه، وليقتل الآن السوريين في ثورتهم العادلة.
تحاول إدلب الآن أن توثق اسمها، أن تعبر به عن هوية أهلها المشرّدين عنها. تحاول أن تخبر  

العالم عن كل النظريات التي تناولت معاني اسمها، لتحافظ على هويتها فيه، وعليه في مسامع وقلب البشرية الفارغ. وتحتار إدلب، المدينة التي تدخل الروح بدون جواز سفر، والتي عند مغادرتها، يجري رمّانها الشهي في الدم، وتمتد في الروح بساتين زيتونها على مرأى العين، بساتين ستجعل السلام يسقط كوحي قادم من ستة آلاف سنة قبل الميلاد.
تحتار إدلب المدينة الهاربة بعيون أهلها الهاربين من هولوكوست القرن الحادي والعشرين. تحتار هذه المدينة التي تجوع الآن، وتعطش وتبرد وتموت، وتتقطع أطرافها نتيجة القصف البربري الروسي. تحتار هذه المدينة التي كانت طاعنة في الهدوء والألفة، طاعنة بالأخضر الطالع من كل حواكيرها، من جذوع أشجار زيتونها، ومن جلنار رمّانها الذي يشبع القلب. تحتار إدلب حين تحاول أن تخبر العالم عن سبب تسميتها إدلب، لكنها تصرّ أن تخبر هذا العالم الأصم بذلك، كي لا يذهب الاسم مع الذين ذهبوا إلى السماء.
وعلى الرغم من الموت الذي يحاصر اسمها وأهلها وأرضها وتاريخها، وعلى الرغم من اختلاف التفسيرات لدى الباحثين، تصرّ إدلب على أن تخبر هذا العالم الأصم والأعمى بأنها 

 كانت وستبقى مدينة الحضارة البشرية الأولى، مدينة التاريخ والحياة والخصب.
وبصوت مخنوق، لكنه قوي، تخبر إدلب العالم عن النظريات التي قدّمها الباحثون عن اسمها، فإذا كان هذا الاسم قادماً من اللغة الآرامية، كما يؤكّد معظم باحثي التاريخ، فهذا يعني أن اسم إدلب قد يكون قادما من كلمة “أدد”، ما يعني بالآرامية شيئين، “إله العاصفة والرعد”، و”قلب الشيء”. وعندها ستكون إدلب تحمل معنى مركز آلهة المطر، أو قد يكون قادما من كلمة “أد” الآرامية أيضا، والتي تعني بالآرامية “هواء القلب”، أي أن إدلب هي مركز إله المطر والخصب، وهواء هذا القلب المثقوب الآن قهرا عليها. وفي حال كان اسمها قادما من لغة مملكة “إيبلا” العريقة، كما يؤكد باحثون، فهذا يعني أن الاسم قادم من اسم المملكة نفسها “إيبلا”. وحينها تعني إدلب أقدم مملكة عرفتها البشرية. أما في حال كان اسم إدلب قادما من اللغة الكنعانية، كما يذكر آخرون، فهذا يعني أنه قد يعود إلى كلمة “إدلبو” التي تعني في الكنعانية مكان جمع الزراعات والمحاصيل، أو قد يكون قادما من كلمة “دلبات” الغلطية القديمة التي تعني إله الزراعة. وهناك نظريات أخرى تنوّه إلى أن الاسم يمكن أن يكون قادما من اللغة الكلدانية من كلمة “وادي لبإدلب”، والتي تعني وادي الخصب.
وإدلب التي تحاول أن تخبر العالم عن اسمها تصرخ، وهي تحمل أدوات حديدية وجدت في أرضها تعود إلى العصر الحجري، أي إلى ستة آلاف سنة قبل الميلاد، كانت تستعمل للزراعة والصيد، تصرخ بلغة مملكة “إيبلا” العريقة، والتي وجدت منذ حوالي أربعة آلاف عام، والتي عاشت أقدم فترة عرفتها الحضارة البشرية من الازدهار المعرفي والفني والقانوني، المليئة  

بالنصوص السياسية والأدبية، تحمل في يدها الرُّقم الفخارية لأقدم معاهدة سياسية، جرت بين مملكة إيبلا العريقة ومملكة أبرسال، عام 2600 ق. م، وأكثر من عشرين خزانة خشبية تحتوي على أدوات ومجوهرات تعود للملكة إيبلا، وأكثر من ثمانمائة موقع أثري يعود إلى المرحلة الرومانية والبيزنطية التي مرّت بها هذه الأرض الغنية بالحياة.
وسترفع إدلب، وهي تخبر العالم عن اسمها، القرآن الكريم بيديها الاثنتين، وتدل العالم على التاريخ الإسلامي فيها، بما فيها المرحلة الأموية، ثم العباسية ثم العثمانية. وستدعو العالم كي يتحمم في حماماتها الأثرية. وستخبره كيف أخذ العثمانيون شبّانها إلى “السفر برلك”، وكيف قاومتهم وعادت حرّة، وكيف دخلها الاحتلال الفرنسي وأهان أهلها، لكنها قاومته بثورة ابنها الوفي، إبراهيم هنانو، وكيف أنها، مثل كل المدن القادمة من أول خطوط التاريخ، مهما قصفها الطغاة، ومهما قتلوا من شبابها، ستنتصر وتعود قويةً، فلا بد لبحر الزيتون الأخضر فيها من أن يغرق كل أعداء الحرية، وكل الأعلام السوداء.

الكاتبة:ميسون شقير  – المصدر: العربي الجديد

 

“هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه/كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي المرصد السوري”