إدلب: “قصة موت معلن”

45

تدلف الأزمة السورية إلى العام الجديد على وقع متغيرات إقليمية ودولية ليست قليلة الأهمية، فيما تستعر منذ تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي حرب الإبادة والتدمير في محافظة إدلب وتوابعها من ريفي حماه وحلب، على أمل استكمال الانتصار الأخير لروسيا في دعمها نظام الأسد الصغير في دمشق.

مع التأكيد أن معركة إدلب ليست وليدة مصادفة راهنة أيا كانت المصادفات، حيث بدأ الاستعداد لها منذ أيار/ مايو 2014، مع ترحيل أول دفعة من مقاتلي حمص القديمة باتجاه تلك المحافظة الشمالية، أي قبل عام تقريبا على انخراط الروس مباشر بالعمليات القتالية في سوريا عام 2015، حيث شكلت تلك الخطوة بداية استراتيجية تابعتها موسكو بدأب لنقل كل مقاتلي الفصائل المسلحة وعائلاتهم إلى ادلب، ممن رفضوا نتائج الهدن والمصالحات التي شملت الكثير من المناطق السورية، وبشكل خاص بعدما خرجت هذه المحافظة عن سيطرة النظام، على أيدي جيش الفتح الذي انضوت داخله في تلك الفترة جبهة النصرة حين تَكنَتْ في إحدى مراحل تحولاتها بجبهة فتح الشام.

واصبحت إدلب خلال السنوات الأربع الأخيرة الملاذ الأخير لكل النازحين من الجغرافيا السورية، حتى أنها اعتبرت أكبر مستوعب للاجئين في العالم وفق تقارير بعض المنظمات الدولية، ممن دُمرت بيوتهم ونهبت أملاكهم وهجروا تحت نيران القصف والبراميل، فبات عدد سكان هذه المنطقة يقارب أربعة ملايين نسمة، بينهم مليون طفل وفق تصريح لمنظمة “يونيسف” الدولية.

في هذه الأثناء توافق أطراف أستانة الثلاثة، إيران وتركيا بقيادة روسيا، في اجتماعهم بتاريخ 15 أيلول/ سبتمبر 2017، لتشميل إدلب كمنطقة رابعة باتفاقيات خفض التصعيد، تلك المناطق التي تمّ استعادتها تباعا لسيطرة النظام على مرأى ومسمع من تركيا باعتبارها الطرف الضامن لهذه الاتفاقيات من جانب معارضة سورية أضحت مهزومة بالمطلق، فيما جرى تأجيل إدلب بانتظار أن تستكمل استقطاب باقي القوى والمنظمات المتطرفة أو الموصومة إرهابية في الساحة السورية، حتى أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وصف إدلب في تلك الفترة بتعبير “الجرح المتقيّح”، والذي حان الآن وقت استئصاله، لأن تركيا لم تبد جهدا حقيقيا لإخراج تلك المجموعات المتطرفة عملا باتفاق ثنائي لاحق بين أردوغان وبوتين.

وبذلك تحول المدنيون من سكان إدلب ولاجئيها إلى رهائن بشرية بين سندان فلول المنظمات الجهادية المتطرفة، الذين رُحلوا إلى إدلب في باصات النظام الخضراء والبولمانات المكيفة، وعلى رأسها “هيئة تحرير الشام” أحد تحولات جبهة النصرة المستمرة، إضافة إلى مجموعات جهادية أكثر تطرفا كتنظيم “حراس الدين” المنشق عن “هيئة تحرير الشام” لرفضه أصلا اتفاقيات “خفض التصعيد”، ومقاتلي “الحزب التركستاني” المتشددين، ممن يعلنون مبايعتهم لتنظيم القاعدة المصنف دوليا كتنظيم “إرهابي”، مع مجموعات أخرى متطرفة أقل حجما، تُقدِر بعض الدراسات المختصة الآن مجموعهم ككل في إدلب بين 50 إلى 100 ألف مقاتل، امتصت تركيا جزءا قليلا منهم ضمن تشكيل الجيش الوطني الذي خاضت بواسطته معاركها في الشمال السوري، ومؤخرا بدأت تحويل مجاميع منهم إلى مرتزقة للقتال في ليبيا، مقابل مطرقة النظام وميليشياته الطائفية المدعومة بالطيران الروسي، حيث يفتك الطرفان سوية، وبدم بارد، بالمدنيين العالقين الآن في ادلب.

يمكن أن نلاحظ مهارة المايسترو الروسي في قدرته على توليف مجموعة من العناصر والسياسات المتناقضة في هرموني جديد للمنطقة، ما زال يصّدح تباعا بين أستانا وسوتشي بتوافق البيانات التي تخفي وراءها كماً من التناقضات المؤجلة تبعا لتطور المعارك العسكرية والميدانية المحكومة بسباق المتغيرات والطموحات الدولية والإقليمية، وتحديدا بين أطراف أستانا الثلاث ومعاركها المتناقضة البينية والخارجية أيضا، فإذا كانت إيران معنية الآن بدفن بعضا من طموحاتها الإقليمية مع جثمان قاسم سليماني، فإن تركيا أيضا باتت أمام استحقاقات متناقضة، في مستوى أزمة حزب “العدالة والتنمية” الذي أخذ يتشقق مؤخرا على وقع الهزيمة الانتخابية التي كادت تقضي على أسطورة أردوغان ونجاحاته السابقة، بالتزامن مع أزمة اقتصادية طالت الليرة التركية وقدرتها الشرائية أيضا.

لعل هذا يفسر جزءا من أسباب عملية “نبع السلام” التي اجتاحت بموجبها القوات التركية مدعومة بمن بقي من فصائل المعارضة العسكرية التي قاتلت في “درع الفرات” وفي “غصن الزيتون” وأخيرا في “نبع السلام” تحت مسمى “الجيش الوطني”، لضرب مشروع الإدارة الذاتية كمنطقة نفوذ لحزب P.Y.D الذي تعتبره أنقرة إرهابيا، ولإقامة منطقة عازلة على طول الحدود السورية التركية بعرض 15 إلى 20 كم، بحيث ينقل أردوغان الأزمة الداخلية إلى حرب مع الخارج، يمكنها أن تعيد توليف التيار الإسلامي في تركيا مع نظيره القومي الشوفيني وراء طموحاته العثمانية.

ولا مانع لدى تركيا أن تدفع ثمن موافقة روسيا على تلك الاستراتيجية فواتير إذعان وقبول لشروط بوتين المطالب بسيطرة النظام على الطرق الدولية التي تمر في إدلب تحديدا، وتعرف اختصارا M4 و M5، التي تربط مدينة حلب بكل من اللاذقية والساحل السوري جنوبا، ومع حماه وحمص في الوسط وصولا إلى دمشق.

لذلك اعتبرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن هجوم النظام مدعوما بالطيران الروسي على إدلب بات مسألة وقت، وهو ما يذكرنا برواية غابرييل غارسيا ماركيز الشهيرة “قصة موت معلن”، حين ابدع خيال روائي الواقعية السحرية جريمة قتل شخصية كان كل سكان القرية يعرفون مسبقا بحصولها باستثناء الضحية، فيما واقعية الدبلوماسية الروسية السحرية أيضا، أنتجت لنا رواية بعشرات أو مئات آلاف الضحايا بين قتيل ومهجر، وحجم من الدمار لم تشهده أيا من الحروب السابقة، حرب إبادة تطال قوافل النساء والأطفال والشيوخ الهاربين من براميل الموت المتساقطة على طرق فرارهم الممتدة باتجاه العدم أو الموت، لا يحملون معهم غير عجزهم والرعب الذي يسكن عيون أطفالهم، وخيبة الكبار من العالم أجمع.

وسط هذا المشهد جاءت القمة التي جمعت الرئيس أردوغان بنظيره الروسي بوتين، يوم الأربعاء الماضي، حيث أبدى الرئيس التركي اهتماما كبيرا بمشاركة ضيفه افتتاح مشروع خط الأنابيب التركي/ الروسي للغاز “تورك ستريم”، الذي بدأ فعلا بضخ الغاز إلى أوربا، كما حرص على اهدائه نسخة مطبوعة في كتاب “خطوة استراتيجية في معادلة شرقي المتوسط: مذكرة التفاهم التركية الليبية”، الموقعة في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي مع حكومة السراج الإخوانية المحاصرة في طرابلس، رغم تأكيد تركيا المستمر لوجود 2500 من مرتزقة “فاغنر” الروس يقاتلون الى جانب قوات المشير “خليفة حفتر” على الجبهة المضادة من الخندق التركي.

حروب المصالح هذه يمكن تفهمها في ضوء الأثمان المدفوعة، بحيث لم يبق في أجندة تلك القمة غير عبارة مقتضبة بخصوص إدلب، تقول بحسب وكالة أنباء الأناضول التركية: “نؤكد على ضرورة ضمان التهدئة في إدلب عبر تنفيذ جميع بنود الاتفاقيات المتعلقة بها”، وكفى الله المعارضة السورية شر التشكيك بوطنيتها، معارضة افتقدت الشجاعة حتى في مستوى التعليق على عموميات البيان الختامي لقمة أهدرت دم السوريين على مذبح مصالح الدول الضامنة لمسار أستانا.

الكاتب:انور بدر  – المصدر: بروكار برس