إرث تركيا “المرير” في عفرين

64
“لم نتعلم من درس عفرين، ومن عواقب ذلك التخبط الذي نعانيه في إدلب”، هذا ما قاله لواء متقاعد عند ورود أنباء عن محاصرة نقطة المراقبة التركية في مورك من قبل قوات مدعومة روسياً. باشرت تركيا عملياتها العسكرية الثانية العابرة للحدود، تحت مسمى عملية غصن الزيتون، في كانون الثاني 2018، والتي تمخضت عن أسر واحتلال مقاطعة عفرين في الشمال السوري (حيث كانت الأولى عملية درع الفرات). والتي استكملت فصولها في غضون شهرين، ويُنظر إليها كنجاح عسكري في أنقرة، على خلاف عملية درع الفرات التي حشدت تركيا بموجبها عناصر من الجيش السوري الحرّ بما يقارب ضعفي عدد قوات من الجيش التركي، فإن عملية غصن الزيتون اعتمدت على الجنود الأتراك (بنسبة ثلاثة أضعاف عناصر الجيش الحرّ) وبصورة رئيسية وحدات من الكوماندوس ورجال الدرك. منطقة عفرين اليوم تسيطر عليها قوات مدعومة من تركيا؛ وتركيا عازمة على إنشاء منطقة آمنة بغية إبعاد القوات الكردية عن حدودها. واستهدفت عملية غصن الزيتون كما تدعي تركيا تنظيف المنطقة من وحدات حماية الشعب الكردية، وإلى الآن معاناة أهالي عفرين مستمرة وهم تحت وطأة تطهير عرقي وثقافي وديني.

تفيد وسائل الإعلام التركية من راديو وتلفزيون بأن عفرين الآن خالية من الإرهاب “وتعيش وضعاً طبيعياً”، مع ذلك، يفيد نفس التقرير بأن وحدات الكوماندوس مستمرة في تدريباتها لمكافحة الإرهاب وإزالة الأفخاخ والألغام الحربية. ما حقيقة ما جرى في عفرين منذ آذار 2018؟.

تحدثت المونيتور إلى مواطنين، باحثين، ومسؤولين كبار، من حزب الاتحاد الديموقراطي، بالإضافة إلى عناصر من القوات التركية المسلحة الذين شاركوا في عملية غصن الزيتون، حيث يستوجب الاهتمام هنا بثلاث مستويات: (تدمير المواقع التاريخية والمقدسة، مصادرة الممتلكات والثروة الطبيعية، خطف مواطني عفرين من أجل الفدية). يبدو أن الهدف النهائي من جميع تلك الأساليب والتكتيكات مزدوج – تشريد الكُـرد، علويين، وإيزيديين، تعريب عفرين وجعلها إمارة سنية، وتحصيل مكاسب مالية لدفع مستحقات ميليشيات الجيش الحرّ.

وقد أفادنا سكرتير عام حزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا محي الدين شيخ آلي بالقول “حال دخول القوات التركية ومرتزقتها مدينة عفرين ونواحيها، بدأوا بتحطيم أحد أهم النصب التذكارية وأكثرها لفتاً للانتباه، وهو تمثال كاوا (رمز نـوروز) والذي يحتل مكانة خاصة في قلوب الكُـرد، لما يحمل من معاني ودلالات الحرية والجمال في ميثولوجيا أهل عفرين”.

تدمير الأضرحة وبشكل خاص ضريح محمد نوري ديرسمي في مقبرة شيخ حنان وأماكن أخرى ذات قدسية، بالإضافة إلى قطع الأشجار المعمرة والمنتشرة في معظم قرى ونواحي منطقة عفرين والتي بقيت تاريخياً كأضرحة ومزارات لجميع الكُـرد، لها أهميتها المتميزة لدى أتباع الديانات القديمة. بقيت الإيزيدية والزرادشتية ومريدي الإمام علي على مدى قرون معارضون لسلطات الدولة المركزية القائمة. وفي هذا السياق يوضح آمد دجلة، وهو صحفي متمرس يزور المنطقة من وقتٍ إلى آخر، أن ديرسمي مثقف كردي ذائع الصيت، هجر منطقة ديرسم في تركيا برفقة عوائل علوية أخرى، في السنوات الأولى لتأسيس الجمهورية (1938)، حينما تعرض أهالي ديرسم لأعمال القمع والاضطهاد .

 وقالت ناشطة، وهي من السكان المحليين لم تكشف عن هويتها، أن قبر زوجة ديرسمي، فريدة تم تدميره أيضاً؛ إن تلك الممارسات تنم عن كراهية وحقد دفينين لدى “القوات المسلحة”، مضيفةً بأنه توجد ثلاثة أسباب أو عوامل تدفع المحتل التركي ومرتزقته لإستباحة الأماكن المقدسة وتدميرها: “الكسب المالي، العنصرية (ضد كل ما يمت للكرد بصلة)، والهيمنة الدينية”. حتى الأشجار التي ينظر إليها الناس على أنها ذات قدسية ويعلقون عليها شرائط وأربطة صغيرة تيمناً وتضرعاً لله لتحقيق أمنياتهم، تم استهدافها؛ وأشجار الزيتون تكتسي أهمية خاصة، حيث تم سرد قصص كثيرة على مدى العام تتعلق بمصادرة زيت الزيتون وكيفية تسويقه لبلدان الاتحاد الأوروبي عن طريق تركيا.

كما أضاف الباحث “في كثير من الحالات يتم نبش القبور والأضرحة وتخريبها بغرض السرقة والبحث عن الذهب والأشياء الثمينة واللقى الأثرية وخاصة تلك الموجودة في التلال، إضافةً إلى نهب وسرقة محتويات بعض المساجد كالألواح الشمسية، البطاريات، التجهيزات والمعدات الكهربائية والسمعية، والسجاجيد”، يضيف دجلة “تؤكد مصادري الخاصة من دائرة الآثار في عفرين أنه تم سرقة حوالي /16000/ تحفة أثرية في المنطقة، حيث تحتوي على /144/ موقعاً تاريخياً”. ومعظم تلك التحف والمصنوعات تم نقلها من موقع تل عين دارا وهُرّبت إلى تركيا للبيع. وهناك تقارير وصور جوية متعددة تظهر مدى الخراب والأضرار التي لحقت بالمنطقة منذ شن عملية غصن الزيتون.

“لقد شهدت /22/ قرية إيزيدية تخريباً في شواهد قبورها، بما في ذلك شيخ حميد”، وتَزعَم السلطات المحلية المدعومة من تركيا بأن شواهد القبور المدمرة تلك كانت مخالفة للقانون الجديد، الذي ينص على أن تكون أقل ارتفاعاً من ذلك، ويبدو هذا النوع من المزاعم بالنسبة للسكان المحليين، صورة طبق الأصل لما شاهدوه من ممارسات لتنظيم الدولة الإسلامية (IS). وتم سرقة وتدمير العديد من المزارات العلوية التي كان الناس يتبركون بها ويجدون فيها السلوى مثل ياغمور دادا، علي دادا، و أصلان دادا في ناحية بلبل.

لم تُدمر تركيا الأضرحة والمواقع التاريخية القديمة فحسب، بل متورطة في مشاريع إنشائية. يقول شيخ آلي: “يخربون المواقع القديمة لاستبدالها بمساجد خاصة تحت إشراف خريجي المعاهد والكليات الدينية. وهذه شوفينية تركية من وجهة نظر أهالي عفرين؛ إنهم يعملون على نشر وفرض اللغة التركية ورفع العلم التركي على مباني ودوائر المؤسسات خارج حدود الدولة التركية، ما يثير مشاعر الحقد والكراهية بين الناس”.

وتستثمر المؤسسة الدينية التركية الرسمية Diyanet على نطاق واسع في المنطقة. وأضاف الباحث العفريني، تبني القوات التركية المساجد في القرى العلوية بشكل خاص، حيث لا أحد يحضر إلى المسجد، فإنشاء الجوامع وتعيين أئمة في البلدات العلوية من دون اجتماع أو تجمع بشري بات بحق تقليداً موروثاً لدى مؤسسة ديانت في تركيا، وهذا بحد ذاته يشكل خطوة باتجاه التحول الديني الإلزامي. ويقول الجنرال التركي المتقاعد: “يبدو الوضع وكأننا نحضر المنطقة لجهاديين مسلحين من (القاعدة والمجموعات الموالية لها)، لقد عانى رفاقي الذين خدموا في المنطقة كثيراً وتلقوا الإهانة الأخلاقية نتيجة الطريقة التي تمت فيها العملية”.

كما أبدى شيخ آلي قلقه بشأن إضرام القوات النار في الغابات والأدغال، وجني محصول الزيتون الأول وقطع الأشجار القيمة من جذوعها لصناعة الفحم، ويضيف دجلة Dicle بأنه تم حرق /١١٠٠٠/ هكتار من الغابات كلياً منذ بدء عملية غصن الزيتون.

وأكد آلي ورود الكثير من التقارير الأخرى في المنطقة حول اختطاف المئات من مواطني عفرين من أجل الفدية. وقال: “هذه أعمال ممنهجة تستمر السلطات التركية في تطبيقها (من خطف وتخريب للموارد الطبيعية وتدنيس الأماكن المقدسة) في عفرين، بهدف إفراغ المنطقة من سكانها الأصليين وإحداث تغيير ديموغرافي مستدام، من خلال استقدام مجاميع من التركمان والأسر العربية من خارج عفرين وإسكانهم قسراً ومنحهم الحوافز والمزايا، حيث تمنح تركيا جهادييها المساعدات والمجال واسعاً للقيام بعمليات الخطف والاعتقالات العشوائية في صفوف المدنيين في عفرين من أجل الابتزاز المالي، مرتكبة بذلك جرائم قتل وتعذيب، إضافةً إلى الاستيلاء على ممتلكات الناس ومصادرة المنازل والعربات والمكنات الزراعية لغلق أبواب العمل والإنتاج، ويسلط آلي الضوء على حالة الخوف والترهيب التي يعيشها الناس جراء عمليات الخطف، وارتفاع وتيرة البطالة والفقر.

وفيما يلي توضيح من السيد آلي بشأن المخاوف التي تنذر بخطر إعادة انتشار تنظيم الدولة (داعش):

“اللافت للانتباه والمنذر بالخطر، هو تحركات عناصر جهادية جديدة من محافظة إدلب ومناطق درع الفرات كجرابلس، الباب واعزاز، باتجاه نواحي عفرين وتمركزها في أماكن مموهة مع قياداتها. حيث يمكن استخدام تلك المناطق كأرضية خصبة وتحويلها لقواعد ومنصات للتخطيط وشن عمليات إرهابية عابرة للقارات، كما كان الحال في منبج أثناء سيطرة داعش هناك”. ثم يضيف “إن ملاحظاته وتحليلاته المنطقية تلك تعتمد على معرفته الجيدة بطبيعة وتضاريس منطقة عفرين”.

إن وحشية القوات المدعومة من تركيا في عفرين تظهر جلياً بأن أنقرة ليست مهتمة بإيجاد حل للمسألة الكردية لديها ولا حتى تأمين حدودها. بل تساعد السياسات الراهنة فقط على اتساع القضية الكردية وعدم استتباب الأمن على الحدود السورية. كما أنه من الممكن أن تخلف تلك السياسة عواقب غير محمودة وتكلف الطرفين تركيا والمنطقة تكاليف باهظة.

المصدر:المونيتور

ترجمة عن الانكليزية : يونس آلي