إردوغان وحلم «تركيا الكبرى»

51

قبل بضع سنوات، انتقد الرئيس التركي إردوغان المسلسل التاريخي «حريم السلطان»، والسبب في رأيه أنَّ العمل المتلفز الأشهر شوَّهَ تاريخ بني عثمان الذي لم تصنعه دسائس الجواري وتنافسها!
تزامن الانتقاد مع الانتهاء من تشييد أكبر قصر للحكم في العالم على تلة مطلة على أنقرة، مع 1150 قاعة، ومساحة أكبر من البيت الأبيض، والكرملين، وفرساي. وقد أثار ذلك احتجاجات مع تكلفة بلغت نحو 500 مليون يورو، بينما الاقتصاد التركي يترنح وتتسع الإفلاسات. وقالت المعارضة إنه دليل «جنون العظمة» لدى إردوغان الذي برَّر «الإنجاز» بأنه رسالة: «أردنا أن نقول للأجيال الصاعدة: من هنا تم حكم تركيا الجديدة»!
إذن، هي تركيا الجديدة، أو «تركيا الكبرى»، التي أمر الحاكم المطلق فيها بإقامة حرس يمثل الإمبراطوريات التركية الـ16 التي يرمز إليها بـ16 نجمة في شعار الرئاسة التركية. بدا هذا الحرس وكأنه خارج من التاريخ؛ بعض الأفراد يحملون الرماح، وبعضهم الآخر خوذات ذهبية، ومنهم من يرتدي الأقنعة والسلاسل الحديدية، ووضع بعضهم الشوارب الكثة لاستكمال المشهد الذي بدا وكأنه من مسلسل تاريخي

ومن سياسة «صفر مشكلات» التي وضعها أحمد داود أوغلو، انتقلت تركيا – إردوغان إلى الصدام المباشر مع أكثر دول الجوار، وتوترت علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، وحتى الولايات المتحدة! وبدأ الجيش التركي عمليات عسكرية امتدت من شمال سوريا والعراق حتى ليبيا، حيث تم تجميع المرتزقة وشذاذ الآفاق الذين يتبعون للجماعات الإسلامية المتطرفة التي تناسلت من عباءة الإخوان المسلمين.
إنه مشروع «الهلال العثماني» الذي يمتد من جبال كردستان والشمال السوري والحرب المفتوحة على الأكراد إلى ليبيا – السراج والحرب على الشعب الليبي بوهم ترسيخ النفوذ من البوابة الليبية، مع تدخل مكثف في تونس من خلال الغنوشي و«حركة النهضة» الإسلامية، وقاعدة كبرى في الدوحة بوجه دول الخليج، وأخرى في الصومال على مقربة من باب المندب! ويتسع حجم التحرش باليونان وقبرص، وتحدي «الناتو»، بعد انكشاف الطمع التركي في ثروات المنطقة! إنه «هلال» مطامع يتطلب إمكانات أكبر بكثير مما لدى تركيا من قوى عسكرية وموارد. لكن مع نشر خريطة «تركيا الكبرى» يبدو أنَّ أحلام الرئيس التركي تهدّد بإشعال المنطقة ما لم ينجح الشعب التركي بإزاحة الخطر المقيم في القصر الرئاسي في أنقرة!
خريطة «تركيا الكبرى» التي نشرتها «الشرق الأوسط»، وتعود إلى حقبة السلاجقة، قبل نحو ألف عام، ربما كانت تصلح لزمن آخر، كزمن الفتح العثماني قبل أكثر من ستة قرون، لأنَّها تشتمل على الثلث الشمالي من سوريا، ومساحة كبيرة من العراق، وكذلك من جورجيا، وتضمُّ كل أرمينيا، ونصف بلغاريا، والشمال اليوناني والجزر الشرقية من بحر إيجة وقبرص (…) وتزامن نشر هذه الخريطة مع نقاش عسكري في أنقره عن «الوطن الأزرق»، لخصه وزير الدفاع التركي خلوصي أكار بأنه يستهدف فرض تركيا سيطرتها على البحار المحيطة، مثل البحر الأسود وبحر إيجة والبحر المتوسط!
بين «تركيا الكبرى» و«الوطن الأزرق»، تواجه تركيا أزمات اقتصادية خانقة، مع مديونية خارجية مرتفعة، وتدهور في سعر صرف الليرة، وبطالة عالية، وتداعيات تفشي فيروس كورونا. وسبق لأنقرة من خلال التهديد والوعيد أن حصلت على دعم مالي غربي، من خلال الابتزاز بورقة اللاجئين السوريين. كما يقوم حاكم قطر بتوفير تمويل دوري للنظام التركي، لكن الانهيار، واتساع الفساد الذي يحاكي فساد المافيا اللبنانية، دفع إردوغان إلى البحث عن مصادر بديلة، فوجد ضالته في محاولة السطو على غاز المتوسط الذي حرَّك شهية الحاكم المتسلط. فتضاعفت الأطماع بعد فشل التنقيب في المنطقة الاقتصادية الخالصة لتركيا قبالة مرسين وأنطاليا، فأعلنت أنقرة عن اعتزامها التنقيب في المنطقة التابعة لقبرص، متذرعة باتفاقية مع جمهورية شمال قبرص غير المعترف بها، استغلتها للتنقيب بدعوى الحفاظ على حقوقها وحقوق قبرص التركية في منطقة تعوم على بحر غاز طبيعي هو ثاني أكبر مخزون من الاحتياطي على مستوى العالم.
ما يجري بالغ الخطورة، ويضع المنطقة كلها على كف عفريت؛ الرئاسة التركية التي تبشر بـ«تركيا الكبرى»، وتهدّد بمغامرات عسكرية، ولا يردعها خطر إضرام النار في الجوار، يبدو أن هاجسها تشغيل ماكينات الدعاية لإشغال الرأي العام التركي بالوعود الزائفة لوقف التدهور في الشعبية، وتالياً تثبيت سيطرة آيديولوجية عمادها التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين، بزعامة إردوغان، فيتساكن مشروعه الخطير مع الهلال الفارسي، ويحاذر أي اصطدام مع طموحات إسرائيل بالهيمنة. ودوماً مشاريع التطرف في المنطقة تتساكن وتتعايش وتحاذر أي اصطدام فيما بينها، وترتب الأثمان الكبيرة على العرب!
اليوم، مع التحرك الفرنسي، ونسبياً الأطلسي، في مواجهة تركيا، وبعد إقرار مجلس الشيوخ الأميركي قانون «أمن الطاقة في المتوسط»، واعتزام إنشاء مركز أميركي دائم للطاقة في المنطقة، وإعلان «أكسون موبيل» الأميركية قرارها الدخول على خط التنقيب، ما يعني أن أميركا في طريقها لأن تصبح لاعباً أساسياً، هل بدأ القلق يساور إردوغان الذي يجازف في صدام غير محسوب؟ خصوصاً أنه يعرف أن تركيا لا يمكن أن تعول كثيراً على أداء البوارج، ومعلوم الوهن الذي أصاب قدراتها البحرية والجوية بعد «انقلاب» عام 2016، وما رافقه من اعتقالات واسعة في صفوف ضباط الجو والبحر، ولن يتأخر الوقت لظهور مؤشرات انكسار هذه العربدة، لكن المقلق أن اللعب التركي على حافة الهاوية قد يتسبب بانزلاق كبير وأثمانٍ باهظة يدفعها الشعب التركي وشعوب المنطقة.

 

 

 

الكاتب:حنا صالح – المصدر: الشرق الاوسط