إطلاق تقرير الاقتصاد السياسي والتداعيات الاجتماعيّة في ثلاث مدن سوريّة طرطوس والقامشلي وأعزاز

36

النتائج الرئيسية

تقع المدن الثلاث المدروسة في مناطق سيطرة مختلفة: فطرطوس خاضعة للسلطة السورية القائمة، وأعزاز ضمن مناطق « درع الفرات » الخاضعة لتركيا وفصائل « المعارضة » المسلّحة الموالية لها، وأغلب القامشلي ضمن سلطة « قوّات سورية الديموقراطية » و »الإدارة الذاتية » النابعة عنها. لكلّ من هذه المناطق خصائصها لناحية « اقتصاد الحرب السياسيّ ».

بعد عشر سنوات من الصراع، يختلف الاقتصاد السياسي في سوريا كثيراً اليوم عن أوضاعه ما قبل النزاع بفعل الآليّات الخاصّة التي نتجت عن الحرب وتقسيم البلاد الفعليّ والإجراءات الأحادية الجانب (العقوبات).

ضربت أزمة اقتصادية ومالية جميع مناطق سوريا في عام 2020 تماشياً مع الأزمة اللبنانية. وأدّت إلى انهيار كبير في سعر صرف الليرة السورية وارتفاع كبير في التضخم. زعزعت هذه الأزمة شبكات إنتاج وتسويق السلع والخدمات، ضمن كلّ منطقة نفوذ وبين مناطق النفوذ، ثمّ فاقمت أزمة جائحة كوفيد 19 من هذا التدهور.

أثّرت هذه الأزمة على الظروف المعيشية للسكان. فقد بلغت سلة إنفاق الحدّ الأدنى للبقاء الشهريّة (SMEB) التي حدّدتها وكالات الإغاثة لشخصٍ واحد قيمة رواتب 45 يوم عمل للعامل غير الماهر في أعزاز، و 37 يومًا في طرطوس و22 يومًا في القامشلي. نتيجةً لذلك، وقعت معظم الأسر في البلاد تحت خطّ الفقر. كذلك، اضطرّ الكثير من الشباب الانخراط في ميليشيات مسلّحة تقاتل مقابل أجر أو منفعة داخل وخارج سوريا وفي أنشطة غير قانونيّة. ما يزيد من مخاطر استمرار تقسيم البلاد بفعل الأمر الواقع ومن انهيار الأمن بشكلٍ أكبر والابتعاد عن أمل إعادة الاستقرار والنهوض.

فاقمت هذه الأزمة من إشكاليّات سلاسل توريد السلع ومستلزمات الإنتاج من الخارج والتي كانت قد شهدت أصلاً تداعيات الحرب والإجراءات الأحاديّة الجانب (العقوبات) وتقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ مختلفة بات أمراء حرب وميليشيات مسلّحة يهيمنون على التبادل بينها وعلى الاستيراد إلى كلّ منها.

تضخّمت أسعار السلع والخدمات بشكلٍ كبير في كافّة أنحاء البلاد تزامناً مع انهيار أسعار الصرف. لكنّ اللافت أن أسعار الصرف بقيت متقاربة جداً بين المناطق رغم التباين والاختلاف الكبير في أسعار السلع والخدمات المتوفرة في كلّ منها.

تداعت آليّات الإنتاج في مناطق النفوذ الثلاثة أكثر مع الأزمة الأخيرة، وفقدت البلاد أمنها الغذائي والدوائي وفي مجال الطاقة، وأضحت عرضةً لأزمة جوع إذا ما شهدت سنة جفاف في الأمطار، وذلك نتيجة لانهيار الزراعة المرويّة.

تمّ استبدال كثير من السلع الأساسيّة التي كانت تنتج محليّاً بتلك المستوردة، خاصّة من تركيا وإيران، مع تطوّر آليّات استيراد مختلفة، رسميّة وغير رسميّة، لكلًّ من مناطق النفوذ وآليّات أخرى لعبور السلع بين منطقة نفوذ وأخرى. وقد قوّضت هذه الآليّات التكامل الاقتصادي في الإنتاج الذي كان قائماً بين المناطق. كما زاد تمركز العمليّات الاقتصاديّة حول احتكارات كبيرة هيمنت عبرها بعض الفعاليّات المرتبطة بسلطات أمر الواقع على مستلزمات الإنتاج (محروقات، أعلاف، أدوية، إلخ)، على الإنتاج ذاته و/أو على شبكات التوزيع الكبيرة. كذلك تفاقمت الاحتكارات بالنسبة للسلع المستوردة أيضاً لهيمنة عدد قليل من الفعاليّات على التجارة الخارجيّة وسبل تمويلها، لارتباطهم مع الدول المؤثّرة في مناطق الصراع ولقدرتهم على الالتفاف على العقوبات الاقتصادية.

كذلك أدّى استمرار توزيع المساعدات العينيّة لسنين طويلة عبر الأمم المتحدة ومنظّمات الإغاثة إلى نشوء آليّات لإعادة تدوير هذه المساعدات في الأسواق بأسعارٍ رخيصة. هذا ما أدّى إلى تقويض الإنتاج المحليّ وإلى فقدان الكثيرين لسبل العمل وكسب العيش والاستدامة.

تستخدم مياه الشرب والكهرباء وكذلك الاتصالات كوسيلةً للصراع بين الأطراف وكذلك وسيلة للهيمنة ضمن كلّ منطقة نفوذ، بدل أن تكون خدمات عامّة.

ارتفعت أسعار العقارات كثيراً خلال الفترة الأخيرة، بحيث بقي الاستثمار العقاري ملجأ أساسيّاً أمام انهيار أسعار الصرف والتضخّم السريع. ما فاقم تضخّم العقارات كفرص ريعيّة، تشجّع « أمراء الحرب » على الاستيلاء على الملكيّات الخاصّة والعامّة. خاصّة وأنّ احتكارات تهيمن على مواد البناء. ويجري هذا ضمن إعادة توزيع للسكّان بين الأحياء ومع الريف ما أنتج قوقعة اجتماعيّة على الصعيد المحليّ.

يلعب التهريب والأنشطة غير المشروعة دورًا مهمًا في الاقتصاد السياسي للمدن الثلاث على حد سواء. فهي أصلاً مدن حدوديّة، اشتهرت منذ ما قبل سنوات الصراع بتواجد شبكات ضمنها قادرة على « التهريب » عبر الحدود وعلى التهرّب من أيّة سياسات عامّة. وقد تفاقم هذا الوضع خلال سنوات الصراع مع ضعف الحكومة المركزيّة وهيمنة القوى المقاتلة على الإدارات المركزيّة والمحليّة على السواء.

معظم « أمراء الحرب » في المدن الثلاث ذوي نفوذ محليّ فقط لا يتعدّى المدينة ومحيطها. في حين تأتي « الريوع » الكبيرة من الهيمنة المباشرة على تجارات المحروقات وخدمات الكهرباء والاتصالات، والتي ترتبط بقمّة هرم السلطة المسلّحة في المناطق الثلاث وتقوم على التفاوض بينها.

التوصيات الرئيسيّة

لا يُمكن الاستمرار بتوزيع المساعدات العينيّة على المحتاجين لفترةٍ طويلة، ولا بدّ من استبدالها سريعاً بتوزيعات ماليّة مباشرة أو تنمويّة تشجّع دورة الاقتصاد والتشغيل المحليّين. وكذلك لا يُمكن الاستمرار طويلاً بآليّات دعم أسعار بعض المواد، كما هو الحال خاصّة في مناطق الحكومة والإدارة الذاتيّة، لأنّها تستنفذ الموارد وتخلق مجالاً كبيراً للفساد والتهريب.

لا بدّ من أن تأخذ منظّمات الإغاثة والإدارات القائمة الاقتصاد السياسي الناتج عن آليّات المساعدات والدعم بعين الاعتبار، كي لا تشجّع الاحتكارات و »أمراء الحرب » واستمرار الصراع. وكذلك هو الأمر بالنسبة للقائمين على سياسات الإجراءات الأحاديّة الجانب.

لا بدّ من إعادة تنشيط الاقتصاد المحلّي وإيجاد سبل الشغل وكسب المعيشة للمواطنين. إحدى الأولويّات في هذا الصدد أن تعمل الأمم المتحدة على تأمين عبور السلع والأفراد بشكلٍ حرّ بين المناطق الثلاث، بتوافقٍ مع السلطات القائمة في هذه المناطق ومع القوى الخارجيّة التي تهيمن عليها، ضمن شروطٍ تؤمّن عدم احتكار السلطات القائمة في سوريا واستخدام حريّة الحركة سلاحاً أو وسيلة للتفاوض.

يحتاج التعامل مع الفعاليّات الاقتصاديّة، خاصّة الكبيرة منها، إلى كثيرٍ من العقلانية، بعيداً عن الحرب الإعلاميّة التي يشنّها « أمراء الحرب » على بعضهم البعض في المناطق الثلاث. ومن المفضّل أن يبقى دوماً حاضراً التساؤل عمّن سيستفيد حقيقةً من الخطوة أو الإجراء الذي سيتمّ اتخاذهما؟

لا بدّ من تشجيع النشاطات الاقتصاديّة الصغيرة والمتوسّطة، في حين ستبقى محاطة باقتصاديّات الحرب والتهريب والريع. ولا بدّ من التشبيك بين مشاريع هذه النشاطات وسبل التسويق والتوزيع، والدفع لإنشاء تعاونيّات قطاعيّة يُمكن مساعدتها بشكلٍ جماعيّ. ولا بدّ من أن تتبنّى جميع سبل المساعدة والدعم هدف تحريك العجلة الاقتصاديّة وحركيّة السلع والسكّان بين المناطق وتشجيع العمل التنموي للخروج من الحلقة المفرغة القائمة.

المصدر: منتدى الإقتصاديين العرب

تقرير الاقتصاد السياسي والتداعيات الاجتماعيّة في ثلاث مدن سوريّة

http://www.economistes-arabes.org/fr/wp-content/uploads/2021/06/Political-Economy-Report-Arabic-F.pdf

 

 

الآراء المنشورة في هذه المادة تعبر عن راي صاحبها ، و لاتعبر بالضرورة عن رأي المرصد.