«إعادة الإعمار» بين السياسة.. والسياسات

55

ليست «إعادة إعمار» بلدٍ خاض حربا داخليّة قاسية وطويلة مسألة تقنيّة أو استثماريّة فقط، بل هى أولا وآخرا مسألة سياسيّة وقضيّة سياسات. وتعبير «إعادة إعمار» هو تعبير مجازيّ لا يدلّ على مضمون ما يجب القيّام به فى بلدٍ مثل سوريا اليوم، فيما يخصّ إعادة إسكان الكمّ الكبير من النازحين الداخليين واللاجئين إلى الخارج وعودتهم إلى أحيائهم وقراهم وتأمين حقوقهم فى الملكيّة والمسكن.

«إعادة الإعمار» قضيّة سياسيّة بامتياز للخروج من الحرب إلى السلم الأهليّ. ومن المفروض أن تشكِّل جزءا أساسيّا من أيّة مفاوضات بين الأطراف المتحاربة. مثلها مثل قضايا التوافق على الدستور وصيغة الحكم ومصير المعتقلين والمغيّبين والمحاسبة والمصالحة وعودة النازحين واللاجئين. إنّ الحرب أدّت إلى تهجير قسريّ أو طوعى لفئات اجتماعيّة فى جميع المناطق دون استثناء. ولا يُمكن أن يعود السلم الأهليّ دون أن يعاد بناء إرادة «العيش المشترك» بين المواطنين فى جميع أنحاء البلاد، رغم قسوة آلام الحرب وما خلّفته من جروحٍ عميقة فى النفوس.

على السوريين إخراج قضيّة «إعادة الإعمار» من تجاذبات الدول المتصارعة فى سوريا، كى تضحى قضيّة وطنيّة بامتياز وطرحها بهذه الروحيّة للنقاش العامّ. إذ لا معنى أن تأتى بعض الدول كى تمنع هذا النقاش حتّى ترحل السلطة القائمة ويحصل الانتقال السياسيّ. وأنّه، حينها فقط، ستتدفّق أموالها بمئات مليارات الدولارات لتمويل الإعمار. كما لا معنى أنّ تأتى دولٌ أخرى وتُجبِر المهجّرين السوريين على العودة إلى بلادهم، مع مسحةٍ عنصريّة أحيانا، وكأنّ كلّ شيءٍ أضحى على ما يرام وانتهت الحرب، وكأنّ مسكن هؤلاء المهجّرين ومأكلهم ومشربهم وخدماتهم العامّة الأساسيّة متوافّرة.

يتطلّب طرح «إعادة الإعمار» كموضوع سياسيّ وطنيّ تمحيصا فى الواقع وإزالة الأوهام. إنّ الواقع السوريّ مؤلم فى كثيرٍ من جوانبه ولكن تبقى معالجة الوضع هى سبيل السوريين كى يعود وطنهم إليهم.

***
لقد طال الضرر والدمار عشرات الآلاف من الأبنيّة والمساكن، خاصّة فى حلب والغوطة الشرقية وحمص والرقة ودير الزور وعين العرب/كوبانى وغيرها. الجزء الأكبر من هذا الضرر والدمار كان نتيجة الحرب. إلاّ أنّ جزءا آخر كان نتيجة سياسات، كما هى الحال فى مدينة حماة التى تشير الإحصائيّات أنّ عدد الأبنية المدمّرة كليّا فيها يفوق أيّ مدينة أخرى رغم أنّ الحرب لم تطلها بشكلٍ كبير. السبب هو أنّ منطقتى مخالفات فى مشاع الأربعين ومشاع وادى الجوز قد تمّت إزالتهما بالكامل عام 2013 لإقامة مشاريع سكنيّة جديدة متوقّفة حاليّا. تماما كما تمّت إزالة الأبنية المخالفة فى بساتين الرازى فى وسط دمشق لإقامة مشاريع ماروتا الريعيّة الفارهة، المتوقّفة أيضا. أضِف أنّ الضرر والدمار قد أصاب الكثير من القرى بنسب قد تتعدّى تلك فى المدن رغم غياب المسوحات الدقيقة.

إنّ أغلب النازحين واللاجئين خرجوا من هذه المناطق المتضرّرة. وما يشكّل عائقا أساسيّا أمام عودتهم. ولكنّ اللافت أنّ أغلب النازحين الداخليين بقوا فى مناطقهم ولجأوا إلى مدنها الكبرى وأقاموا فى المساكن التى تركها اللاجئون إلى الخارج واكتظّوا سكّانيّا فى الأحياء والمناطق الأقلّ ضررا. نسبة صغيرة من النازحين الداخليين تقيم فى مراكز مؤقتة، كالمدارس أو المخيمات. أغلبها فى منطقة إدلب على مقربة من الحدود مع لواء الاسكندرون. بالتالى ترتبط قضيّة «إعادة الإعمار» بشكلٍ وثيق مع قضيّة عودة النازحين واللاجئين. أضف أنّها أضحت أكثر حدّة، حيث إن الحرب سرّعت من وتيرة هجرة الريف إلى المدينة بشكلٍ كبير والتى كانت فى صميم مشكلة السكن فى سوريا قبل 2011.

من ناحية أخرى، لم يتوقّف تشييد المساكن فى سوريا خلال الحرب. إذ شهد عاما 2011 و2012 أعلى وتيرة إعمار فى تاريخ سوريا، مع تراخى أجهزة الدولة وتغاضيها عن تشييد المساكن دون ترخيص. واستمرّ الإعمار ولكنّ بوتيرة أقلّ فى السنوات التالية وما زال، خاصّة فى المناطق البعيدة عن جبهات القتال. وعمّ ذلك كل مناطق السيطرة دون استثناء. حتّى إنّ مدنا صغيرة تضاعفت مساكنها ثلاثة أضعاف خلال الحرب. حيث يقدّر أنّ ما شيّد من مساكن يكافئ تقريبا ما دمّر منها، وإن كان ذلك فى غير مناطق الدمار. وتخطّت نسبة السكن المخالف للتراخيص بشكلٍ كبير النسب العالية أصلا التى كانت عليها قبل الحرب، 30 أو 40% فى بعض المدن مثل دمشق وحلب وحمص، نتيجة السياسات السابقة وغياب التخطيط العمرانيّ. وهذا شيء طبيعى إذ إنّ السوريين الذين بقوا فى سوريا ما زالوا يتكاثرون ويحتاجون إلى مسكن. وهذا أيضا ما شهده لبنان خلال حربه الطويلة.

***
هكذا يطرح هذا الواقع إشكاليّات سياسات ومواضيع سياسيّة لا بدّ من مواجهتها. فكيف يتمّ تصليح الضرر وإعمار ما تهدّم وضمن أيّ تخطيط عمرانيّ؟ وكيف يتمّ هذا التخطيط دون مشاركة الأهالى النازحين أو اللاجئين، وحتّى المقيمين؟ وكيف تتمّ معالجة مناطق المساكن المخالفة، بين تلك القابلة للتسوية والأخرى التى لا يُمكن الإبقاء عليها؟ وكيف يجب معالجة المناطق التراثيّة المتضرّرة مثل وسط مدينتى حلب وحمص، وعدم استبدالها بمشاريع ريعيّة للأثرياء فقط؟

وكيف يتمّ تعويض من فقد مسكنه، مالكا كان أم مستأجرا؟ وكيف تتمّ معالجة قضايا الملكيّة فى المساكن المخالفة علما أنّ معظم هذه الملكيّات مسجّلة فى المحاكم وجرت عليها عمليّات بيع وشراء؟ وكيف تتمّ معالجة قضايا فقدان الوثائق الثبوتيّة لدى الأفراد كما لدى الجهات الرسميّة؟ وكيف يتمّ تصليح أو إعادة بناء أبنيّة مشتركة توزّع مالكوها فى أصقاع الدنيا؟

وكيف يتمّ تمويل الإعمار وآلياته؟ أبشكلٍ فرديّ وخاصّ كما كان أغلب تشييد المساكن قبل الحرب؟ أم القيام بإنشاء مدن وضواحى كبيرة جديدة بأسعار مشجّعة لإسكان من افتقر من المواطنين وهم اليوم كثُر؟ وما الذى تحتاجه سوريا حقّا كمساعدة للإعمار السكنيّ والبنى التحتيّة بعيدا عن الأرقام الخياليّة التى تُطرَح سياسيّا والتى تذهب إلى خلق «لعنة المساعدات aid curse» كما يسمّيها الاقتصاديّون التى لا يستفيد منها سوى أمراء الحرب؟ وأمثلة لبنان والعراق بليغة بهذا الصدد. وهل السوريّون هم الذين سيعيدون بناء بلادهم بأيديهم أم شركات أجنبيّة مع عمّال مهاجرين؟

لا يُمكن ترك كلّ هذه القضايا كى تعالج فقط بعد انتقال سياسيّ مفترَض. بل يجب أن تكون موضوعا للتفاوض السياسيّ فى الأساس من أجل وضع قواعد واضحة، خاصّة وأنّ السلطة القائمة لم تنتِج مجموعة قوانين تخصّها كما أنتجته خلال الحرب. فى حين لا بدّ من قواعد واضحة تهدف لخدمة المواطنين والحفاظ على حقوقهم لا على تقاسم الغنائم العقاريّة ما بعد الحرب. قواعد تهدف إلى تحقيق السلم الأهليّ والعودة إلى «العيش المشترك» فى ظلّ المواطنة المتساوية. وإلاّ..

سمير عيطة
المصدر: الشروق

الآراء المنشورة في هذه المادة تعبر عن راي صاحبها ، و لاتعبر بالضرورة عن رأي المرصد.