استوديوات «داعش» : فنون الشر

35

كل المعطيات تدلل على وجود «آلة» دعائية قوية عند تنظيم «داعش»، وعملية مسح سريعة على ما ينشره من أفلام وفيديوات على شبكة الإنترنت تظهر حجم إنتاجه وجودة نوعيته.

لكن السؤال المهم كان بالنسبة إلى المخرج الفرنسي أليكس ماران هو كيف الوصول إليها ومعرفة العقلية التي تقف وراءها؟ للاقتراب من «الآلة الجهنمية» كان على فريق عمل الوثائقي التلفزيوني «استوديوات الإرهاب» الوصول إلى أشخاص عملوا داخلها، فتجربة هؤلاء العملية تغني عن «الانطباعات» العامة وبإضافة تحاليل الخبراء وبخاصة السينمائيين إليها، يكتسب عملهم صدقية وتميزاً أكثر. لهذا اكتفى بتقديم عرض، في مفتتحه موجز لعينات من إنتاج التنظيم الدعائي المصور، ثم ذهب بعدها لمقابلة شخص في اسطنبول عمل في «استوديو الرقة».

يبدي الشاب «زياد» استغرابه لما شاهده من ضخامة ومن بذخ إنتاجي. «كُلفت أول الأمر بتصوير الحياة اليومية في الرقة وحال دخولي إلى المكتب لإكمال عملية المنتجة فوجئت بوفرة ونوعية أجهزة التصوير.

ظننت نفسي وبسبب خبرتي مطلعاً على كل جديد ولكن اكتشفت أنني لم أر إلا القليل في هذا المجال». في مقابلته الأولى مع أحد المشرفين على «الدعاية» عرف مقدار رهان التنظيم عليها. «قال لي لا تفكر بالمال. لديك شيك مفتوح كل ما تطلبه سنوفره لك».

إحدى الحقائق المقدمة في الوثائقي (بدأ عروضه على الشاشات الدولية بعد عرضه الأول على «كانال بلوس» نهاية العام الماضي) أن غالبية العاملين في حقل الدعاية هم من «جيل الديجيتال». تعلم المقيمون من نشطائهم في الغرب فن استخدام أجهزته، وقسم آخر استمد خبرته محلياً، ثم إن «داعش» اختلف عن «القاعدة» برهانه أكثر على هؤلاء، فما يملكونه من خبرة يمكن استغلالها للتأثير على العقول وبما ينجزون يمكن كسب مؤيدين جدد له. سيعترف «أبو مصعب الأردني» المدرب العسكري للتنظيم أثناء مقابلته في مدينة أنطاليا التركية بأنه تلقى أوامر بتشكيل «قوة خاصة للمجاهدين» تتولى عملية تصوير التدريبات وقتل الأسرى. يتوقف الوثائقي عند تصوير عملية قتل مجموعة من الأسرى عام 2014، وكيف تم التعامل معها «سينمائياً».

ووفق خبراء صورة غربيين فإنهم استخدموا على الأقل ثلاث كاميرات لتصويرها من زوايا مختلفة وتمت إضافة مؤثرات صوتية عليها وأن سيناريو قتلهم كُتب باحترافية. ظهرت مثل أفلام «الأكشن» زاخرة بالإثارة والشدة. المرعب وفق شهادة مصور ترك التنظيم منذ عام هو وجود زاوية في استوديو الرقة مخصصة لقتل الأسرى أمام الكاميرات، وبعد ذلك يربطونها بمشاهد مصورة في الخارج، كالتي استخدمت أثناء تصوير الطيار الأردني الذي أشعلوا النار فيه داخل قفص حديدي، إذ صوروا افتراضياً طائرات تقتل أطفالاً سوريين ثم ربطوها بمشاهد إسقاط طائرته ليوحوا للمشاهد بأن حرقه حياً هو جزاء ما فعل.

شهادات المشتغلين في استوديوات داعش عرفت بالمسؤولين الأساسيين عنها، وغالبيتهم من العراقيين. يحيطون عملهم بسرية تامة ويوصلون تعليماتهم وتوجهاتهم بطرق غير مباشرة، أما نقل الأفلام والمواد الدعائية فلا أحد يعرف من المسؤول عن تسريب نقلها عبر الانترنت. أما الخامات المصورة فتجمع من خلال وسائل، منها؛ الكاميرات المنصوبة على قبعات المقاتلين أثناء مشاركتهم في القتال، إلى جانب الكاميرات المنصوبة على الرشاشات، إلى جانب تكليف المصورين ومطالبتهم بالاقتراب إلى أقصر مسافة أثناء المواجهات الحية حتى يحصلوا على أفضل اللقطات.

أنشط المكاتب موجودة في الرقة وفق زياد «مواقعها سرية وأكثرية العاملين فيها من السوريين، الأفلام المنجزة تذهب إلى أشخاص من جنسيات عربية، وهم بدورهم يبثونها ويوزعون بعضها على المراكز العالمية». للتنظيم مواقع ثابتة دعائية في آسيا وأفريقيا تقوم بدور الوسيط وتتكفل بإنتاج برامج إذاعية محلية. عن هيكلية العمل الدعائي يقدم الصحافي الفرنسي وسيم ناصر صورة دقيقة، من خلال خبرته واتصالاته بعدد من المشتغلين به.

أحدهم اسمه الحركي «الشامي» قابله في أمستردام وشرح له تاريخ تطور «الآلة» التي بدأت أول الأول عبر «تويتر» كوسيلة تواصل بين مقاتليهم، ثم توسع إلى الفيديو فالتصوير بالكاميرات المتطورة، وتوج عملها بانضمام «مخرج» محترف جاء من الولايات المتحدة يدعى «عبدالرحمن الأميركي» له الفضل في انتشار أكثر الفيديوات والأفلام الدعائية على نطاق واسع. أما المعدات الفنية فيشترون معظمها من تركيا وعبر حدودها تصل إلى التنظيم.

واللافت أن قبل إعلان «الخلافة»، وصلت مصاريف مكتب الرقة الشهرية إلى أكثر من مئة ألف دولار، وبعد إعلانها بلغت الملايين وارتفعت قيمة المصور المعنوية إلى مرتبة المقاتلين إلى درجة أنه حين قتل أحدهم، نعاه التنظيم في شكل لافت. كما يشير الوثائقي إلى أن «داعش»، ومع اقتراب هزيمته في الموصل والرقة راح يتوجه إلى الأطفال ويركز إنتاجه «السينمائي» عليهم. يريد تقديمهم كأجيال ضامنة لاستمراره، وعبرهم يُوصل رسالة إلى العالم بأنه لم ينتهِ.

عن حقيقة استغلال التنظيم للرسائل الخاطئة التي توصلها «هوليوود» وبعض الإعلام الغربي يقابل الوثائقي شخصيات وخبراء دعاية أوصوا بالتخلص من نشر الصورة النمطية للمسلمين كإرهابيين والابتعاد من الذهنية الربحية إلى أخرى تتفهم الواقع ولا تضع مصالحها الشخصية فوق حياة الناس في الغرب وفي كل مكان من العالم. فدعاية داعش استندت إلى تهويل «مظلومية» المسلمين، بالتالي لا بد من حرق أقوى أوراقهم الدعائية من خلال الانفتاح على العالم والنظر إليه بواقعية وليس بعين سينمائية افتراضية تعلم منها «داعش» كثيراً واستخدمها لمصلحة مشروعه الجهنمي.