الأسد والولاية الثالثة: ثابت لا يمسّ المتحوّل

23

1551923172538_mainimg

قبيل استفتاء تموز (يوليو) 2000، الذي نصّب بشار الأسد وريثاً لأبيه، ولتقاليد نظام الاستبداد كما كرّسته ‘الحركة التصحيحية’؛ ذكّرت شخصياً بأنّ نسبة التصويت في الاستفتاءات على رئاسة الأسد الأب لم تهبط مرّة واحدة عن الرقم الشهير 99′، واعتبرت بالتالي أنه إذا تكرّر هذا الرقم أو معادله (أيّ كلّ ما هو أعلى من الـ 90′) فإنّ الأمر سوف يكون النذير الأبكر على أنّ الابن لن يختلف عن أبيه في تزوير الإرادة الشعبية. أمّا إذا شاء الفتى أن يقنع الشارع السوري، والعالم بأسره، بصدق نواياه في ‘تغيير’ أحوال البلاد، فإنّ الوسيلة الوحيدة والمثلى هي تنظيم تصويت ديمقراطي حقّ، تتوفّر فيه الغرفة المغلقة والمراقبون الدوليون المحايدون (كما يحدث في زيمبابوي والبيرو ونيجيريا وكازاخستان…): إذا حصل المرشح الأوحد على أقلّ من 50′ من مجموع المقترعين، فإنّ الواجب يفرض عليه أن يتنحى باعتباره المرشح الوحيد.

وبالطبع، كان هذا الاحتمال بعيد المنال، وغير ممكن عملياً، في ضوء الأخلاقيات والأعراف التي حكمت وتحكم بنية هذا النظام؛ لكنّ فضيلته الوحيدة كانت أنه يساجل، افتراضياً، ضدّ الذين علّقوا الآمال على احتمال ان تتكشف الأشهر القليلة بعد التصويت على الأسد الابن عن نزوعات ‘إصلاحية’ ملموسة، أو حتى عالية. وبالطبع، كان الفيصل الأوّل هو نسبة الـ 97,29′، التي قيل إنّ الوريث نالها، ثم تعاقبت النذر والمؤشرات الكارثية: من وأد ما سُمّي بـ’ربيع دمشق’، وصولاً إلى الأحكام القضائية القراقوشية، مروراً باشتداد آلة القمع وتنويع أنساق الترهيب الداخلي، لكي لا نتوقف عند المغامرات الكبرى التي أسفرت عن اغتيال رفيق الحريري والانسحاب العسكري من لبنان وتخبّط السياسة الخارجية والخطاب الازدواجي في العلاقة مع الولايات المتحدة والمباحثات السرّية مع الدولة العبرية…

الحقيقة الثانية الكبرى كانت تقول إنّ الأسد الابن ليس مرشح الشعب السوري، ولا يمكن له أن يكون ذلك المرشح، إلا إذا واصل المنافقون والانتهازيون والأزلام (فضلاً عن المتحذلقين في سوريا، وخارج سوريا أيضاً) التأكيد بأنّ أرحام السوريات عجزت عن أن تلد أفضل من هذا المرشح: غير المجرّب، غير المؤهّل، وغير المستحقّ. وباستثناء كفاءة وحيدة (مقدّسة!) تقول إنّ هذا الشبل من ذاك الأسد، فإنّ سجلّ مرشّح تموز 2000 كان خاوي الوفاض، فقيراً، بائساً، ومحدوداً. ففي مطلع العام 1994، حين توفي شقيقه باسل الأسد في حادث سيارة، كان بشار في الثامنة والعشرين، وكان مدنياً. وفي أقلّ من سنة واحدة تحوّل إلى عسكري، وتخرّج من الكلية الحربية برتبة نقيب (على نقيض من كلّ القوانين العسكرية المعمول بها في الكلية، التي تحتم أن يتخرّج الطالب الضابط برتبة ملازم). وخلال شهرين فقط رُفّع إلى رتبة رائد، رغم أنّ القوانين تنصّ على خدمة لا تقلّ عن أربع سنوات قبل الترفيع إلى رتبة عليا جديدة. ولم يمض عام آخر حتى رُفع الرائد إلى عقيد، وفي أقلّ من ستّ ساعات ـ في حزيران (يونيو) 2000، ساعة وفاة أبيه ـ رُفّع العقيد إلى رتبة فريق أوّل، وقائد عامّ للجيش والقوات المسلحة؛ قبل أن يُسمّى أميناً عاماً قطرياً لحزب البعث الحاكم، وأميناً عاماً قومياً (حتى دون أن ينعقد المؤتمر القومي للبعث!)، ومرشحاً لرئاسة الجمهورية.

هل تغيّر مرشّح حزيران 2014، عن مرشح حزيران 2007، ومرشّح تموز 2000؟ بالتأكيد، وسبحان الذي يغيّر ولا يتغيّر: لقد تغيّر، نحو الأسوأ في السجلّ السياسي، والأشرس في تشديد القمع، والأوضح في تشجيع الفساد والنهب؛ كما تبدّل من رأس نظام عائلي وطغمة فاشية، إلى قاتل أطفال بكلّ سلاح ممكن، بما في ذلك الكيماوي، ومرتكب مذابح جماعية، وقائد ميليشيات طائفية، ومسلِّم سوريا إلى إيران و’حزب الله’ والمرتزقة المجرمين القادمين من أربع رياح التشيّع المذهبي الطائفي الشائه؛ أو، في جماع هذه الشنائع، صار اختزال الشعار الشهير: ‘الأسد، أو نحرق البلد’.

ولهذا فإنّ الوريث، في تبيان الحقيقة الثالثة، لم يكن منذ البدء مرشّح ‘أهون الشرور’، كما حاجج في الماضي بعض العباقرة السفسطائيين، خصوصاً أولئك الذين تغنّوا بحكاية ‘استقرار’ سورية في عهد الأسد الأب، واحتمال تنعّمها باستقرار مماثل في طور الأسد الابن. وعشية استفتاء تموز 2000، كان المرشّح يفتقر إلى الخبرة الإنسانية (تلك التي كانت وما تزال السبب في أنّ معظم الدساتير تشترط في المرشح لرئاسة الجمهورية أن يبلغ سنّ الأربعين)؛ وهذه لا تصنعها اللقاءات الاحتفالية مع الساسة الكبار أو الصغار، أو تزعّم حملة استعراضية في تطوير ‘المعلوماتية’ هنا، وأخرى تجميلية في ‘محاربة الفساد’ هناك.

وفي المناسبة ‘الدستورية’ الأولى لعهده، استفتاء سنة 2000، كانت نسبة الـ 97.29′ لطمة عنيفة ذكّرت المواطنين بما كان يتكرّر في الماضي من نِسَب مماثلة عند التجديد لانتخاب الأسد الأب؛ الأمر الذي شكّل، في كلّ مرّة، مصادرة صريحة للعقل الطبيعي والمنطق السليم، وإهانة مباشرة للمواطن السوري الذي لم يكن له من حول أو إرادة في ما يُزوّر باسمه من نتائج الـ 99′. وكانت تلك النتيجة دليلاً مبكراً على انطباق الحافر على الحافر في ما يخصّ علاقة السلطة مع الشعب، ثمّ مع القانون والشرعية والحقّ.

وفي المناسبة ‘الدستورية’ الثانية، أي خطاب القسم الشهير الذي أعقب الاستفتاء ذاك، أعلن الأسد الوريث أنه لا يملك عصا سحرية لتحقيق المعجزات’. وفي الواقع لم يكن أحد يطالبه بإشهار عصا سحرية، أو يفترض الحاجة إليها، قبل أن يتمكن من إلزام نفسه أمام الشعب بإلغاء الأحكام العرفية، أو إعادة تنظيم الحياة السياسية بما يكفل بعض التعددية وبعض الحريات في التعبير والتجمّع والتنظيم، أو إصدار عفو عام، أو سنّ جملة من القوانية الإدارية والتنظيمية التي بات المجتمع بحاجة ماسة إليها، علي سبيل الأمثلة فقط. الأساس ظلّ مرتبطاً بهذا المعطى الكبير الأوّل: إذا كانت بنية نظام ‘الحركة التصحيحة’ عصيّة على الإصلاح، كما أدرك ويدرك الكثيرون ممّن كانوا قبلئذ في رهط المتفائلين بتوريث الأسد (وبينهم سيدات وسادة يتصدرون، اليوم، مؤسسات المعارضة السورية الخارجية)؛ فإنّ النظام ذاته ظلّ، استطراداً، عصيّاً على الانفتاح، أو عاجزاً موضوعياً عن ذلك الطراز من الانفتاح الذي يستوجب تقويض الركائز السابقة التي كانت تصنع الانغلاق، أياً كان مدلول هذه المفردة الأخيرة.

وهكذا، في مناسبة ترشيح الأسد لولاية ثالثة، نستذكر أنّ بشار الأسد بدأ، ويظلّ اليوم أيضاً، ابن النظام الذي شيّده أبوه منذ تشرين الأول (أكتوبر) 1970، وربما منذ تولّى حافظ الأسد منصب وزير الدفاع سنة 1966. الابن، استطراداً، ليس وريث أجهزة الاستبداد والقمع والفساد والنهب المنظّم والتجنيد الطائفي ورهن إرادة البلد… فحسب؛ بل هو، بالقدر ذاته، وارث سلسلة من السياسات التي ليس في المستطاع تعديلها، أو تبديلها، دون كسر معمار النظام الأمني ـ العسكري، المتصلّب المتقرّن المتحجّر، الذي ازداد اليوم فاشية وانغلاقاً وطائفية.

من هنا كانت انتفاضة آذار (مارس) 2011 إعلاناً شعبياً حاسماً بأنّ تقويض النظام، أي كسر ذلك التصلّب والتقرّن والتحجّر، هو خطوة ثورية وتاريخية وحيدة، لا مناص منها ولا غنى عنها، أياً كانت آلامها، لكي تطوي سوريا صفحة آل الأسد: مرّة وإلى الأبد.