الأسد ويانوكوفيتش.. ما بين «بوز» تشومبي ووجه عشتروت!

20

48968099549920_10200735250170282_443059945_n

في بدايات سبعينات القرن الماضي، وبينما كانت منطقة الشرق الأوسط ملتهبة بالصراعات العقائدية وكانت بيروت عاصمة للمقاومة ولليسار بكل أشكاله وأنواعه، رد المثقف التونسي العفيف الأخضر، رحمه الله، الذي كان أحد مستشاري أحمد بن بيلا والذي كان متأثرا ببعض التنظيمات الفرنسية المتطرفة، على مقال نشرته أسبوعية «الهدف» الناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (جورج حبش) لكاتب عراقي يدعى (أبو إنمار) بمقال تهكمي لاذع قال فيه: «إن الفرق بين فهمي للماركسية وفهم (أبو إنمار) كالفرق بين وجه عشتروت و(بوز) تشومبي».

وكان نظام مويْس كابيندا تشومبي هذا، الذي كان في تلك الفترة رئيسا لـ«الكونغو» التي هي «زائير» سابقا، أكثر أنظمة الكون تخلفا ودموية وكان هو المسؤول عن تصفية الثائر الأفريقي ذي الميول اليسارية باتريس لومومبا الذي أطلق الاتحاد السوفياتي اسمه على إحدى جامعات موسكو التي كان اسمها «جامعة الأمم». أما عشتروت، فهي آلهة الخصب لدى الفينيقيين والكنعانيين التي هي أصل عقيدة إيزيس لدى المصريين القدماء والتي يطلق عليها البابليون اسم عشتار، بينما يطلق عليها القرطاجيون اسم تانيت والإغريقيون اسم أفروديت.

وإن ما ذكر بمشاغبة وتشنيع العفيف الأخضر، الذي كان طلب مني في تلك الفترة البعيدة التي لم يبقَ من ذكرياتها إلا ما يشبه الوشم في ظاهر اليد، أن أنشر في صحيفة طلابية كان يصدرها من بيروت الاتحاد العام لطلبة الأردن، الذي كنت رئيس هيئته التنفيذية، رسالة موجهة إلى الطبقة العاملـة الإسرائيلية يدعوها فيها إلى وقفة تقدمية أممية إلى جانب الشعب الفلسطيـني والمقاومة الفلسطينية. وبالطبع، فإنني قد رفضت طلبه هذا، لأن مفاهيم «كامب ديفيد» لم تكن قد تسربت إلينا بعد ولأن حرب أكتوبر (تشرين الأول) ما كانت قد اندلعت وفتحت أبواب الحديث عن الحلول السلمية على مصاريعها.

.. إن ما ذكر بتلك المشاغبة خفيفة الظل، هو أوجه الشبه بين الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش وبشار الأسد، وهو أنه بالإمكان استخدام هذه الصورة آنفة الذكر التي رسمها العفيف الأخضر لإيضاح مدى البعد بين فهمه وفهم (أبو إنمار) للماركسية والقول إن الفرق بين يانوكوفيتش والرئيس السوري هو كالفرق بين «بوز» تشومبي ووجه عشتروت. والمقصود هنا هو الفرق بين تعامل كل منهما مع الأزمة الطاحنة في بلده ومع تأكيد أن الأزمة الأوكرانية لا تزال تشكل مجرد شرارة صغيرة قياسا بالأزمة السورية، التي لم تشهد مثلها هذه المنطقة حتى في زمن هولاكو وتيمورلنك.

وبالطبع، فإن الاثنين؛ أي بشار الأسد وفيكتور يانوكوفيتش، يعتبران بيدقين على طاولة شطرنج الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، وأنهما يلعبان دور التابع الذي لا قرار له إلا قرار سيده، الذي هو فلاديمير بوتين، الذي وصفه أحد المعلقين الذين يعرفونه معرفة أكيدة، منذ أن كان ضابطا في جهاز الـ«كي جي بي» السوفياتي وإلى أن أصبح على ما هو عليه الآن، بأن الفرق بينه وبين جوزيف ستالين أن ذلك الديكتاتور القديم لم يكن يملك سوى غليونه وحذائه الطويل، بينما يملك الديكتاتور الجديد المليارات من الدولارات التي تعتبر أموالا خاصة لا علاقة لها بأي من تطلعاته السياسية.

لكن ومع أن الاثنين، يانوكوفيتش وبشار الأسد، يشتركان في أمور كثيرة، إلا أن الأول لولا الضغط الذي بقي يمارسه بوتين عليه، ليس حبا فيه وإنما تحاشيا لسقوط أوكرانيا، هذا البلد المهم ذي الموقع الاستراتيجي المؤثر بالنسبة لروسيا، في قبضة حلف الأطلسي، لكان قد رفع يديه مبكرا واستسلم لرغبات شعبه ولما فكر حتى مجرد التفكير في أن يفعل ما فعله الرئيس السوري، الذي كان مثله الأعلى – ولا يزال – ما فعله والده حافظ الأسد بحماه في عام 1982 التي قتل من أهلها نحو أربعين ألفا وألحق بها دمارا لم يلحقه الغزاة التاريخيون بالبلدان التي احتلوها، من أجل استمرار حكمه وحكم ابنه وعائلته كل هذه السنوات الطويلة.

ثم ورغم أن هناك الكثير من التشابه بين حاضر وبعض ماضي أوكرانيا وحاضر سوريا وماضيها منذ أن انقلب حافظ الأسد على رفاقـه في عام 1970 وأذاب أعمار بعضهم في زنازين سجن المزة، الذي كـان – ولا يزال – عنوان الاستعمار الفرنسي، فإن هناك بعـض الفروق المتمثلة في أن الأوكرانيين منذ خروجهم من الحقبة السوفياتية تمتعوا بشيء من الديمقراطية وبانتخابات حرة أنتجت هذا البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة الديمقراطية وأنتجت ظاهرة رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو التي كان مصيرها العزل والزنازين «الستالينية» والتي تم تحريرها قبل أيام بعد الزلزال الأخير الذي قلب الأوضاع في هذا البلد رأسا على عقب والذي قد يستدعي تدخلا عسكريا روسيا، كان فلاديمير بوتين قد لوح به أكثر من مرة.

وكذلك، فإن المعروف أن الأوروبيين والأميركيين أيضا يعتبرون أوكرانيا أكثر أهمية من سوريا – إنْ بالنسبة إليهم وإنْ بالنسبة لحلف شمالي الأطلسي. ولهذا، فإن موقفهم اتخذ طابعا أكثر حزما وجدية من المواقف التراجعية التي اتخذوها تجاه الأزمة السورية منذ بدايات انفجارها في مثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات.

وهنا، فإن ما يجب أخذه بعين الاعتبار هو أن الجيش الأوكراني أصر على أن يقف على الحياد بين المعارضة الأوكرانية ويانوكوفيتش الذي لم يخفِ انحيازه، منذ بداية هذا الصراع الذي بقي محتدما منذ أعوام عدة، إلى بوتين وإلى روسيا الاتحادية، وكذلك فإن رئيس أركانه قد اختار التنحي ومغادرة موقعه عندما أصبح مضطرا إلى: إما الانسحاب وإما فعل ما بقي جنرالات بشار الأسد يفعلونه بالشعب السوري وبالمدن والقرى السورية.

لقد حال هذا الموقف الذي اتخذته القوات المسلحة الأوكرانية، دون غزو عسكري روسي لهذا البلد لفرض الإرادة الروسية على شعبه، وذلك في حين أن استخدام الجيش السوري، الذي تم تحويله بغالبية ضباطه الفاعلين وعلى مدى أربعين عاما وأكثر إلى كتلة عسكرية طائفية متماسكة، قد بقي ومنذ اللحظة الأولى لانفجار أحداث درعا متماسكا، وهذا هو ما جعل الانشقاقات في صفوف هذا الجيش تتخذ طابعا فرديا وطابع المجموعات الصغيرة في أحسن الأحوال.

ربما يانوكوفيتش قد استنجد سرا ومن دون إعلان بالرئيس بوتين وطلب منه تدخلا عسكريا للقضاء على المعارضة الأوكرانية، التي لا شك في أنها بقيت تستند إلى دعم أوروبي وأميركي جعل موازين القوى تميل لمصلحتها وفقا لما شاهدناه في الأيام القليلة الماضية، لكن ولأسباب كثيرة فإن مثل هذا التدخل، الذي يبدو أنه لا يزال واردا، لم يحصل، وهذا يختلف اختلافا هائلا عما جرى في سوريا، حيث بدأ التدخل العسكري الإيراني، بحراس الثورة وفيلق القدس وبـ«الباسيج» وحزب الله وأكثر من اثني عشر تنظيما طائفيا، في الشؤون السورية منذ اللحظة الأولى وحيث أصبح القرار السياسي السوري في يد الولي الفقيه في طهران وفي يد سيرغي لافروف الذي يمثل «الكرملين» في لعبة الأمم الجديدة التي أخذت تلعبها الدول المعنية على الساحة السورية.

لكن ورغم كل هذه الاختلافات، فإن ما يشكل عاملا مشتركا بين سوريا وأوكرانيا هو أن البلدين أصبحا ساحتي صراعات إقليمية ودولية وساحتي مواجهة أميركية – روسية وأن أزمتيهما ما زالتا مفتوحتين على شتى الاحتمالات وبحيث إننا قد نصحو ذات صباح قريب لنرى الجيش الروسي وهو يجتاح العاصمة الأوكرانية كييف ولنرى قوات «الجيش الحر» والمعارضة السورية وهي تدخل دمشق متوجهة إلى القصر الرئاسي، بينما أعمدة دخان الحرائق تتصاعد فوقه.