الأغراض السياسية والعسكرية من المنطقة الآمنة في سوريا

27
لم يلتفت أحد إلى الشعب السوري عندما كان في أمسّ الحاجة إلى منطقة آمنة، تقيه الموت والاعتقال والتشريد، وبقي شعار «المنطقة الآمنة مطلبنا» الذي رفعه المتظاهرون السلميون مطلع ديسمبر (كانون الأول) عام 2011 مجرد شعار بارد، لم يلبث أن طُوي مع إحجام العالم كله عن تقديم يد العون لشلّ القدرات الضاربة والأكثر فتكاً للسلطة السورية وحلفائها، لكن وللأسف، تغدو المنطقة الآمنة اليوم مشروعاً قابلاً للتنفيذ مع توافق المصالح والحسابات «الأنانية» للنخب الحاكمة في أهم الدول المنخرطة في الصراع السوري.
لم تأتِ الموافقة الصريحة للرئيس الأميركي دونالد ترمب على منطقة آمنة إلا عندما قرر سحب قواته من شرق سوريا، ربما لحفظ ماء الوجه، وكي لا يبدو قرار انسحابه أشبه بمزيد من الإذعان والتسليم لإرادة موسكو في تقرير مصير سوريا، وربما كمخرج لا يظهره كمن خذل حلفاءه الأكراد وتركهم لقمة سائغة أمام الجيش التركي، ما يعرقل الاتجاه الكردي الذي يميل إلى مهادنة النظام والعودة إلى أحضانه، وربما لإرضاء حكومة أنقرة ولجم اندفاعها، وإنْ مؤقتاً، لملء الفراغ وتوسيع رقعة حضورها عسكرياً، من دون أن نغفل توظيف هذا الخيار لإشراك أطراف عربية في التأثير بالمستقبل السوري، من خلال دعوته لها كي تتحمل جلّ الأعباء المادية لإنشاء المنطقة الآمنة، وفي الطريق مغازلة الموقف الأوروبي الذي يميل، عبر تصريحات ألمانية وفرنسية وبريطانية، إلى إنشاء منطقة آمنة. والدافع مشترك هو التعويل على هذه المنطقة لاحتواء سيل الهاربين من أتون العنف، وتخميد نزوعهم للهجرة نحو البلدان الغربية، وأيضاً لضمان إغلاق الحدود بين سوريا وتركيا، وعرقلة التحاق «الجهاديين» الإسلامويين ذوي الأصول الأوروبية بالجماعات الإرهابية هناك.
في المقابل، وبرغم تكرار مطالبة تركيا بمنطقة آمنة، لكن يبدو أنها تتحسب اليوم من أن يعيق هذا الخيار تمددها وتوسيع نفوذها في سوريا، خاصة إنْ لم تستطع تسخير تلك المنطقة لقطف بعض المنافع والثمار. أولاً، تحصيل شرعية دولية عبر قرار أممي لإدارة هذه المنطقة، وتالياً لوجود تركيا العسكري في سوريا، ما يخفف حاجتها إلى التوافق مع موسكو في هذا الصدد، ويساعدها على ربط هذه البقعة الجغرافية، اقتصادياً وأمنياً وتعليمياً، بها، كما فعلت في كل موقع احتلته عسكرياً. ثانياً، مدّ نفوذ تركيا إلى شرق البلاد عندما تشمل المنطقة الآمنة شريطاً حدودياً بطول 80 كيلومتراً، وبعمق يتجاوز 40 كيلومتراً، بما يمكنها من وقف تدفق مزيد من اللاجئين السوريين إلى أراضيها ثم تأهيل تلك المنطقة لاحتواء قسم كبير منهم يمكن تسييره من مخيمات اللجوء، عدا تحويلها إلى ما يشبه القاعدة لتجميع فصائل المعارضة المقربين منها، وتأهيلهم كورقة ضغط في مفاوضات المحاصصة على النفوذ في سوريا والمشرق العربي! ثالثاً، وهو الأهم، توظيف تلك المنطقة كشريط عازل على طول الحدود لوأد احتمال تبلور وضع عسكري وميداني للأكراد السوريين، يؤهلهم لإقامة كانتونهم القومي، بما في ذلك التنكيل بهم وإرهابهم، والمثال مدينة عفرين، لإجبارهم على الهجرة وإحلال جماعات أهلية موالية لأنقرة مكانهم، ما يضعف وزن حزب العمال الكردستاني، ويعزز مواجهته عسكرياً على الأرض التركية وتطويع ملحقاته السياسية ووسطه الانتخابي.
لا يمكن تفسير سياسة موسكو التي تفهمت تصريحات ترمب حول المنطقة الآمنة، وإن اشترطت موافقة دمشق المسبقة عليها، إلا بأنها نوع من المرونة، كأن الغرض هو مغازلة الرئيس الأميركي وتخفيف ردود الفعل ضده على مشارف انسحاب قواته من سوريا، أو الاستعانة بفكرة المنطقة الآمنة لمحاصرة تمدد طهران والميليشيا الموالية لها في شرق البلاد، وربما لتشجيع الأكراد السوريين على التعاطي الإيجابي مع حكومة دمشق، بدليل بدء رعاية موسكو مفاوضات مشتركة بينهما، أو لإيجاد معيار جديد في التعاطي مع الوجود التركي في سوريا، تمهيداً لنسف اتفاق سوتشي حول مدينة إدلب، والبدء بتهيئة الأجواء لحرب استئصال تهضم آخر منطقة من مناطق خفض التصعيد، متوسلة عجز أنقرة عن الحد من مخاطر «جبهة تحرير الشام» (النصرة) التي تمكنت من توسيع سيطرتها في إدلب وأرياف حماة وحلب.
ويبقى الواضح هو إصرار النظام السوري وحليفته إيران على رفض فكرة المنطقة الآمنة، تحت ادعاء أنها تشرعن تقسيم البلاد، ولكن الحقيقة تتجلى بدافع استئصالي عميق لديهما ضد ثورة السوريين يحدوه تصعيد العنف والقتل والتدمير وتشديد الحصار لإثارة رعب المدنيين وإرهابهم وإجبارهم على الفرار أو تهجيرهم قسرياً، بما في ذلك رفض تحييد أي بقعة سورية يناهضها أهلها، ويمكنها استقبال النازحين وتجنيبهم شروط اللجوء القاسية خارج البلاد!
من تحصيل الحاصل أن تعلن المعارضة السورية التي طالما طالبت بمنطقة آمنة، موقفاً مؤيداً لإعلان ترمب، لكن مع تحسبها من أن لا يفضي ذلك إلى إرباك مصالح راعيتها تركيا، بينما نكأت عودة الحديث عن منطقة آمنة جروح غالبية السوريين المنكوبين، وأثارت عندهم سؤالاً لا يزال مفتوحاً على الغموض والضياع؛ هل ستسمح فعلاً المستجدات اليوم بتبلور تفاهم أممي يفرض منطقة آمنة تكون حلقة داعمة لمسار التسوية السياسية، وفاتحة لتخفيف معاناة السوريين وما يكابدونه، أم سيغدو هذا الهدف سبباً لمزيد من التجاذبات الإقليمية والدولية، وحافزاً لتسعير الصراع الدموي وتعميق حالة الانقسام والتشظي والقهر في المجتمع السوري؟
صحيح أن المنطقة الآمنة كانت باب خلاص لشعوب عانت الأمرين من الحروب والفتك والاضطهاد، كشمال العراق عام 1991، ثم البوسنة عام 1992، وبعدهما ليبيا عام 2011، وصحيح أن ثمة حاجة أخلاقية وإنسانية مزمنة لبذل جهد أممي يعمل على منطقة آمنة للشعب السوري بعيدة عن العنف والتنكيل السلطويين، وخالية من «داعش» والتنظيمات الإرهابية الأخرى، ولكن الصحيح أيضاً أن ثمة مياهاً كثيرة جرت، بدّلت توازنات القوى، وغيرت المواقف والاصطفافات، وأفقدت المنطقة الآمنة جدواها الإنسانية، لتغدو محكومة بأغراض سياسية وعسكرية، تتقارب حيناً وتتعارض أحياناً، بين أهم الأطراف الفاعلة والمؤثرة بالصراع السوري، ما يجعلها أشبه بكرة ثلج تتدحرج وتكبر من دون اتجاهات معروفة لها، ويرجح أن تفتح على معطيات وتحديات جديدة قد تمهد لإبقاء الإقليم في حالة توتر وعدم استقرار، هذا إنْ لم تستجرّ صراعات وحروباً لا أفق لها.

أكرم البني
المصدر: الشرق الأوسط