الأكاديمي محمد الشاكر: الحل السياسي يبدأ من مشروع وطني بعيدا عن التدخلات الأجنبية.. وما يجري بين النظام والمعارضة مجرد صراع على السلطة

176

في خضم الأزمة العميقة التي تعصف بسورية منذ قرابة عشر سنوات وما خلّفته من آثار مدمّرة على الاقتصاد والوضع المعيشي والأمن العام للمواطنين السوريين، يواصل المرصد السوري لحقوق الإنسان إجراء لقاءات مع مختلف الأطياف السياسية في سورية لمحاولة بلورة رؤية مستقبلية تُترجم المطالب الشرعية للشعب السوري وتضع الأسس لبرامج واقعية ورؤية جماعية لحل الأزمة. وفي هذا الإطار، حاور “المرصد السوري” الباحث والأكاديمي المعارض الدكتور محمد خالد الشاكر.

واعتبر “الشاكر” أن التغيير الديمقراطي بأبعاده المتعددة مرتبط في أحد جوانبه بفهم ماهية النظام وموقعه داخل النظام الدولي وعلاقاته البينية إقليمياً ودوليا، من جهة، وببنية المجتمع السوري وعاداته وثقافته وتقاليده من جهة أخرى. ولفت خالد الشاكر إلى أن الإجهاز على الحراك السلمي من قبل النظام بمساعدة بعض القوى الخارجية حوّل سورية إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية والإقليمية، قبل أن تتداخل فيها قوى التنافس والتواطؤ الإقليمي مستفيدة من العامل المذهبي، فعصفت بالبلاد حرب دينية طرفاها الميليشيات الطائفية المدعومة من إيران والجماعات المتطرفة المدعومة من تركيا.

وتابع: “هذه كانت المرحلة الأطول والأشرس التي أدخلت البلاد في أتّون حرب مدمرة لاعلاقة لها من بعيد أو قريب بفكرة التغيير الديمقراطي في مواجهة الإستبداد، بقدر ما أفسحت المجال أيضاً أمام التدخل العسكري الروسي، وتشكيل التحالف الثلاثي أو ما يسمى بـ”الضامنين الثلاثة” (روسيا، تركيا، إيران) الذين استحوذوا على كامل العملية السياسية وشكلوا معارضات غير متجانسة تشبه تحالف الضرورة فيما بينهم، بل وتتسق ومخرجات التفاهمات الحاصلة، فولدت معارضة رسمية هشة تابعة للضامنين وتعبر عن مصالحهم، وتفتقر إلى أدنى مقومات المشروع الوطني الجامع، إلى جانب افتقارها لمشروعية تمثيلها من قبل السوريين”.

وقال “خالد الشاكر” إن الإبقاء على التركيبة المشار إليها يعني الإبقاء على سورية بدون حل، لهذا “لا مناص من الدعوة إلى استعادة القرار السوري المستقل من خلال معارضة وطنية ديمقراطية تعمل على مشروع وطني جامع، قادر على التغيير الديمقراطي الذي خرج من أجله السوريون، وقدموا على مذبح الحرية ما لم يقدمه شعب في التاريخ الحديث والمعاصر”.

وردا على سؤال حول الشكل الأمثل للدولة السورية، قال الأكاديمي السوري: “في فقه القانون الدولي وحقوق الإنسان، لا عبرة لشكل الدولة (بسيطة كانت أم موحدة أو اتحادية أو فيدرالية) ولا عبرة أيضاً لشكل النظام السياسي (رئاسي، برلماني، شبه رئاسي، مجلسي)، لأن هذه الأشكال هي إفرازات أو إطار قانوني لغاية مؤداها ممارسة الديمقراطية والشعور بالمواطن. لذلك، فالعبرة بإصلاح المؤسسات الدستورية وتصميمها بطريقة شفافة في إطار مبدأ الفصل بين السلطات وإعطاء هذه المؤسسات دورها كضابط قانوني وحقوقي لبناء دولة مؤسساتية يخضع لها الجميع –حكاماً ومحكومين- تحت سقف القانون.. دولة تأخذ في دستورها الدائم بحقوق الإنسان ومبادئ حقوق الأفراد وحرياتهم العامة”، وفق تصوره.

ويرى “خالد الشاكر” أن الحل السياسي يبدأ من صياغة مشروع وطني جامع كخطوة أولى نحو التغيير الديمقراطي، ومن ثم وضع محددات الدولة التي تناسب هذا المشروع، بما يفضي إلى سلام مستدام في إطار سورية الموحدة كغاية نهائية، مشيرا إلى أن “مطلب السوريين هو الديمقراطية والحرية والكرامة، وبالتالي فإن الحل في سورية يبدأ مع تجميع القوى الوطنية الديمقرطية، والعمل على مؤتمر وطني عام يؤسس لتيار ديمقراطي يدفع نحو مؤتمر دولي للسلام في سورية”، إلا أنه أشار إلى أن الأمر “يتوقف على توافق روسي –أمريكي، أما الإبقاء على هذه التركيبة الحالية، فهو يعني الإبقاء على حالة من الدوران في حلقة مفرغة من التجاذبات الحادة بين (الضامنين أنفسهم)، وانعكاساتها على المعارضات التابعة لهم”، حسب تقديره.

واستطرد: “لاحظوا أن أقصى ما تطالب به تركيا اليوم هو العودة إلى خطوط اتفاق سوتشي، أي ما يضمن مصالحها الاستراتيجية، ولا يمكن لمكوناتها في المعارضة سوى العمل على تحقيق هذه الغاية، في نأي واضح عن مضمون العملية السياسية أو التغيير الديمقراطي الذي تضمنه القرار 2254”.

ولفت المعارض السوري إلى “وجود تباينات حادة بين قوى المعارضة، باستثناء التجانس في الائتلاف الذي يأتمر برمته بتوجهات السياسة التركية، فالخلافات داخل هيئة التفاوض واللجنة الدستورية تبدو حادة ومتباينة جداً، ما يعيق أي دور وطني”. وقال إن “الخلافات اليوم بين المعارضات داخل مكونات المعارضة الرسمية، الائتلاف من جهة وداخل هيئة التفاوض واللجنة الدستورية من جهة أخرى، أعمق بكثير من خلافاتها مع النظام، الذي أصبح بالنسبة لهم مجرد حالة من الاستعصاء، فأصبحت الأولوية لصراع المعارضات فيما بينها على مقعد أو سلطة أو منصب هنا وهناك. وبالتالي، فإن الموضوع لا يتعدى سيكولوجيات مهووسة بالسلطة والصراع عليها، سواء في علاقتها مع بعضها أو مع النظام”.

ويرى “خالد الشاكر” أنه “لا شيء يلوح في الأفق بأن سورية مقبلة على أي نوع من الاستقرار أو حتى السلام النسبي على الطريقة اللبنانية أو العراقية، مع فارق أن سورية قياساً بالنموذجين السابقين شهدت لجوء ونزوح ما يقارب نصف شعبها، حيث دمرت البنى التحتية لمحافظات بأكملها. لذلك، سورية الآن مفتوحة على جميع الاحتمالات نحو الأسوأ، لاعتبار وحيد مفاده أن توليفة الحل لا تزال محتكرة في إطار نوع من تحالف الضرورة، الذي يقوم على التواطؤ والتنافس والترغيب والترهيب بين روسيا وتركيا وإيران، في الوقت الذي يبدو فيه الأمريكي -كعادته- غير مستعجل”.

واعتبر الدكتور محمد خالد الشاكر، أن المظاهرات السلمية في سورية كانت الفرصة التاريخية للتغيير الديمقراطي، في مواجهة الحرب التي أرادتها جميع الأطراف المتصارعة لتصفية الحسابات فيما بينها، سواء تلك الدول التي وقفت مع المعارضة، أو تلك التي ساندت النظام. وأردف: “هنا يحضرني نموذجين فكريين، أحدهما ما تحدث عنه عبد الرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد)، حين شبه استخدام العنف كوسيلة للتغيير -في مواجهة حاكم مستبد- باستفزاز فيل في غرفة من الفخار. والنموذج الثاني ما أورده يان تيوريل في كتابه (محددات التحول الديمقراطي) الذي ربط مراحل التغيير الديمقراطي بنوع النظام الأوتوقراطي أو الاستبدادي الشمولي، معتبراً -أي تيوريل- أنّ التظاهرات السلمية قادرة على التحول الديمقراطي بعكس الإضرابات والنزاعات المسلحة، لذلك شكل خيار الحرب والدفع نحوها ملعباً للأوتوقراطية الحزبية والعسكرية للنظام”.

ويعتبر الأكاديمي السوري أن السبب الأول في الأزمة المتشعبة في سورية هو اختيار النظام الحلَّ الأمني عندما اتهم كل من يعارضه بالإرهاب، وساعده في ذلك أداء المعارضة التي قدمت نفسها لمراحل طويلة كمؤيدة وداعمة لجماعات مصنفة دولياً على قائمة الإرهاب، لافتا إلى اشتغال قوى من داخل المعارضة على ذلك، وبذلك “قدمت خدمة جليلة للنظام وفرصة على طبق من ذهب ليثبت نظريته للعالم بأنه يحارب الإرهاب”.

ويرى “الشاكر” أن”هذا الأداء كان مدفوعاً من قبل مخابرات دول، أدواتها في ذلك مراهقين سياسيين وجهلة ومرتزقة يعتقدون أنّ الوطن مجرد لعبة قمار”، مضيفا: “على قاعدة العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، تم تهميش كل وطني ومتعقل وعالم ووطني شريف.. وهكذا، تحولت مطالب التغيير الديمقراطي إلى حروب متشظية بالوكالة لهذا الطرف أو ذاك”.

وأوضح الشاكر أن “النظام بالأساس انصاع منذ البداية لرؤية المستشارين الإيرانيين الذين وعدوه بالقضاء على الحراك السلمي خلال أشهر، تماماَ كما حدث في الثورة الخضراء في إيران، وقد أدى ذلك إلى انقسام حتى داخل المؤسسة الأمنية للنظام بين مؤيد للفكرة ومعارض لها، لكن في النهاية انصاع لرؤية هؤلاء المستشارين”. وأضاف: “كانت رؤى قاسم سليماني في الدمار والفوضى تتقدم على نصائح أبناء الوطن. ومن هنا، بدأت المقتلة الأولى لدخول سورية في أتون صراع لا ينتهي.. ولم يستفد النظام من تجربته مع إيران في لبنان حين ورطته بمشاكل أفضت إلى إصدار القرار 1559 وقانون محاسبة سورية، فخرج من لبنان لتسيطر عليه إيران، كما لم يستفد من انقلابها عليه، حين أوعزت لنوري المالكي باتهام سورية بتفجيرات الأربعاء الأسود في العراق سنة 2009 والمطالبة بتحقيق دولي ضدها، كما لم يتفهم -حتى هذه اللحظة- ماهية السياسة الخارجية الإيرانية التي تقوم على أفكار مثل التواجد والإيهام، وضرب الصديق من أجل التفاوض مع العدو”.

وردا سؤال حول عدم قدرة النظام في سورية على البقاء بدون الروس، قال محمد خالد الشاكر إن “النظام ما كان ليستمر ويبقى كمؤسسة بدون الروس، ولكن كان يمكن أن يتحول إلى كانتون عسكرتاري في منطقة نفوذ واحدة، إذا اختار الإيرانيين بدون الروس”، متابعا: “صحيح أن إيران موجودة على الأرض، ولكن إيران لا تريد من سورية سوى تحويلها إلى منطقة فوضى، والروس أنفسهم يدركون أن بقاء الإيراني على المدى الإستراتيجي هو تهديد لمصالحهم في آخر موطئ قدم لهم في المياه الدافئة، وهم -أي الروس- لن يكرروا الخطأ الأمريكي في العراق، عندما استخدمت إيران سياسات الفوضى وفرق الموت للإجهاز على ما تبقى من الدولة العراقية، ما أدى إلى الإنسحاب الأمريكي وترك العراق ولاية مدمرة تابعة لإيران، وهذا ما يفسر الصراع بين أجنحة روسيا وأجنحة إيران على الأرض في سورية”.

ويرى “الشاكر” أنه لن يكون هناك أي تفاهم روسي أمريكي بدون تحييد إيران في سورية، وبالأخص فيما يتعلق “بالممر الإيراني الممتد من طهران فسورية فالمتوسط فالضاحية الجنوبية”.

وفيما يتعلق بمطالبات وضع دستور جديد، قال “الشاكر”: “كلمة دستور جديد التي جاءت في القرار 2254 كلمة واسعة، ولا يوجد في الفقه الدستوري شيء اسمه دستور جديد، بل هناك دستور دائم، أما ما جاء في نص القرار الأممي، فهو تعبير عن مرحلة مبدئية، استناداً إلى فقه القانون العام.. الدستور الدائم يجري الاستفتاء عليه من قبل الشعب السوري داخل سورية، وهذا مرهون بتسوية منجزة وبيئة آمنة.. وصياغة الدستور السوري المنشود يحتاج إلى الكثير من المراحل التي قد تمتد إلى ما بعد مراحل التسوية، إذ يسبق ذلك إما جمعية تأسيسية منتخبة تصيغ دستورا مؤقتا، أو مبادئ دستورية عامة”.

وأضاف: “الدستور هو العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهذه العملية طويلة وشاقة لأنها منوطة بسلة الانتخابات، وأن يكون أعضاء السلة الانتخابية مستقلين ومحايدين عن طرفي النظام والمعارضة، لكي تستطيع التأسيس لانتخابات حرة ونزيهة، وهي عملية منوطة بوعي السوريين أنفسهم، وتحتاج إلى البدء بها منذ الآن، لتشكيل ثقافة انتخابية تمكّن السوريين من اختيار ممثليهم الأنسب، بالتوازي مع تشكيل إطار قانوني للنظام الإنتخابي في سورية وهيئة عليا للانتخابات، مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتعمل تحت إشراف دولي استناداً إلى المعايير الدولية”. وتابع: “تشكيل الأطر القانونية والمؤسسية للعملية الانتخابية، عملية طويلة وشاقة وتحتاج إلى وضع القانون الإنتخابي وتهيئة وتدريب آلاف السوريين”.

وبشأن بدء تطبيق قانون قيصر، قال السياسي السوري المعارض إن “الأمريكان أنفسهم يدركون أن قانون قيصر لن يفضي إلى حل قريب أو على المدى المنظور”، مشيرا إلى أن انعكاساته ستجلب المزيد من المعاناة للشعب السوري، مضيفا: “لنا سابقة في فشل العقوبات سواء في العراق أو إيران أو كوريا الشمالية، كما أن الضغظ الذي يمارسه قانون قيصر يهدف لإجبار النظام على تغيير سلوكه ليس إلا، والقبول بعملية سياسية جادة يعيد من خلالها الأمريكان هيكلية العملية السياسية، بما يفضي إلى تحييد إيران داخل سورية، وإلا فإن سورية والعملية السياسية برمتها ستبقى في حالة جمود واستعصاء، خصوصاً أنّ تداعيات قانون قيصر الاقتصادية ستكون لها تداعيات جيوبوليتيكية على الأرض، وفي مقدمتها وقوع سورية في حالة من التقسيم السيكولوجي في مناطق النفوذ والحماية”.

وأضاف: “ظهر ذلك في إحراق العملة السورية في الشمال السوري، وهذا برأيي من أهم تداعيات قانون قيصر، إذ قد يدفع القانون تلك المناطق- كأمر واقع- إلى ما يشبه الحكم الذاتي، خصوصاً مع افتقار الحكومة المركزية إلى القدرة الاقتصادية والعسكرية التي تمكنه من استعادة سورية الموحدة. وبالتالي، فإن قانون قيصر أبعد بكثير من عقوبات اقتصادية على النظام، بقدر ما هو مرحلة خطرة تؤسس -في غياب عملية سياسية جادة- لتفكيك سوريا أو توزيعها إلى مناطق نفوذ هشة، ما يعني موت سورية بشكل سريري”.

ولفت “الشاكر” إلى “ضعف الدور العربي الذي أغرى الأطماع الخارجية، فعبر التاريخ كانت المنطقة العربية محط أطماع وصراع بين تركيا وإيران، منذ الصراع الصفوي-العثماني بأبعاد توسعية قومية تغلفها الطائفية المقيتة”، مشيرا إلى أن”التاريخ ليس مجرد واقعة حدثت في الماضي، بل حدس ومعنى، ومن لا يقرأ التاريخ كمعنى مصيره التلاشي”. وأضاف أن “كل ما حولنا هو استنساخ للتاريخ، وإذا كانت الأبعاد الإيديولوجية تتراجع لصالح المصالح الاقتصادية، فإن هذه القوى لا تزال تستخدم أدوات إيديولوجية داخل دول المنطقة العربية بالترويج من جديد للعامل المذهبي أو الديني، بينما تتجاوز ذلك فيما بينها”. وتابع: “باختصار، المنطقة العربية ومعها الشرق الأوسط إزاء معضلات وتغيرات كبيرة، ولن يكون هناك حل لكل هذه الأزمات بدون دور عربي فاعل، ويحدونا الأمل في أن المعضلات الكبيرة هي الفرصة الأنسب للحلول الكبيرة”.