الاتفاق الأميركي – الروسي والبدائل

32

خمس سنوات من الحروب السورية لم تبق فيها مدينة أو قرية لم تدمر. لم تبق فيها طائفة أو مذهب أو عائلة إلا وانقسمت. الحس الوطني الذي اشتهر به السوريون انتهى إلى ولاءات موزعة بين دول الشرق والغرب. الوجدان الجمعي لم يعد يجمع. الانتماء القومي أصبح من الغيبيات. شعار «الوحدة والحرية والاشتراكية» اندثر في ركام دمشق وحلب وحمص… الأمة العربية أضحت أمماً وطوائف وقبائل. «الرسالة الخالدة» نقلها الإرهابيون إلى أقاصي الأرض. الاستعمار الذي طردناه استدعيناه من جديد لإنقاذنا. نلومه لأنه لا يزودنا السلاح الذي نريد لنقتل «أعداءنا». الإمبريالية المتوحشة أضحت الأم الحنون. أوروبا القاتلة تستقبل أبناءنا الذين شردناهم من بيوتهم. إسرائيل المستمرة في قتل الفلسطينيين والاستيلاء على أرضهم أصبحت صديقاً.

هذا بعض مما آل إليه «الربيع العربي». المشرق، كل المشرق، رقعة شطرنج. اللاعبون الكبار انتظروا الضعفاء لينتهوا من اللعب فتقدم الروس بثقلهم العسكري. انتزعوا اعتراف الغرب بـ «حقهم» في التمدد إلى المتوسط الجنوبي. كان لا بد للاعتراف من اتفاق بين واشنطن وموسكو، صيغ في وثيقة تاريخية ستصادق عليها الأمم المتحدة. وثيقة لم يستشر فيها أحد. أملاها البيت الأبيض على حلفائه. وتكفل الكرملين بإكراه أصدقائه على قبولها. من يعارضها تلاحقه لعنة الإرهاب. اعتراض الأسد الخجول على بعض بنودها واجهه الديبلوماسيون الروس بحزم. أما إيران فليس لديها ما تقوله فيها. وما زالت تعيش عرس فك عزلتها. «حرسها الثوري» كفيل بالمتبقي. تبقى العقدة التركية. لهذه العقدة حل من اثنين: الرضوخ للأمر الواقع ومعالجة المسألة الكردية في سورية، أو انتقال الحرب إلى داخلها. وقد بدأت بوادر انتقالها تظهر في أنقرة وإسطنبول، فضلاً عن المعارك الدائمة في الأناضول. لم يتحسب السلطان لذلك. أعتقد بأنه يستطيع إملاء فرماناته على الجميع. جدد عثمانيته نظرياً، وعند الاختبار اصطدم بالواقع. شعوب السلطنة السابقة تغيرت. عاشت شيئاً من الحرية. لا تريد العودة إلى الاستبداد. الأيديولوجيات القديمة لم تعد تجمعها. الأوطان التي فصلت قبل مئة سنة في اتفاق سايكس- بيكو ضاقت بها. والأكراد يعيشون اليوم أفضل أيامهم. أصبح حلمهم في إنشاء دولة أقرب إلى التحقق من أي زمن مضى. تفكيك سورية والعراق، قبلها أحيا هذا الحلم. ولديهم أقوى حليفين (أميركا وروسيا). أما الأتراك فطوائف، مثلهم مثل العرب. عصبيتهم القومية تضاءلت، والعلمانية التي جمعتهم وكان الجيش يحميها أصبحت في طور الاضمحلال في ظل الدعوة إلى الخلافة.

على رغم كل هذه المخاطر لم يكن أمام أنقرة غير الموافقة على الاتفاق الروسي- الأميركي، مع احتفاظها بخطة بديلة إذا هددت مصالحها، أي إذا خرج الأكراد من الحرب أقوياء، بديلها إدامة الحرب في سورية. وللآخرين بدائلهم أيضاً، بعضها معلن وبعضها طي الكتمان. من البدائل المعلنة شن حرب برية لإطاحة الأسد، وإعادة تشكيل الدولة السورية، وتقسيمها حصصاً بين المتحاربين. أما غير المعلن، فالـ»خطة باء»، وهي سرية، على ما قال كيري، متابعاً أن إطالة أمد الحرب يعرض سورية للتقسيم.

التحذير الأميركي لن يثني أحداً عن الإمعان في الجسد السوري، خصوصاً المتحاربين السوريين، إلى أي جهة كان انتماؤهم.

مصطفى زين
الحياة