الجراح بريطاني دايفيد نوت يوثّق جرائم النظام في حلب: سوريا الأسد مقبرة الأطفال

26

يشاء القدر ان يقوم الطبيب الجراح نفسه الذي عالج رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير من اضطرابات في القلب، بمعالجة اطفال سوريا الذين تسحقهم براميل الاسد المتفجرة.

المشاهد التي عرضها تلفزيون «القناة الرابعة» (تشانيل 4) البريطاني ليل امس في سياق فيلم وثائقي من اعداد دايفيد نوت أشهر طبيب جراح متخصص بمعالجة ضحايا الصراعات في العالم، ابلغ من اي كلمة يمكن ان يصف بها قلم وحشية النظام الدموي في سوريا وآلام الاطفال الذين يسقطون يوميا ضحايا لقصفه العشوائي على الاحياء السكنية. واللقاء الذي اجرته صحيفة «التايمز» البريطانية مع نوت ونشر صباح امس يصف بشكل دقيق مشاعر الطبيب المرهفة وعدم قدرته على التأقلم مع المجتمع الاريستوقراطي في المملكة المتحدة بعد عودته من حلب منذ اسابيع، فالمآسي التي رآها في سوريا صاعقة الى حد بعيد لم ير لها مثيلا في حياته رغم عمله الميداني المستمر في عدد كبير من الصراعات حول العالم.

وحفاظا على الامانة الصحافية وحرصا على الاسلوب السردي الممتاز الذي استخدمته صحافية «التايمز« هيلين رمبلو خلال لقائها نوت نكتفي بترجمة تقرير «التايمز« على الشكل التالي:

هل تسمحين لي بأن أريك شيئا فظيعا؟ سألني دايفيد نوت. توقفت ثانية قبل ان اجيب. كنت اجلس واياه في مكتبه في غرب لندن. وفي الخارج استطيع ان ارى اناسا يتسوقون ويشترون لأطفالهم العاب وهدايا الميلاد. شعرت بألم داخلي وحسدتهم على جهلهم السعيد.

نوت (56 عاما) هو ابرز جراح مداو لجرحى الصراعات في العالم وقد تطوع تقريبا في كل حرب دارت في العالم خلال العقدين الاخيرين. فهو كل عام يأخذ اجازة غير مدفوعة مدتها ستة اسابيع من وظيفته كجراح للاوعية الدموية ليتوجه الى المناطق التي يهرب منها الجميع جسديا واخلاقيا. وكولد وحيد، اهله متوفيان، حافظ على وحدته فلا زوجة له ولا اولاد كي يبقى حرا ويخدم في اماكن الصراعات دون شعور بالذنب. انه لا يسعى ابدا وراء الاضواء لكن اسمه تميز. وابرز مريض محلي تطبب لديه هو رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير الذي كان يعاني عدم انتظام في ضربات القلب.

لكنه اليوم يريد من العالم ان يسمعه، فهو عاد للتو منذ اسابيع قليلة من حلب المدينة السورية التي حولت الى ميدان معركة. ان الخطر الذي تعرض له كبير جدا فهو كان يمكن ان يقتل او يخطف او يعذب او يقطع رأسه. ويقول ان نقل الصور والوقائع لنا لنراها كما رآها أمر يستحق هكذا مخاطرة. ويضيف ان «سوريا مختلفة عن شتى الصراعات الحديثة الاخرى لأنها مقبرة للأطفال». ثم ضغط على زر في حاسوبه المحمول ليريني بعض المشاهد التي صورها.

على الفور نسمع صراخا. والمشاهد ملتقطة من اقبية احد المستشفيات السابقة. فالاطباء في الجانب الحر من المدينة لا يمكنهم العمل الا تحت الارض. ويوضح لي نوت «هذه المرة (ليست زيارته الاولى الى سوريا) ان الاطفال يشكلون 70 في المئة من اجمالي الضحايا. اذا عدت بالذاكرة الى الصيف عندما عملت في غزة كان الاطفال يشكلون ثلث الضحايا هناك. مقارنة بجميع الصراعات التي زرتها حول العالم، كانت نسبة الاطفال في مجموع الضحايا تراوح بين 10 و12 في المئة. لكن في غزة كان الوضع فظيعا، وهنا في سوريا أسوأ بكثير.

كم هو اصعب نفسيا على الطبيب معالجة الاطفال المصابين؟ لو كان لي اطفال لما تمكنت اطلاقا من القيام بعملي هذا، لكن الامر يبقى مؤلما جدا رغم ذلك. المشكلة هي انك لا تستطيعين، يتوقف عن الكلام بغصة ويشيح لي بيده لكي انظر الى طفل صغير على الشاشة.

لقد زار سوريا 3 مرات. في المرة السابقة زار حلب العام الفائت. وقرر العودة الى حلب هذه المرة لتصوير وثائقي وعرضه على القناة الرابعة. ان رؤية المشاهد الحية من اماكن الحروب هو امر صعب ولكن هذا المشهد تحديدا لم تتم الموافقة على عرضه لهول ما فيه. «لقد تم اسقاط برميل متفجر قرب المستشفى»، موضحا «ان حلب كانت العام المنصرم مسرحا لعمليات عسكرية وتبادل اطلاق نار بين القناصين وكانت الحرب فيها كأي حرب عادية. خلال الاسابيع الثلاثة التي امضيتها في حلب العام الفائت لم اخسر انا والاطباء الآخرون ايا من المصابين الذين عالجناهم . لكن هذا العام استخدام البراميل المتفجرة غير المعادلة. فالضحايا هذه السنة غالبيتهم من الاطفال الذين يختبئون وامهاتهم في منازلهم فترمى البراميل المتفجرة وتدمر المنازل فوق رؤوسهم. ان الجروح التي تتسب بها هذه المتفجرات اكثر خطورة ويصعب معالجتها كإصابات القنص. فضحية البراميل قد يموت اختناقا بسبب استنشاق الغبار الناجم عن الانفجار. في الاسابيع الثلاثة التي امضيتها في حلب هذا العام 80 في المئة من الضحايا الذين قضوا في هجمات البراميل هم من الاطفال ولم انجح في اسعافهم.

في هذه الصور نشاهد قدوم سبعة اطفال من عائلة واحدة اصيبوا في سقوط برميل متفجر قرب المستشفى. احد الاطفال فقد قدميه. انا اصف الآن ما صوره الطبيب بجهاز الآي فون الخاص به وفيه عرض للاجساد الصغيرة. الطفل التالي فقد رجليه. ويوضح نوت «لقد كان ذلك الصباح مثالا لما يجري كل يوم. كان النهار في بدايته والامور ستتحول الى الأسوأ. هذا الصبي فقد اردافه لقد اصابه التفجير بين فخذيه لكنه لا يزال على قيد الحياة«.

ونشاهد صبيا في الثالثة من عمره لا يبكي انما ينظر بفضول في وجوه الاطباء المجتمعين حوله، فيما يقوم هؤلاء بازالة قطع بيضاء صغيرة تناثرت على وجهه. ويوضح لي نوت «ان هذه النقط البيضاء التي نقوم بمسحها ما هي الا قطعا من دماغ شقيقة الصبي التي تحطم رأسها في الانفجار. ان هذا ما يحصل في سوريا يوميا، اطفال يصلون الى المستشفيات وفد غطتهم الدماء والاتربة. تم تفجيرهم. وترين اجسادهم مقطعة، بدون ايد او ارجل او رؤوس.

لقد صور نوت تلك المشاهد لأنه حينها لم يكن باستطاعته ان يفعل اي شيء آخر، فالمستشفى في تلك الاثناء كان مخزون المورفين قد جف فيه. ويوضح نوت «في مثل هذه الاصابات ما يمكن فعله هو اعطاء الطفل قطرات من المورفين تساعد على تخديره ليرتاح من الآلام التي تعصف بجسده«.
اربعة هم الجرحى الذين نجوا من البرميل المتفجر الذي قضى فورا على الثلاثة الآخرين من الاطفال السبعة. ولكن هؤلاء الاربعة المصابين لم ينج منهم في نهاية المطاف الا صبي واحد في السابعة من عمره هو الوحيد الذي تجاوب مع العلاج. وأكد نوت ان سوريا هي أسوأ مكان عمل فيه رغم انه تطوع في صراعات عديدة بينها سيراليون وساحل العاج والكونغو ودارفور وتشاد وليبيريا وافغانستان.

وفي الفيلم يمكن رؤية نوت وهو يختبئ خلف احد الجدران كي لا تبصره احدى طائرات النظام السوري التي كانت تشن غارة على علو منخفض. ويروي الطبيب البريطاني ان الاصابات كانت عديدة حتى خلال الليل كان يتم استدعاؤه غالبا بسبب وصول مصابين جدد. «احيانا يشعر المرء وكأنه سيصاب بالجنون من هول الاحداث يوميا والطريقة الوحيدة كي لا يفقد عقله ان ينكب على عمله وينشغل بمعالجة حالات الاصابات التي تصله. هناك فريق من الاطباء الشباب لا يرغبون في المغادرة ابدا وهم مستعدون للتضحية بحياتهم من اجل انقاذ ارواح من يمكن انقاذهم وانا احييهم على جهودهم الانسانية البطولية». يتحدث نوت عن رفاقه السوريين بفخر وهو يعرض صورهم ثم تعود الكاميرا الى المشاهد المأسوية مع طفلة وقد خرجت أحشاؤها ومشاهد اخرى تدمي القلب.

ثم يصف نوت معاناته لدى عودته هذه المرة من سوريا في كيفية التأقلم مجددا مع حياة البذخ والرخاء في بريطانيا خاصة مع دعوته الى حفل عشاء مع الملكة اليزابيث الثانية في قصر باكينغهام بعد اسبوع واحد على عودته من حلب. «لقد كان الوضع كارثيا. كنت اجلس في غرفة خاصة جدا مع اشخاص مرموقين جدا. أحسست وكأني مخلوق فضائي غريب قادم من المريخ. تخيلي ان تخرجي احدهم من مكان الصراع الدامي الذي كنت فيه ورأى ما رأيته ثم تضعيه وسط قصر باكينغهام. لم يكن بامكاني التكيف. كنت عاجزا تماما عن الكلام. لم يكن بامكاني الاتيان باي حركة». وعما اذا كان يشعر بالغضب لأن احدا في الغرب لم يتحرك لمساعدة السوريين يقول نوت «نعم اشعر بالغضب ولكن هذه هي الثقافة الغربية. الا ان ما ازعجني للغاية كان لقائي الاسبوع الفائت احد السياسيين المهمين جدا. واخبرته كم هي مروعة الاحداث في سورياـ وسألته لم لم تفعل الحكومة البريطانية اي شيء؟ لكنه بدل ان يرد اراد تغيير الموضوع قائلا لي «لماذا لا نتحدث عن الايبولا؟» فأجبته «لا اريد الحديث عن الايبولا. ان ما يحصل في سوريا افظع بكثير من داء الايبولا». وبعد ان تبادلنا بضع عبارات اخرى اعتذر وانسحب من الجلسة، ما جعل قلبي ينفطر غيظا«.

سألته اذا كان في امكانه الافصاح عن اسم السياسي فاجاب «لا«. ما يمكنني قوله انه احد كبار المسؤولين. يمكنني ان اتفهم عندما يتكلم السياسيون عن الصورة الاكبر للوقائع في سوريا وعندما يتحدثون عن مواقف الصين وروسيا. مع ذلك بريطانيا اتخذت فقط مسلك المساعدات الانسانية ولكنها لم تفعل اي شيء لحماية هؤلاء السوريين من القتل. واعرب نوت عن تشاؤمه حول الوضع الانساني في سوريا، معتبرا ان العالم تخلى عن الشعب السوري.

وقررت ادارة القناة الرابعة (تشانيل 4) عرض الوثائقي الذي اعده نوت في تمام الـ11 ليلا بتوقيت لندن نظرا للمشاهد المروعة التي يجب الا يراها من هم دون سن الرشد وذوو القلوب الضعيفة.

 

المصدر: صحيفة المستقبل اللبنانية