الحل السوري بين تردّد أوباما وتعنّت بوتين

19

39866345016588411_30300

من الواضح أنّ اجتماعات أصدقاء سوريا، كأداة أساسية للسياسة الدولية، بدأت تتلاشى لمصلحة الاجتماعات الثنائية الأميركية الروسية وتلك التي تدور في فلكها.

بدأت سلسلة الاجتماعات الأولى في تونس في شباط 2012 تبعها اجتماع بعد شهرين (نيسان) في اسطنبول وبعد ثلاثة أشهر في باريس وبعد خمسة أشهر في المغرب ثم في الأردن.

من جهة أخرى، بدأت تتكثف الاجتماعات الثنائية ابتداءً بزيارة مستشار الأمن القومي الاميركي توم دونيلون الى موسكو في منتصف نيسان الماضي، تبعتها بعد ثلاثة أسابيع زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري الى موسكو أيضاً، ثم زيارة رئيس وزراء انجلترا دايفيد كاميرون، وزيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، كلاهما الى واشنطن في 13 و16 من أيار تباعاً. وتسعى أميركا لعقد اجتماع دولي في أوائل حزيران يجمع مندوبين عن النظام السوري والمعارضة قبل اجتماع الدول الثماني الكبرى في انكلترا في 17-18 حزيران الذي سيشهد اجتماعاً جانبياً بين أوباما وبوتين. كل هذه الاجتماعات تعتبر تحضيرية لاجتماع القمة بين الرئيسين أوباما وبوتين في أيلول المقبل في موسكو الذي تعلق عليه الآمال لإيجاد اتفاق حل بين العملاقين للحرب في سوريا.

مضى على هذه الحرب أكثر من سنتين ذهب خلالها 80,000 قتيل، حسب الإحصاءات «الموثقة» لـ«المرصد السوري لحقوق الإنسان» في لندن وأكثر من 100,000 حسب الرأي السائد، ولم تتحرك الولايات المتحدة بشكل جدي، إلا مؤخراً ولو بخجل، لحل هذه النكبة الكبيرة التي حلت بالسوريين، وذلك برغم الضغوط المحلية والدولية التي تمارس على الرئيس أوباما. فبعد أن اعترف جون كيري لأعضاء في مجلس الشيوخ في اجتماع مغلق في 25 نيسان الماضي بأنّ النظام السوري استعمل أسلحة كيماوية في حربه على المعارضة، قام عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الفاعلين من الحزبين الجمهوري (أمثال جون ماكين) والديموقراطي (أمثال كارل لفني رئيس لجنة القوات المسلحة) بتذكير أوباما بالخط الأحمر الذي وضعه بالنسبة لاستعمال هذه الأسلحة، طالبين القيام بسلسلة إجراءات منها تسليح المعارضة وقلب موازين القوى على الأرض لمصلحتها. وقد قام عضوان في مجلس الشيوخ، جمهوري وديموقراطي، مؤخراً بتقديم مشروع قرار يطلب من أوباما اتخاذ إجراءات أكثر حسماً بالنسبة لما يحصل في سوريا، بما في ذلك تسليح المعارضة. أضف الى ذلك الضغوط الخارجية. ففي ختام زيارته الأخيرة لأوباما قال كاميرون «إنّ تاريخ سوريا يُكتب اليوم بدماء شعبها وهذا يحصل خلال عهدنا». وكان يعني طبعاً عهد أوباما قبل أي شخص آخر، لأنه من الواضح أنّ أميركا هي الوحيدة بين دول الغرب التي تستطيع أن تغير مجرى الأحداث في سوريا. أما زيارة أردوغان لواشنطن فكانت أوضح لجهة مطالبة أوباما بالتدخل، إذ طلب أردوغان بأن تساند أميركا منطقة حظر للطيران السوري وأن تساعد «الجيش الحر» عسكرياً، خاصة بعد التفجيرات التي حصلت في منطقة ريحانلي في تركيا قريباً من الحدود السورية.

برغم كل هذه الضغوط فإنّ أوباما لم يتحرك بل تراجع كلامياً خاصة فيما يتعلق بالخط الأحمر الذي وضعه لاستعمال السلاح الكيماوي. فبعد أن حصل اقتناع في الإدارة الأميركية، في وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية بالتحديد، بأنّ النظام في سوريا استعمل سلاحاً كيماوياً مرتين على الأقل، قال أوباما إنّ أميركا ستتحرك إذا ما تمّ استعمال هذا السلاح «بشكل منهجي»، وظل يردد بأنه يريد أن يكون متأكداً مئة في المئة قبل أن يقوم بأي تحرك فعال إذ أنه لا يعلم بعد «متى وأين ولماذا» استعمل هذا السلاح.

لماذا كل هذا التردد، رغم كل الضغوط؟ يعزو كثيرون من المعلّقين الأميركيين ذلك الى شخصية أوباما. فهو كما يقول هؤلاء، رجل متردد بطبيعته، وقد وصفه عديد منهم بأنه «جبان». ووصل الأمر الى نشر عشرات الصور الكاريكاتورية أو المحوّرة على «الانترنت» تنعته بالجبن.

السبب الثاني هو أنّ الشعب الأميركي يمر بمرحلة ما بعد الحروب الفاشلة في العراق وأفغانستان وغالبيته لا تريد الدخول في حرب جديدة، ولذلك فالضغط الشعبي على أوباما بأن يتحرك بفاعلية في المجال السوري ليس قوياً بعد، علماً بأنّ تغطية الإعلام المحلي الأميركي للحرب في سوريا ما زالت ضعيفة.

السبب الأهم قد يكون أنّ أميركا لم تكن مستعجلة في إيقاف الحرب في سوريا لأنها وإسرائيل لم يكونا الخاسرين فيها كل هذه المدة مقارنة بأعدائهما. فإسرائيل التي كانت في البداية لا تريد تغيير النظام في سوريا بسبب التفاهم الضمني مع النظام الذي أبقى جبهة الجولان هادئة خلال الأربعين سنة الماضية، بدأت تغيّر فكرها مؤخراً باعتبار أنّ سوريا المهدّمة كلياً والتي ستتطلب عقوداً من الزمن لإعادة بنائها هي أفضل من سوريا القوية المهادنة، لأنها ستكون غير قادرة على تهديد أمن إسرائيل في المستقبل المنظور والمتوسّط ولربما البعيد أيضاً، حتى لو أرادت ذلك. أما أميركا فإنها وجدت أنّ الجهتين اللتين تعتبرهما إرهابيتين بامتياز في هذه المنطقة ـ أي «حزب الله» والقاعدة – متورطتان في محاربة بعضهما بعضاً بينما هي تتفرج عن بعد، أي أنهما يقومان بما عجزت هي القيام به. أما عدوتها إيران فإنها تُستنزف في سوريا عسكرياً واقتصادياً مما يضاعف من فعالية العقوبات المفروضة عليها من دون أن تضطر أميركا الى مضاعفتها بنفسها. وكذلك الى حد ما روسيا المنغمسة مباشرة في الصراع داخل سوريا خاصة من خلال تزويد النظام بأسلحة قد يكون من الصعب تسديد تكاليفها في المستقبل.

أضف الى ذلك أخيراً عقيدة أوباما القتالية التي أصبحت موضع انتقادات لاذعة، ليس فقط من قبل المحافظين الأميركيين، ولكن من قبل غيرهم أيضاً، بما في ذلك العديد من مؤيدي أوباما الليبراليين واليساريين. فعقيدة أوباما في هذا المجال هي ما سمّاه أحد معاونيه في وصفه الدور الأميركي في التدخل العسكري الغربي في ليبيا «القيادة من الخلف»، أي أن تحارب أميركا بجيوش الآخرين، كما فعلت أيضاً في مالي، وهي تعطي المساندة اللوجستية من خلف خطوط القتال. وفي سياق مشابه، ففي حربه على الإرهاب استبدل أوباما عمليات اعتقال قيادات القاعدة والإرهابيين المحتملين لما يشكل ذلك من مخاطر على جنوده، بعمليات القتل عن بُعد باستعمال طائرات بدون طيار يحركها «طيارون» في أميركا من قواعد حول العالم، خاصة آسيا وأفريقيا، لمراقبة ثمّ قتل أشخاص مشتبه فيهم والعديد من المدنيين الذين شاء سوء طالعهم بأن يكونوا في الموقع الخطأ.

ماذا تغيّر حتى بدأت أميركا تتعامل مع المسألة السورية بجدية أكثر في الآونة الأخيرة؟ لا شك في أنّ وجود جون كيري على رأس الدبلوماسية الأميركية كان له دور كبير في هذا التغيير. فمن الواضح أنّ أوباما قرر أن يكون «إرثه» (Legacy) مستمداً بشكل أساسي من الداخل وهو يواجه هناك تحديات متعاظمة من الجمهوريين، ومن بعض أعضاء حزبه، يوجه اليها معظم جهده. فبرنامجه الصحي واجه مؤخراً المحاولة 39 في مجلس الشيوخ لإلغائه، ويواجه البرنامج في الوقت ذاته دعاوى مختلفة وتضاؤلاً في شعبيته. أضف الى ذلك المشكلات التي مازال الاقتصاد الأميركي يواجهها خاصة في ارتفاع مستوى البطالة. وكذلك تراجعه التدريجي أمام هجمة الجمهوريين لمصلحة مد خط أنبوب بترولي من كندا وشمال الولايات المتحدة الى خليج المكسيك، و«فضائح» متتالية تتعلق بحرية الصحافة وملاحقة مكتب الضرائب الفيدرالي لأخصامه. كل هذا بدأ يقضم من شعبيته بشكل ملحوظ (ولا أحد يقلل في هذا المجال من تأثير انقلاب الكوميدي المشهور جون ستيوارت عليه مؤخراً بسبب هذه الفضائح). أضف الى ذلك أن القيادة من الخلف ليست واقعية هذه المرة.

من هذا المنطلق، وبعد أن أحرق أوباما أصابعه في المسألة الفلسطينية خلال عهده الأول، أعطي جون كيري مساحة أكبر من المعتاد في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط وفي مقدمها فلسطين وسوريا وقد أصبح من الواضح ان كيري الكاثوليكي الذي كاد أن يكون الثاني في رئاسة الجمهورية بعد جون كينيدي، يريد أن يترك بصمته على التاريخ في هذا المجال. فلجون كيري مكانة مرموقة في مجال السياسة الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي منذ العام 1985 إذ كان له دور فاعل في فضح وملاحقة المتورطين في قضية «إيران كونترا» العام 1986 وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ عند تسلمه زمام وزارة الخارجية.

حرك جون كيري السياسة الأميركية في الملف السوري (والفلسطيني) لأسباب موجبة عدة. أولاً التخوف من وصول أسلحة كيماوية أو نوعية الى أيادٍ معادية لإسرائيل والغرب، خاصة «حزب الله» وجبهة النصرة (القاعدة) أو التشكيلات المتطرفة الأخرى الصاعدة مما سيشكل خطراً على أمن إسرائيل ولربما دولياً أيضاً.

ثانياً: التخوف من التداعيات السلبية التي بدأت تظهر في تركيا، الحليف الأكبر الآخر مع اسرائيل لأميركا في المنطقة، وقد كانت تركيا، بمساعدة أميركية، بدأت تتحضر للعب دور مفصلي مما استوجب إعادة العلاقات الطيبة مع اسرائيل بتحريض واشراف أميركيين ومصالحة مع حزب العمال الكردستاني بقيادة عبدالله أوجلان. ففي تركيا أكثر من نصف مليون علوي عربي، معظمهم يعيشون في هتاي (قضاء الاسكندرون) على حدود سوريا، وهم متعاطفون مع أشقائهم العلويين في سوريا، كما أنّ الصراع في سوريا أيقظ بعض الخلايا الشيوعية الراديكالية المتهمة بتفجيرات ريحانلي، إضافة الى التخوف من وجود القاعدة قرب الحدود التركية وأخطار أخرى على أمن تركيا الداخلي.

ثالثاً: القوة المتزايدة لـ«جبهة النصرة» والتشكيلات المتطرفة الأخرى والخوف من أن تصبح هذه القوى أساسية على الأرض مما سيصعب اقتلاعها بعد انتهاء المعارك خاصة إذا كانت إما قد انتصرت أو أصبحت تسيطر على أجزاء كبيرة من سوريا.

من المنتظر أن ينعقد جنيف 2 قبل منتصف حزيران على أساس مقررات جنيف1، على أن يحضره مندوبون عن النظام السوري ومندوبون عن المعارضة. فرص نجاح هذا المؤتمر في إيجاد حل للصراع في سوريا قليلة، فالأميركيون والروس ما زالوا مختلفين على تفسير اتفاق جنيف 1، أقله في ما يتعلق بتنحي بشار الأسد عند تأليف وزارة وفاقية ذات «صلاحيات تنفيذية كاملة» لتدير المرحلة الانتقالية وصولاً الى تأسيس دولة «تعددية ديموقراطية». فإذا كان للحكومة الانتقالية صلاحيات تنفيذية كاملة فهل هذا يعني تنحّي الأسد أم تجريده من صلاحياته التنفيذية (أي كل صلاحياته) كما يريد الأميركيون والمعارضة، أم يبقى على رأس الحكم (بأية صلاحيات؟) كما يريد الروس والنظام؟ هل ستقبل الحكومة وتستجيب الى الطلب في وثيقة جنيف بأن تسارع الى إخلاء سبيل المعتقلين وتأمين حرية التنقل للإعلام الأجنبي من دون تمييز وأن تسمح بالتظاهر وإيصال المساعدات الى جميع أنحاء سوريا؟ من سيشترك في الحكومة الانتقالية، «مَن غير الذين تلطخت أياديهم بدماء السوريين»، كما تطالب المعارضة، ومَن سيقرر مَن هم هؤلاء؟

وعلى كل حال، فإنّ مؤتمر جنيف، ليس سوى خطوة تحضيرية – ولو أنها ذات أهمية خاصة – لاجتماع القمة في أيلول المقبل بين أوباما وبوتين في موسكو، فهل ستتوصّل الاجتماعات المختلفة والمفاوضات القائمة الى حل نهائي بحلول موعد القمة؟ ماذا سيحصل للشعب السوري خلال الأربعة أشهر التي تبعدنا عن موعد القمة خاصة إنّ كل فريق بدأ يكثف نشاطاته الميدانية لتحسين موقعه على الأرض بحلول أيلول المقبل.. وهل يستطيع الشعب السوري تحمل عشرات آلاف القتلى الجدد وملايين أخرى من اللاجئين في الداخل والخارج وماذا سيحصل في الدول المجاورة أي الأردن ولبنان والعراق وتركيا التي ترزح اليوم تحت عبء لا يُحتمل لاستقبالها اللاجئين الحاليين والمحتملين؟

هذا إذا اعتبرنا أنّ القمة المقبلة ستشهد اتفاقاً على الحل للصراع القائم في سوريا يقبل به الطرفان الدوليان الفاعلان. ولكن حتى لو حصل ذلك، فهل سيكون باستطاعة القوتين العظميين فرض الحل على كل الفاعلين على الأرض؟ مَن سيجبر بشار الأسد على التنحي أو عدم الترشح في العام 2014 أو قبول مراقبة دولية لتلك الانتخابات، إذا كان هذا من ضمن الاتفاق، وهو قد أعلن صراحة موقفه الرافض لهذه الشروط؟ وماذا لو انكفأ الأسد الى غرب البلاد على حدود نهر العاصي – أي حمص وحماه – مؤمّناً بذلك عمقاً استراتيجياً متواصلاً مع «حزب الله» في منطقة بعلبك الهرمل في البقاع الشمالي كما بدأ يتردد في أدبيات الحرب السورية مؤخراً؟ مَن سينزع سلاح «جبهة النصرة» بقيادة «الجولاني» أو القوة الصاعدة الأخرى في إطار «القاعدة» والأكثر تطرفاً التي تعمل تحت اسم «الدولة الاسلامية في العراق والشام» بقيادة أبو بكر البغدادي، أو التشكيلات الإسلامية الأخرى المعادية لأميركا وروسيا في آن واحد؟ من سيدخل الى مناطق البترول التي تسيطر عليها العشائر المسلحة وقوات أخرى في شرق البلاد والتي يدر عليها البترول أرباحاً طائلة؟

في النهاية، ألم يتأخر العملاقان في حل الصراع الدائر، بسبب تردد أوباما وتعنت بوتين، الى أن فقدا السيطرة على مكونات كبيرة وفاعلة على الأرض مما سينتج عنه مرحلة فوضى طويلة بعد الاتفاق، إذا حصل؟

السفير