الدولة الحديثة ومقوماتها

34

بادرني أحد الأصدقاء المثقفين، من المفكرين الذين أعتز بآرائهم وفكرهم إلى السؤال التالي أنقله بحرفتيه: “أسعد الله صباحك وسائر أوقاتك بكل خير.. يُقال إن اللغة في الحقل السياسي سلاح من لا حُجّة له، إذاً لماذا لم يعد بمقدورنا في العصر الحالي حصر هذا السيل من الخطابات التي نخطها ونرسلها إلى المتلقين باعتبارها اللغة المؤطرة للفعل التواصلي بين الأفراد والجماعات؟

دعني أنطلق معك من مقولة دقيقة يرى صاحبها أن “الإنسان كائن سياسي” إذ تبين هذه المقولة الارتباط الوثيق بين الإنسان والسياسة. وكما نقول باستمرار، إما أن نُمارس السياسة، أو تُمارس علينا. والتي هي بحسب مشهد السنوات الغابرة في بلادنا كانت تُمارس علينا فكنا نحن المثقفين المهمشين المتلقين لها بلغة لا نفهم منها سوى تنفيذ ما نتلقى.

إنني في كل مرة أقرأ لك لا أختلف في كون كل مقال له رسالة معينة، توجهها كسياسي إلى المُتلقي عبر قناة تواصلية تريد منها إقناع المتلقي بمحتواها ومن خلالها يدفع المتلقي إلى الفعل أو الانخراط (النقد أو التعقيب).

ولتصدقني إن قلت لك إنني أُسعد كثيراً وأستمتع بما ترسله لي لدرجة أنني أقرأ مقالاتك مراراً وتكراراً لكني في نفس الوقت أجد النقص فيما تُرسل.. النقص الذي لم أجد إلى وقتنا هذا كائناً تطرق له بمفهومه الواسع إلى المتلقي فعلاً (الدولة).

ختاماً، ومن وجهة نظر شخصية ونقد بناء لك أسألك: إلى متى سنظل نلقي بكل هذه الخطابات دون أن نتسلح بآليات وأدوات تساعدنا على فك شفرات الخطاب وفهمه ومعرفة كيفيات التعامل معه، حتى لا نسقط ضحايا سحر اللغة. والتي أراك متمتعاً بها لدرجة القوة؟”.

نزولاً واستجابة لنقدك يا صديقي الذي أعتبره تصويباً لبوصلة الباحثين والمثقفين الذين نذروا أنفسهم لأوطانهم ابتغاء لرفعة شأنها بين الأمم وحرصاً مني على محاولة تبسيط مفهوم الدولة الحديثة ليستطيع المتلقي القراءة والنقد والمشاركة في الرأي بعيداً عن الفلسفة العميقة والأيديولوجيات القديمة، وفي محاولة مني لطرح الموضوع للنقاش والحوار للوصول إلى أفضل الوسائل والنتائج، فإنني تعمدت تدوين رؤيتي البسيطة لمقترحات قد تكون أداة جيدة في إتمام النقاش والحوار حول هذا الموضوع الهام، ونعرض:

إن الدولة بمعناها الشامل وبهدف بنائها ينبغي أن تكون دولة وطنية تجسد واقعاً وطنياً يتساوى فيه أفرادها بالحقوق والواجبات من دون التمييز على أساس العرق أو الدين أو الوضع السياسي أو الاقتصادي لأفرادها. وهنا تبرز الحاجة إلى توضيح المفاهيم المرتبطة بالموضوع وهي: الدولة، والنظام السياسي والدولة الوطنية؟

للدولة مفاهيم عديدة وكل منها يرتبط بجانب معين، وكما هو في شأن العلوم الإنسانية، لا يوجد تعريف متفق عليه لها، بل خضعت لتنظيرات كثيرة حسب تطور الفكر السياسي والممارسات السياسية، فضلاً عن تطورات الممارسة السياسية وسلوك وحدات النظام الدولي.

عرف فقهاء القانون الدستوري الدولة بأنها كيان إقليمي يمتلك السيادة داخل حدوده وخارجها ويحتكر قوى وأدوات الإكراه (السلاح – القوة الجبرية). الدولة هي حقيقة سياسية وهي مفهوم قانوني لتنظيم العلاقة بين وحدات سياسية غير متكافئة في القوة، وتنظيم تلك العلاقة على أساس من العدالة والإنصاف (في الدول ذات النظام المركزي أو اللامركزي أو الفيدرالي أو الكونفدرالي).

وكي تتوافر لدى مؤسسات الدولة مبادئ وعناصر العدالة والإنصاف، من الواجب أن تتمتع بعنصر السيادة على كامل جغرافيتها ولها استقلاليتها على قراراها السياسي والأمني والاقتصادي، ولا يمكن أن يتحقق ذلك من دون وجود نظام سياسي ذي قواعد وعناصر فعّالة في خدمة سيادة الدولة تعمل على استقلال قراره.

والسيادة هنا في بُعدين، الأول قانوني، أي المؤسسات والهيئات التي يخولها القانون سلطة إصدار القرارات النهائية الحاسمة، أي بمعنى توافر عنصر المشروعية. أما الثاني فهو سياسي ويرتبط بشرعية السلطة وحصولها على موافقة الشعب عبر التصويت والانتخابات وأن تكون السلطة ممثلة للشعب.

كما أن للسيادة بعدين آخرين: هما داخلي ويقصد بها السيادة الداخلية وهي حرية اختيار النظام السياسي الملائم للأوضاع الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وفي السيطرة على مواردها داخل إقليمها البري والجوي والبحري.

أما السيادة الخارجية، فهي تشير إلى حق الدولة في إدارة شؤونها الخارجية بحرية ومن دون تدخل في شؤونها الداخلية أو تأثير عليها من قبل دولة أخرى أو جهة خارجية، أي عدم خضوعها لسلطة وتأثير دولة أخرى.

فيما يرتبط بالنظام السياسي، فيُعرف ببساطة بأنه مجموعة من العناصر (الأحزاب والقوى السياسية) والقواعد (أطر تشريعية وسياسية ومؤسسات سياسية – أمنية واقتصادية وثقافية واجتماعية إلخ) المتناسقة والمترابطة فيما بينها تضع وتبين نظام الحكم وشكله (رئاسي – برلماني – مختلط). ووسائل ممارسة السلطة وأهدافها (بموجب دستور متوافق عليه وبمباركة الشعب صاحب القرار) عبر القوانين المستمدة من الدستور.

اما الدولة الوطنية، فهي إضافة لما سبق الحيادية لكل المواطنين بمختلف انتماءاتهم الدينية والعرقية والإثنية.

تقوم العلاقة بين مكونات الدولة الوطنية الحديثة على أساس عقد مواطنة يرتب حقوقاً للفرد في قيم المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة والأمن والحريات ويرتب أيضاً على الفرد واجبات تجاه الدولة وتجاه غيره من الأفراد، ويتوسع هذا العقد ليصبح عقداً اجتماعياً بين مكونات المجتمع تنظم حقوقه وواجباته.

تتماهى تأثيرات أزمات النظام السياسي على بناء الدولة ومؤسساتها، فالأزمات السياسية وعدم الاستقرار السياسي والأمني، يترتب عليها أزمات اقتصادية واجتماعية وثقافية.. انعكاساتها السلبية مباشرة على المجتمع في أزمات مستدامة منها أزمة الوطنية (الولاء الوطني) مقابل تصاعد الولاءات الفرعية المذهبية الإثنية، وتغييب الهوية الوطنية.

هنا لا بد من الإشارة إلى أن إنفاذ وسيادة القانون وضمان استقرار الأوضاع الأمنية يتأثر بشكل مباشر بالأزمات المختلفة، وبالتالي يقود إلى بروز الخلل الهيكلي في بناء الدولة ومؤسساتها، نظراً لتعرض عملية التنشئة الاجتماعية والبناء الثقافي والتوازن الاقتصادي والبرامج التنموية إلى التشويه وعدم انتظام برامجها وبالتالي تلاشي أهدافها.

كل هذه الأزمات والتداعيات تجعل من النظام السياسي منظومة هيكلية وليست مؤسسات مؤثرة في البناء السياسي وبالتالي بناء الدولة، في ظل غياب الثقافة السياسية المشجعة، وغلبة قيم المجتمع الأهلي وتراجع قيم المجتمع المدني وسيادة المجتمع القبلي، التي تشّكل عوامل دافعة باتجاه تراجع بناء الدولة.

باعتقادي وبالعودة إلى دراسات وأبحاث متعددة، لا بدّ من وضع توصيات باتجاه تقويم بناء الدولة ومؤسسات النظام السياسي، والبنية الاجتماعية لتشكيل الأرضية المناسبة في الدولة الحديثة، أولها التأكيد على أهمية الأحزاب السياسية في عناصر النظام السياسي، على أن يتم تقويم الجانب التنظيمي لها وفق أطر فكرية تنظيمية سياسية، وسلوك سياسي فعال وبنَاء، فالإصلاح السياسي وفق رؤى وطنية وليست رؤى حزبية مكوناتية ضيقة، وتعديل قانون الأحزاب بما يخدم هدف أن تكون الأحزاب عناصر إيجابية تخدم عملية بناء النظام السياسي وتعزز استقلالية قرارات مؤسساته السياسية والأمنية والقضائية، وإنفاذ القانون عبر فصل السلطات، باتت ضرورة ملحّة لبناء الدولة الحديثة.

ثانيها؛ البناء الاقتصادي – الاجتماعي ويعتبر من الركائز الهامة في بناء الدولة الوطنية الحديثة، وهنا تبرز الحاجة إلى تدعيم عملية التنشئة السياسية والاجتماعية على أسس حديثة لتحقيق التعافي الاقتصادي والتوازن الاجتماعي لتعزيز الاستقرار والسلام المستدام.

ثالثها؛ دعم الدور التنموي للدولة وفق سياسات عامة اقتصادية تنموية بيئية، تسهم في ترميم الثقة بالدولة وتعزز الروابط بين الأفراد ومؤسسات الدولة، والانفتاح على الدول الأخرى بالمصالح المتبادلة، وفق برامج علمية مدروسة متوازنة، وإيلاء أولوية للتعليم والصحة والتنمية والمناخ في كافة محافظات البلد الواحد وبما يؤمن استقلالية للوحدات المحلية المنتخبة فعلياً في مشاريعها ضمن اللامركزية الإدارية الموسعة.

رابعها؛ التحرر من الماضي وإعادة بناء الثقة، بالتعددية السياسية والتشاركية والديموقراطية التوافقية وتعزيز منظومة حقوق الإنسان، مع توسيع شبكات الحوار والمناقشات والأنشطة المدنية وتبادل الخبرات لخلق وعي جديد وثقافة جديدة قائمة على عدم التمييز والمساواة بين الأفراد.

إن الانتقال إلى شرعية الدولة الحديثة ليس ممكناً دون توسط عدد من المفاهيم التي تجعل من مبدأ السيادة متماسكاً منطقياً وفعالاً في التاريخ. وفي مقدمة هذه المفاهيم العقد الاجتماعي، مبادئ حكم الشعب والمواطنة، تفكيك وفصل السلطات، والإرادة الجمعية التي تفصح عن فحواها بالتفويض، أي بالإنابة التمثيلية والانتخاب وفق قانون شفاف.

ففي الحداثة تصبح السياسة شأناً إنسانياً صرفاً بعد أن كانت عبر التاريخ تعلو مواطنيها وتتجاوزهم. وحين نقول إن مفهوم السيادة هو مبدأ الحداثة السياسية فذلك لأنه تحوّل في السياسة الحديثة إلى سلاح حقوقي استراتيجي أي تعبوي وتحريضي، في بناء الدولة الحديثة.

لم ينمُ مفهوم السيادة الحديث ويتقدم في قرارات حكومية بل نتيجة صراعات فكرية – سياسية وفلسفية اجتاحت الوعي الجمعي في وسط وغربي أوروبا. وليس مفارقة أن يكون وضع حدٍ للحروب والنزاعات المسلحة من أهم عناصر إعادة تعريف الدولة ومفهوم سيادتها.

وبالتالي فإن مبدأ احترام الوحدة الترابية للدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية هو الوجه الدولي لمبدأ السيادة، ولكل النزاعات الحدودية (والعنف) التي تتصل به.

اقتباس.. المركز الاسكندنافي

“ما من شك بأن أشكال النمو غير المتكافئة وسيطرة دول المركز في المنظومة العالمية World- System على دول المحيط في منظومة اقتصادية غير متكافئة، يشكل واحداً من أهم أشكال المقاومة للشعوب المستضعفة، التي تعتبر استقلال قرارها السياسي والاقتصادي جزءاً من حقها في ممارسة سيادتها في إطار الدولة. خاصة وأن تجربة الشعوب مع القوى الكبرى في موضوع “التدخل”، إنسانياً كان أو للحماية، كانت قائمة بشكل أساسي على المصالح القومية العليا للدول المتدخلة أكثر منه على قواعد قانون دولي أو قواعد تأخذ مصالح الشعوب بعين الاعتبار. من هنا، وحتى اليوم، نجد ميثاق الأمم المتحدة يحظر تدخل أية دولة في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، إذ إن كل دولة حرة في اختيار وتطوير نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، من دون تدخل خارجي، غير أن سيادة الدولة، وفق القانون الدولي والتزاماته أيضا، أصبح يقّيد الدول، على الأقل من ناحية الالتزام والتصديق الطوعي على مواثيق حقوقية، تقوم على احترام الشرعة الدولية لحقوق الإنسان ومنع اضطهاد الجماعات الفرعية في حدود سيادتها، وتجريم ارتكاب جرائم الحرب، وجرائم إبادة الجنس البشري والجرائم ضد الإنسانية وجريمة العدوان؛ بمعنى آخر، لم تعد الدولة مطلقة التصرف في ميدان انتهاكات حقوق مواطنيها وفي العلاقات الدولية والعدالة الدولية، إذ هي تخضع للقانون الدولي المفروض على الدول بناءً على اعتبارات تعلو إرادتها، والذي يورد قيوداً على تصرفات الدول، ويحكم علاقاتها مع الدول الأخرى، ومع الهيئات الدولية.

إن الإقرار بوجود حقوق عالمية مشتركة لكل البشر، يعني أن مجالاً من المجالات الأساسية للاختصاص الداخلي للدولة قد أصبح محل تدخل للقانون الدولي بالتنظيم والحماية، وهو ما لا تقبله أي دولة بسهولة، قوية كانت أو ضعيفة، ولا سيما أن السيادة ومبدأ عدم التدخل يعتبران حتى اليوم، من الدعائم الأساسية للقانون الدولي، إلا أن ولادة المنظومة الدولية لحماية حقوق الإنسان ووجود اتفاقيات أساسية مشتركة بين الدول (كاتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني بشكل عام) وولادة المحكمة الجنائية الدولية بعد صيرورة محكمة العدل الدولية بعد قرابة قرن على انطلاقة فكرتها وهيكلتها مؤسسة لفض النزاعات بين الدول، جعلت من هذه الحقوق مدخلاً ومسألة دولية لا تقتصر على الاختصاص الداخلي للدول فقط، بل تتعداها للمحيط الدولي على أساس المصلحة الدولية الشاملة.. بحيث أصبح مقبولاً، إن لم نقل ضرورياً، وجود دور فاعل للأمم المتحدة ليس فقط في رقابة سلوك الدول الأعضاء في حالة تهديد السلم والأمن الدوليين، وإنما في وضع حد لحالات النزاع المسلح الداخلية في هذه الدولة أو تلك. الأمر الذي يوصلنا لفكرة التفاعل بين المؤسسة الأممية وشعوب البلدان التي تمزقها النزاعات المسلحة، من أجل بناء دولتها، بعد مرحلة النزاع والحروب الداخلية والخارجية.

أضحت الهوية اليوم، في تداخل وجودي وحيوي، مع مبادئ الكرامة والعدالة واحترام حقوق الأشخاص. من هنا، تستوجب صياغة الهوية الوطنية – المواطنية اليوم، كفعل إرادي جماعي، إعادة بناء الدولة على أساس المواطنة الجامعة، لكل من يعيش في حدود الدولة. الدولة الحيادية التي تقف على مسافة واحدة من جميع الأديان والمكونات والقوميات والعقائد وتقوم على أساس العيش المشترك، كهوية مشتركة أساس لكل مواطنيها، ليس في مواجهة مع، أو إلغاء للهويات الفرعية. الأمر الذي يتطلب مفهوماً للسيادة يعتبر الشرعة الدولية لحقوق الإنسان جزءاً لا يتجزأ من أي تشريع. من هنا ضرورة التعامل مع مفهومي السيادة القانونية الدولية والسيادة ما بين الاستقلالية باعتبارهما طرفاً في صياغة العقد الاجتماعي الجديد. أي بناء ما يطلق عليه يوجين ها برماس، “الوطنية الدستورية”. وذلك على أساس الرابطة الأخلاقية/ الحقوقية العالمية، الديمقراطية وحكم القانون، والسلطة التوحيدية للدستور في مجتمع من المواطنين الأحرار”.

من دون إنتاج حقل سياسي جديد، الذي سيعيد بالضرورة بناء وإنتاج البنى التحتية المتنوعة، أي تغيير السياسة والعلاقات السياسية والوظيفة السياسية، تتجاوز أخطاء وممارسات سابقة، لا يمكن بناء دولة وطنية حديثة لأن الأخلاق السياسية وعلومها، لا تستطيع اعتماد قراءات وأيديولوجيات ثابتة بالرغم من ضخامة شخوصها ونكتفي بمناقشة أفكارها وتناغمها أو تعارضها، بما يعزز المعرفة للحوار والبناء.

اقتباس “عريب الرنتاوي”

المتابع للجدل بين الحكومة والمعارضة في إسرائيل سيجد أن أكثر العبارات شيوعاً في سجالاتهما هي “انهيار الدولة”، “حرب أهلية”، “تحريض على العنف والقتل”، “خراب الهيكل”.

ويعكس ذلك بعبارة “من آيات “تمشرقها” انتعاش هوياتها الفرعية، احتدام الصراع فيما بينها، الانقسام الديني العلماني وزيادة حدة الاستقطاب بين الكيانات والمكونات الإسرائيلية المتنافسة، إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، تآكل أعمدة “الحكم الرشيد” واختلال التوازن بين السلطات، لصالح السلطة التنفيذية دائماً، هنا نفتح قوسين لنرصد الهجمة اليمينية على “المحكمة العليا” وتسلل الأيديولوجيات المتطرفة إلى المؤسسة العسكرية – الأمنية.

من آيات “تمشرقها” كذلك سطوة السلطة السياسية على الإعلام، إرهاصات تشكل ميليشيات عقائدية سائبة وتراجع مكانة “سيادة القانون”، تفشي الدعوات لتطبيق “الشريعة اليهودية”، تسييس الدين وتديين السياسة (صهينة الدين وتديين الصهيونية)، فساد الطبقة السياسية واضطرارها لتفصيل قوانين وتشريعات على مقاس “نمر أحذية” أركانها، كما حصل عند تمرير قانون بن غفير وقانون سموتريتش وقانون درعي، في أول اجتماعات للكنيست 25، في تجسيد سافر لفكرة “الحكم بالقانون” عوضاً عن “حكم القانون”.

السمة الرئيسة للدولة الحديثة -ونأمل أن تكون الأكثر ديمومة- وهي تقديم نفسها على أنها المصدر الوحيد لجميع السلطات العامة. المادة 3 من إعلان حقوق الإنسان:

الدولة الحديثة، التي أكدت نفسها على أنها القوة السيادية الوحيدة، وبالتالي، عكست بأمانة البنية الاجتماعية الجديدة، ومع ذلك، فإن تقسيم المجتمع إلى طبقات هو إحدى مصادر التناقضات والصراعات، ويتطلب الحد منها تنمية الشعور بالتضامن بين الأفراد والشعور بالاحترام المتبادل بين مجموعات مختلفة في المجتمع وبالتالي المساهمة في تكامل وترابط أكثر تأثيراً.

لقد زعمت الدساتير الحديثة أنها تكرس في النص جميع المبادئ الأساسية للحق العام، في البناء وليس التدمير، إنه الواجب الذي يستطيع مجتمع اليوم أن يقدمه لنفسه، فيما يتعلق بالدولة ونظامها السياسي. عندما يتم تشييدها، بما لا تتناقض الصروح الجديدة مع الهندسة المعمارية الصلبة والشديدة للدولة الحديثة، ولكنها تستند إلى نفس الأسس وتشكل جزءاً لا يتجزأ منها.

إن مجموعة كاملة من الأسباب المختلفة والمتنوعة قد تؤدي إلى تحسين الظروف الاقتصادية – الاجتماعية، عبر توسيع فضاء الحرية الإعلامية، ونشر الرأي العام وروح النقد والاستقصاء، توسيع الثقافة، والصحافة اليومية، وزيادة سهولة الاجتماع والارتباط، ووسائل الاتصال السريعة.

علينا إعادة التأكيد الضرورية على مبدأ الدولة الحديثة لتأكيد الإرادة التي يمكن تصنيفها كإرادة عامة، التي من واجبها تحديد الإدارات بشكل علمي ومنطقي وفق الكفاءات والقدرات، بعيداً عن التقييمات الأخرى الضيقة التي من شأنها زيادة الأعداد والفساد وسوء الإدارة وترهلها.

تصبح الدولة أكثر قوة ونشاطًا، إذا كانت التجسيد الحقيقي لمجتمع واسع ومتكامل مترابط بعقد اجتماعي متوافق عليه، وتكتسب المزيد من التماسك والاتساق بمرور الوقت، عندما تصيغ دستوراً عصرياً انعكاساً للعقد الاجتماعي ولكن ذلك لا يعني إمكانية تطور الدولة إلى ما لا نهاية، لظهور أشكال جديدة وتحول الأشكال القديمة، إلا أنه لا يمكن معرفة المستقبل لنا، وعلينا أن نقتصر على التفكير بعين اليقظة والثقة في البذور المزروعة في مواجهة تراكم العناصر المعاكسة التي يبدو أنها مأخوذة من جبهات المصالح الضيقة.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه إذا كانَ الوَعْيُ هو الأساسَ الفلسفي للفِعْل، فإنَّ الثقافةَ هي القاعدةُ الأساسيةُ للمُجتمع، والهُوِيَّةُ المُتماسكةُ للإنسان الواعي الذي يُمارس وُجُودَه المعنوي والمادي لإكمالِ الثغرات في شخصيته المركزية، وتحقيقِ الكمال في سُلطته الاعتبارية، بِوَصْفِهَا طريقاً لِخَلاصِ المعنى الحياتي مِن ضَغط اللحظة الآنِيَّة، وتخليصِ الحضارة المادية من النزعة الاستهلاكية، وانعتاقِ بُنية التفكير مِن المصلحة الضَّيقة، وتحريرِ رمزية اللغة مِن التفسير الأُحَادي للتاريخ.

سيطرةُ العقلِ الجَمْعي على العلاقات الاجتماعية لا تُؤَدِّي بالضَّرورة إلى صناعة مُجتمع عقلاني، فلا بُدَّ مِن رَبْطِ إفرازاتِ الزمانِ والمكانِ بتراكيب الوَعْي الثقافي، ودَمْجِ وظائف الأنظمة المعرفية مع تأثيرات الفِعْل الاجتماعي.. فالعقلُ الجَمْعي لا يَستطيع أن يَصنع مُجتمعاً عقلانيّاً مِن الفَرَاغ، ولا يَقْدِر أن يَبني منظومةً فكريةً حُرَّةً مِن العَدَم، وبالتالي يجب التنقيبُ عن الجُذور العميقة للعلاقات الاجتماعية، وبناءُ الهُوية الوجودية للإنسان والمُجتمع عليها.

وكما أنَّ الطبيعة لا تَقْبَل بوجود جُذور في الهَوَاء، كذلك المُجتمع العقلاني لا يَقْبَل بوجود عَقْل جَمْعي بلا سُلطةٍ معرفية. والعقلُ الجَمْعي المُسلَّح بالسُّلطة المعرفية هو القادر على بناء الإنسان والمُجتمع معاً، والوَعْيُ الثقافي المَدعوم بالفِعل الاجتماعي هو القادر على صناعة التاريخ والحضارة معاً.

بعيداً عن الرؤى والحسابات السياسية والنظرة إلى مصطلح المركزية واللامركزية، فإن البُعد التنموي للمصطلح، ومدى قدرته على النهوض بالأعباء التنموية الوطنية للمناطق، يمثّل جوهر النقاش الحقيقي الملتزم بالمصلحة الوطنية، والذي يفترَض أن يَخلص إلى جملة استنتاجات من شأنها تطوير تجربة الإدارة المحلّية وتوسيع حالة التشاركية للاتّفاق على رؤية مستقبلية للمجتمعات المحلّية ومساعدتها على جسْر الهوّة التنموية القائمة بين الريف والمدينة، وبين الأقاليم نفسها، والأهمّ الدخول في مرحلة من إعادة بناء التنمية بشكل متوازن، مع الأخذ بعين الاعتبار مجموعة جديدة من التحدّيات غير التقليدية، بدءاً من المتغيّرات الديمغرافية التي من شأنها تعميق حجم المشكلة السكّانية، مروراً بالتراجع الكبير الذي شهدته مؤشّرات رأس المال الاجتماعي، وصولاً إلى تبخّر مؤشرات تنموية احتاج تحقيقها إلى عقود طويلة من الزمن.

بالنسبة للمجتمعات العربية، وفيما يتعلق بالمتطلبات الثقافية اللازمة للتحول الديمقراطي، يرى كتاب السلطوية في الشرق الأوسط (المؤلفة إريكا فرانتز)، النظم الحاكمة والمقاومة، أن مجموعة من المجادلات الثقافية أثبتت أن العقلية القبائلية والقائمة على النظام الاجتماعي الأبوي الذي يتميز بسلطة الأب المطلقة على العشيرة تشكل عقبة تعرقل تطور القيم التعددية ونشر الديمقراطية.

ويبرهن أن الانفصامات الإثنية أو العرقية تبرز كعامل مساهم في تكريس مرونة السلطوية في المنطقة، ويركز هذا التفسير على الطبيعة الخصوصية لاقتصادات الشرق الأوسط، أن دولاً كثيرة بالمنطقة، وبخاصة تلك الدول الواقعة ضمن شبه الجزيرة العربية والمجاورة لها، تستمد دخلاً فخماً من الصادرات الهيدروكربونية، وترتبط جيرانها من الدول الأكثر فقرا بالاقتصاد النفطي عبر الاعتماد على هجرة العمال وما يترتب عليها من حوالات مالية، أو المساعدات المباشرة من دول الخليج العربية، أو المكاسب المتحققة عن طريق تجارة الترانزيت.

وتدرج نظرية “الدولة الريعية” أن الحصول على مصدر غير إنتاجي للدخل، يجعل من نظم الحكم في الشرق الأوسط نظماً أقل اعتماداً على استخراج الثروة من شعوبهم من أجل تمويل الدولة، وأكبر قدرة على كسب التأييد الشعبي عبر تقديمهم للإمدادات السخية للخدمات الاجتماعية، وتوفير الوظائف الحكومية.

وفي الختام، تذكر المؤلفة أن الأنظمة السلطوية لن تختفي قريباً، وأن أكثر من 40% من سكان العالم يعيشون في ظل أنظمة سلطوية، بما يعني أن ثلث دول العالم تحكمها أنظمة سلطوية، وهو ما يعدّ انخفاضاً في عددها، مقارنة بعددها خلال حقبة الحرب الباردة، وهناك بعض المؤشّرات التي تدل على استمرار انخفاض عددها”.

باعتقادي، في حسابات الأمن القومي للدول الحديثة بالإضافة إلى فصل الدين عن الدولة، يجب أن تتمتع بمرونة التحول في سياساتها الخارجية بما يتناسب مع سياساتها الداخلية وفي البناء الاجتماعي والتوازن الاقتصادي الذي يشكل انعكاساً حقيقياً للتغييرات المحلية والإقليمية والدولية، بما يساهم في التعافي المبكر واستدامة الاستقرار والسلام على المستوى المحلي وانعكاسه على الامن والسلم العالمي.

وختاماً.. نتمنى ألا نصل في عالمنا إلى مقولة الأديب المفكر فيودور دوستويفسكي “سيصل العالم إلى زمنٍ يُمنع فيه الأذكياء من التفكير حتى لا يسيئوا إلى الحمقى”.

 

باسل كويفي

المصدر: ليفانت

الآراء المنشورة في هذه المادة تعبر عن راي صاحبها ، و لاتعبر بالضرورة عن رأي المرصد.