العالم لن ينهار لكن البقاء سيكون للأقوى

35

وأوضح الأستاذ الراشد أن التعافي من الأزمة سيكون ممكناً، خصوصاً في الدول التي تمتلك مقومات تستند إلى العلوم، وعلى مؤسسات راسخة، مستدلاً بتمكن ألمانيا واليابان من الوقوف على أقدامها، حتى رغم كونها خرجت خاسرة من الحرب العالمية الثانية، التي تسببت بطبيعة الحال بتوقف الحياة المدنية، والعجلة الاقتصادية، لست سنوات.
لكن، إن سمحتم لي، سأضيف هنا جزئية أراها مهمة، وإن كانت مُحبطة. فالواقع أن كورونا «المُستبد» هذا كشف عن «كعب أخيل» الإنسانية. حيث تمكن هذا الفيروس، الذي لا يُرى بالعين المجردة، من أن يفعل بِنَا ما لم تتمكن منه أعتى أسلحة الدمار الشامل، وأفظع الكوارث الطبيعية، وأخبث الهجمات الإرهابية، وبالتالي، فإن تأثيره على حياتنا سيكون أشد وطأة، وأطول مدة، من تأثير كل ما واجهته البشرية في السابق، خصوصاً وأنّ رأي الطب واضح في الموضوع: طالما هناك شخص واحد مصاب بالفيروس في العالم، فإمكانية تحوله لوباء عالمي مجدداً تبقى قائمة.
ولو افترضنا أن لدى «كوفيد – 19» عقلاً قادراً على التفكير والمراقبة والتخطيط، فسنجد أنه اكتشف أن نقطة ضعفنا كبشر: حاجتنا أن نكون سوياً. فعلى مستوى العلاقات الإنسانية، لا يمكن لأي تطبيق اتصال مرئي رقمي أن يعوضنا عن حاجتنا لمعانقة من نحب، أو تقبيل جبين آبائنا وأمهاتنا، أو مصافحة من نود شكره، أو حضور الأفراح، أو أداء واجب العزاء. كما لا يمكن لأي أداة أو نظارة واقع افتراضي أن تعوض عن حاجتنا للتنقل، والسفر، تماماً كما لا يمكن للتعليم عن بعد، مهما تطورت الخوارزميات المتعلقة به، من تعويض الاستفادة التي يستفيدها الطفل في فصل دراسي واحد مع زملائه، وتحت إشراف معلم.
لكن على الرغم من كل ذلك، وخلال أربعة أشهر فقط، تمكن هذا الوباء من محو آلاف السنين من التقاليد والعادات الاجتماعية، والعودة بنا إلى اللجوء للاختباء في بيوتنا، وكأنها الكهوف التي أوت أوائل البشر (وإن كانت كهوفنا اليوم – لله الحمد – أكثر أمناً، ومكيفة، ومزودة بالكهرباء و«الواي فاي»).
وبالاستمرار في استعراض مدى ذكاء هذا الفيروس اللعين، فسنجد أنه قارن نفسه بالفيروسات والأوبئة الأخرى، وقرر أن يطور نفسه في مجالات تجعل منه خصماً مختلفاً عما واجهناه سابقاً. ففي حين كان «الكوليرا» أشد فتكاً في السابق، إلا أنه ينتقل في الغالب بشرب مياه أو أكل أطعمة ملوثة. وكذلك الحال مع فيروس «إتش آي في» المسبب لمرض الإيدز، الذي يتطلب اتصالاً جنسياً مباشراً مع شخص مصاب، وليس مجرد مصافحة أو محادثة أو حتى لمس زر المصعد من بعد شخص مصاب.
حتى الأمراض التنفسية الحادة التي انتشرت في السنوات الأخيرة، مثل «سارس» و«ميرس»، لم يكونا معديين بهذا الشكل، وبهذه السهولة.

في المقابل، يستمر «كورونا» في استعراض عضلاته، فنحن لا نزال لا نعلم إن كان المصاب الذي يتعافى منه سيتمتع بمناعة دائمة أم لا، ولا ندرك بشكل قاطع إن كانت حرارة الصيف ستؤدي للحد من انتشاره، مثل ما كان الحال مع مرض «سارس» مثلاً. وحتى لو تمكنا من اكتشاف علاج ولقاح اليوم، فما الذي يضمن ألا يخرج علينا «كوفيد – 20» (النسخة المطورة من «كوفيد – 19»)، أو أي فيروس مطور آخر يكون أكثر فتكاً وعدوى خلال أشهر؟ وهل يتحمل الاقتصاد العالمي، وتتحمل عقولنا ونفسياتنا نحن كبشر، موجة ثانية من أخبار الإصابات والوفيات والإفلاسات والقيود على الحركة والإجبار على العزلة؟
وبما أنني تحدثت عن الحياة في الكهوف، فلا بد من الإقرار بأن عودتنا إلى الحياة البدائية هي أكثر من مجرد مقاربة مجازية. فإذا نظرنا للمرض نفسه، وما تسبب به من تغيرات على حياتنا، سنجد أننا فعلياً نعيش مرحلة داروينية عنوانها: «البقاء للأقوى».
ذلك لأنه من الواضح حتى الآن أن «كورونا المستجد» أشد فتكاً بالأضعف من بيننا: الكهول، والمواليد الجدد، ومن لديهم أمراض مزمنة، ومن يعانون من ضعف المناعة في الأساس.
كما أنه من البديهي مثلاً ألا تؤثر الأزمة على كريستيانو رونالدو، لاعب كرة القدم الأغنى في العالم، الذي يمضي فترة الحجر المنزلي في قصر فاخر بمسقط رأسه في جزيرة ماديرا البرتغالية، بالشكل نفسه الذي تؤثر فيه على سكان أفريقيا جنوب الصحراء، الذين لا يملك 63 في المائة منهم الموارد الكافية لغسل أياديهم بالماء والصابون، حسب أرقام «يونيسيف».
وعلى مستوى المال والأعمال، فمن البديهي أن الأزمة، وإن تسببت بنزيف مؤقت للشركات العملاقة، فهي ستخرج منها سالمة، ربما أكثر قوة، بعد أن تستحوذ على منافسيها، أو بعد أن تستفيد من مواردها في الدخول إلى قطاعات جديدة. فمثلاً، أعلنت شركة «أمازون» – التي تستغل بدون شك زيادة الطلب على التسوق الإلكتروني – عن 175 ألف شاغر جديد خلال شهرين لمواكبة طلبات التوصيل للبيوت. في المقابل، ستفلس وتنتهي الكثير من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، خصوصاً في الدول التي لا تملك ما يكفي من الموارد لدعم اقتصاداتها بالمعونات والإعفاءات والمنح لفترات طويلة.
الأمر ذاته ينطبق على مستوى الدول، فمن البديهي أن تؤثر عوامل الثراء، وصحة المجتمعات ونظافتها، ونسبة الشباب إلى المتقدمين في السن، ومدى قدرة الحكومات على التحكم في انضباط وتقييد شعوبها بالأنظمة، ووجود مؤسسات حكومية مستقلة ومتمكنة، على الشكل النهائي الذي تخرج به كل دولة من هذه الجائحة.
وفي حين تسبب «كورونا» بالكشف عن «كعب أخيل» آخر لدى الكثير من دول العالم، بما في ذلك الكبرى منها، وهي الاعتماد على الغير في تصنيع وتوريد المعدات الصحية والأدوية، فإنه من المرجح أن تتسبب الأزمة في ازدياد وتحسن التعاون الدولي، وليس العكس، وهذا أمر بدأنا نلتمسه عبر مراقبة قرارات مجموعة العشرين الأخيرة، وذلك بقيادة السعودية التي ترأس القمة هذه السنة.
لذلك نتوقع أن نرى تحالفات جديدة، أو زيادة في فعالية تحالفات قديمة. وهذا الأمر لم يعد رفاهية، بل حاجة، فطالما أن كارثة «كورونا» أصابت الجميع، هي أن يكون في تعاون الجميع الحل في مواجهتها، وبما أننا أتينا على ذكر داروين، فأتصور أنه كان ليتفق معي، خصوصاً حين نتذكر مقولته الشهيرة: «خلال تاريخ البشرية (وعالم الحيوان) الطويل، نجد أن من تعلم التعاون والارتجال بطريقة فعالة هو من ساد!».

الكاتب:فيصل عباس – المصدر: الشرق الاوسط