الغرب واستخبارات النظام السوري: ذلك القران العتيق!

23

تجاهلت وزارة الخارجية الفرنسية رسالة إلكترونية من وكالة أنباء «رويترز»، تستفسر عن حقيقة تصريح بشار الأسد، في حوار مع القناة الثانية (الحكومية) الفرنسية، حول وجود «صلات» بين أجهزة استخبارات فرنسية وأخرى تابعة للنظام السوري. ورغم أن الأسد حرص على نفي «التعاون» بين هذه الأجهزة، أو حتى «تبادل معلومات»، فإنّ مجرّد التواصل إذا صحّ ـ ولا سبب يدعو إلى الطعن في صحته، لاعتبارات عديدة بينها سوابق قديمة وحديثة العهد ـ ألهب مخيّلة المحاوِر، دافيد بوجاداس، أثناء المقابلة، كما أطلق العنان للألسنة والأقلام في وسائل الإعلام الفرنسية. تناسى الكثيرون هوية الأسد، وريث أبيه، و45 سنة من تراث «الحركة التصحيحية» في ملفات الاستبداد والفساد، وارتكاب شتى جرائم الحرب، وتدمير سوريا، وقتل مئات الآلاف من السوريين، واغتصاب النساء، وتعذيب المعتقلين حتى الموت، وتشريد الملايين، واستخدام مختلف الأسلحة الفتاكة، بما في ذلك تلك الكيميائية… وانشدّوا إلى هذا «اللغز»: صلات، فقط، أم تعاون وتبادل معلومات؟
وفي مطلع العام الماضي، كانت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية قد خلقت الأجواء ذاتها، حين نشرت تقريراً حول اجتماعات سرّية ضمّت ممثّلين عن أجهزة استخبارات أوروبية (فرنسية وبريطانية وإسبانية وألمانية…)، وبعض زملائهم الضبّاط في أجهزة النظام السوري؛ تردّد يومها أنّ اللواء علي مملوك، رئيس ما يُسمّى «مكتب الأمن الوطني»، كان على رأس هؤلاء. وكما حدث في مراسلة «رويترز» مع الخارجية الفرنسية، امتنعت الجهات الأوروبية عن التعليق على التقرير، وذلك رغم افتضاح أمره بلسان فيصل المقداد، نائب وزير خارجية النظام؛ الذي خصّ هيئة الإذاعة البريطانية بتصريح يقول: «وكالات استخبارات غربية زارت دمشق لإجراء محادثات حول مكافحة الجماعات الإسلامية المتطرفة».
لكنّ المقداد أضاف، على طريقة التذاكي الكاريكاتوري الذي طبع لغة خارجية النظام طيلة عقود: «هناك خلاف في المواقف بين المسؤولين الأمنيين الغربيين وبين السياسيين»، حول مطالبة الأسد بالتنحي عن السلطة؛ في إيحاء بأنّ رجال السياسة المسؤولين يقتفون خطاً غير ذاك الذي يقتفيه ضباط الأمن، من جهة أولى؛ وأنّ الفريق الثاني يمارس مهامه بمعزل، وربما باستقلال، عن الفريق الأوّل، من جهة ثانية؛ وكأنّ هذه الأجهزة الغربية نسخة مطابقة لأجهزة آل الأسد، لها سلطة التحكم بالأجهزة السياسية المدنية، ولها القرار الفصل في أوّل الأمر وآخره.
والأرجح أنّ تلك الاجتماعات قد عُقدت بالفعل، وتناولت كلّ تفصيل يخصّ الأمن الداخلي في دول أوروبا، وبحثت على وجه التحديد في تزايد اعداد «الجهاديين» من حاملي الجنسيات الأوروبية داخل صفوف المعارضة الإسلامية المسلحة في سورية؛ حتى حين لم تكن «داعش» تتمتع بمستويات متقدمة من التمدد والسيطرة، كما هي الحال اليوم. لاعجب، ولا جديد أيضاً في اجتماعاتٍ مثل هذه، لأنها لم تنقطع أبداً مع أجهزة النظام السوري، طيلة عقود حكم آل الأسد، الأب أسوة بوريثه الابن. وكان روبرت ج. رابيل قد فصّل وقائعها، في كتابه «سوريا، الولايات المتحدة، والحرب على الإرهاب في الشرق الأوسط»؛ وبرهنت السنوات والأشهر على أنّ التعاون بين النظام السوري والغرب، ثمّ الولايات المتحدة خصيصاً، صار نسقاً ثابتاً أقرب إلى التحالف الاستخباراتي الوثيق، غير المعلَن.
من جانب آخر، أيّ ساذج كان يعتقد بأنّ أجهزة الاستخبارات الغربية، على شاكلة الساسة الغربيين للإنصاف، كانت تسعى للإطاحة بأمثال زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن؟ ومَن الساذج، الآخر، الذي يرتاب في أنّ الأجهزة ذاتها كانت، وما تزال في الواقع، تفضّل بقاء الأسد على رأس نظام جمع الموبقات كلها، أسوة بجرائم الحرب؛ لكنه مطلق الوفاء لتعهده الأبدي في الحفاظ على أمن إسرائيل، والانخراط في «ما يُسمّى الحملة على الإرهاب» على النحو الأشدّ تبعية وقذارة؟
فإذا عبر المرء المحيط، وانتقل إلى أمريكا؛ فإنّ أجهزة الأمن، خلف الساسة في الواقع، ظلت أمينة لتراث عريق في الكيل بمكيالين: واحد، علني، يرغي ويزبد حول حقوق الإنسان؛ وآخر، مبطن، يمدّ يد التعاون مع المستبدّ والاستبداد؟ قبل هيلاري كلنتون وجون كيري، ثمة أمثولة كوندوليزا رايس التي طالبت بإطلاق سراح الناشط المصري أيمن نور، علانية وخلال جلسة استماع في الكونغرس الأمريكي؛ قبيل اجتماعها مع أربعة مسؤولين أمنيين عرب، بينهم اللواء عمر سليمان، مدير المخابرات العامة المصرية آنذاك! هل التناقض فاضح، وفادح، بين مصالحة السجين مع السجان، أو بين المهامّ السياسية ـ الدبلوماسية والمهامّ الأمنية الاستخباراتية؟ لا تناقض، بالطبع، ما دام صانع المصالحة في الحالتين هو المبدأ الذرائعي الذي يكيل المصلحة.
بيد أنّ الفارق، في هذا الملفّ تحديداً، يظلّ منعقداً على هذه الحقيقة البسيطة، والحاسمة تماماً، الجديرة باستذكار دائم: كانت الانتفاضة السورية قراراً وطنياً وشعبياً، في المقام الأوّل؛ ولم تكن، في قليل أو كثير، نتاج تخطيط أجهزة استخباراتية غربية؛ ولهذا يتوجب ألا تكون ـ في حاضرها، وفي انتصاراتها مثل انتكاساتها ـ رهن أيّ تنسيق استخباراتي، سواء بين الأجهزة الأوروبية والنظام، أم بين أجهزة هذه الدولة أو تلك مع أطراف المعارضات السورية. ولعلّ الانتفاضة السورية بحاجة، اليوم كما في الأمس، إلى اتقاء شرّ الكثير من زاعمي صداقة الشعب السوري، وعلى رأسهم سدنة ما يُسمّى «المجتمع الدولي»، قادة أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وسواهم، ممّن كانوا، أو كان أسلافهم قبلهم، في طليعة مساندي نظام «الحركة التصحيحية»، أي انقلاب الأسد الأب سنة 1970، وتوريث الأسد الابن سنة 2000، وعلى امتداد محطات كثيرة ومنعطفات كبرى في تاريخ المنطقة المعاصر: من اتفاقية سعسع، 1974، مع إسرائيل؛ إلى التدخل العسكري في لبنان، 1976؛ إلى الحرب ضدّ الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وحصار المخيمات، والاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، ومجزرة تلّ الزعتر؛ وصولاً إلى القتال تحت الراية العسكرية الأمريكية في تحالف «حفر الباطن»، والمشاركة في مؤتمر مدريد، والمفاوضات مع إسرائيل سرّاً أو علانية، في شبردزتاون وكامب دافيد وعمّان وأنقرة…
سدنة «المجتمع الدولي» هؤلاء، وأسلافهم، سكتوا عن عشرات المجازر التي ارتكبها النظام السوري، في حماة وتدمر وحلب وجسر الشغور ودير الزور واللاذقية وحمص، وسقط خلالها عشرات الآلاف من الأبرياء، خلال سنوات 1979 ـ 1982؛ بل تعاقدوا على تشجيعها ضمناً لأنّ التفكير الذرائعي كان يبرّرها على هذا النحو: نظام دكتاتوري استبدادي فاسد، يقصف المدن ويسفك الدماء ويحرق الأرض، ولكنه «علماني» و»مستقرّ» و»مرن»، ومطيع تابع مطواع؛ وأرضه تحتلها إسرائيل، ولكنّ خطوط الاحتلال صامتة خرساء آمنة؛ وهو خطّ إمداد «حزب الله» بالسلاح الإيراني، ولكنه في نهاية النهار يقوم بمهامّنا هناك، ويلبّي حاجات حلفائنا، على أحسن وجه، وبأفضل ممّا نستطيع نحن!
وللمرء أن يكرر، اليوم، ما قيل بالأمس حول هذه «الصلات»: فليجتمعوا، ما طاب لهم، مع أمثال علي مملوك وجميل حسن؛ فلا الاجتماعات سوف توقف تدفق «الجهاديين» من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا إلى سوريا، بل ستسفر عن مآل معاكس؛ ولا هي ستُقعد الانتفاضة الشعبية في مواجهة نظام فاشي وهمجي، يتداعى كلّ ساعة وكلّ يوم. هي، في نهاية المطاف، اجتماعات تعيد تكريس ذلك القران العتيق والبذيء بين الديمقراطيات الغربية وأنظمة الاستبداد والفساد؛ فلا جديد تحت الشمس، إلا افتضاح المزيد من أوساخ الصلات والمتواصلين!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

القدس العربي