المتحد السوريّ ومخزنه الضائع وكائناته الحدودية

26

المعطيات الجغرافية والسكانية السورية مأخوذة هكذا، «معلقة في الفضاء»، مقطوعة عن سياقات التاريخ والذاكرة والسياسة، لا تحدّد، بصورة «قدرية»، أفضلية مسبقة لنموذج الدولة الوحدوية على الدولة الإتحادية، أو العكس.
والدولة الوحدوية يشاع الإصطلاح عليها بالدولة «المركزية» في العربية المعاصرة، مع أنه يمكن أن تكون مركزية أو لامركزية. وما حصرها ترجمياً بهذا الشكل إلا اقفال لهذا الباب بالتلفيق. واختزال «الوحدوية» (الاونيتارية) في تلك «المركزية» يماشي عربياً المصطلح الرائج فارسياً «حكومت متمركز» في مقابل دقة ترجمية في لسان الأردو «وحداني رياست».
أما فيصل التفرقة بين الدولة الوحدوية وتلك الإتحادية أن الحدود الداخلية في الأولى ستبقى إدارية في تعريفها، بصرف النظر عن محاكاتها للشخصيات المناطقية والحدود الثقافية، وعن انعكاساتها السياسية، في حين أن الحدود الداخلية في الدولة الإتحادية هي حدود سياسية في المقام الأول، حتى لو لم تكن تحاكي القدر نفسه من التمايز المناطقي – الثقافي هنا أو هناك.
بحد ذاتها، جغرافية الكيان الوطني السوري الموجود أكثره في البادية، لا توجد أفضلية مسبقة. هناك كيانات وطنية تكاد تقول لنفسك ما أن تراها على الخارطة بأنها «لا تستوي» من دون فدرالية. ليست هذه حال سوريا. أيضاً التعددية الدينية والمذهبية داخلها، والمرتبطة بلون ديني مذهبي أكثري واضح، ولسان عربي مهيمن، ليست بهذا القدر من «الفيسفسائية» بحيث لا يمكن التفكير فيه إلا في نطاق الإتحادية.
كمعطيات مأخوذة بشكل كمي، سكوني، غير ناطق، ليس هناك ما يسوّغ مسبقاً صياغة سوريا على أساس المبدأ الوحدوي أو على أساس المبدأ الإتحادي. يبقى أن هذه المعطيات ليست خرساء أو سكونية أو ثابتة، وهذا ليس أبداً بشيء عارض.
هناك في سوريا فشلان، لا واحد.
فشل في «الزرع الفدرالي» في المرحلة الكولونيالية. من سماته، فرض نموذج نافر ورجعي من الفدرالية: «الدول الادارية» المسماة بأسماء الأقليات في حالتي العلويين والدروز، أو بأسماء المدن، سلطنةً لحواضرها على أريافها، ثم ارتجال «المتحد السوريّ»، ناقص الإسكندرون، وقبله لبنان بعد فشل «مؤتمر الساحل». فليس صحيحاً أنّ هذه الفدرالية الكولونيالية لم يكن لها ما يسندها من اختلافات اثنية، ومن حرب أهلية شكلت البعد الآخر لما نسميه بـ»الثورة السورية الكبرى»، لكنها كانت منذ البدء سهلة الاستهداف، سريعة العطب، مُبالِغة في «كشف» الطوائف الباطنية، دون أن يكون هناك ما يكفي لتنشئة قومية اثنية جبل-درزية أو جبل-علوية، والأهم متناقضة مع نشأة البرجوازية المدينية ومصالحها، ومع أي «حد أدنى» من «الوظيفة التحديثية» للإستعمار، الذي لا يمكن أن يعمّر طويلاً أو يتوطّد بشكل عميق من دونها.
وفشل في المقابل، في «طرد» هذا التاريخ الفدرالي لسوريا الحديثة، الذي كان تاريخ تكونها، وبرز ذلك في ثنائية التوجهين الاقليميين المختلفين، حلب العراقية الهوى في مقابل دمشق، في فترة انحسار المستعمر. بقي «المخزن» السوري في مقابل الأرياف (بالاستعارة المغربية) ضعيفاً، ببقائه مخزنين دمشقي (الكتلة الوطنية) وحلبي (حزب الشعب)، ثم كان الهروب إلى الأمام بالوحدة مع مصر. وجمال عبد الناصر لم يكذب خبراً: اشترط أن تكون الوحدة بين القطرين مركزية اندماجية خبط لصق (رغم التباعد الجغرافي، ورغم عدم انجاز الوحدة المالية). نُظِر إلى «الاقليم الشمالي» كريف بالكامل (تتمة لمحافظات الدلتا)، وما كادت البرجوازية المدينية الشامية تتنفس الصعداء بـ»الإنفصال» ضداً عن ارادة الجماهير، حتى جاء صعود البرجوازية الصغيرة الثورية البعثية ليجترح معادلة، لم يكن بالمقدور صياغتها بشكل ناجز إلا في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد: سوريا دولة مركزية من دون أن تكون دولة وحدوية. بمعنى آخر: بخلاف الدولة الوحدوية التي لا تعرف حدوداً داخلية إلا ادارية، فإن «سوريا الأسد» هذه مصممة على أساس مبدأ الحدود الداخلية السياسية غير الرسمية، انما المرسوم بشكل واضح ومنهجي، من قبل «الدولة المركزية».
وهذه الدولة المركزية، أي جهاز الدولة الذي أمسك الضباط البعثيون العلويون بزمامه، لهان أمره لو كان يريد تأمين وظيفة واحدة: غلبة الأقلية العلوية. لا، كان يريد صهر الناس أيضاً، وبجدية، لكنه يعود فيميزهم بين قابلين للصهر وغير قابلين للصهر، ومتحمسين زيادة عن اللزوم للصهر، ومتحمسين أقل من اللزوم، ويعتبر أن ثمة «خميرة» ينبغي عدم تبديدها، أي شبكة أمان للنظام تؤمنها عناصر لحمة، «بيولوجية» حقيقية أو متخيلة، غير مطروحة للصهر من الأساس.
وهنا، التناقض المستعر الذي شكلته تجربة بناء دولة مركزية غير وحدوية (اونيتارية)، إلا في الفضاء الأيديولوجي للوحدوية (اونيونيست) القومية العربية، كانت له وجهة محددة في التعامل مع الأكراد: فهم لا يشكلون وفقاً لهذا المنظار جزءاً من الكيان الداخلي، ولا يمكن التعرف عليهم في الحدود الداخلية التي هي «سرّ» مكشوف من أسرار النظام وشبكة مواصلاته ومعتقلاته. بل هم «كائنات حدودية»، هم الحدود نفسها، بين الوطن العربي الكبير وبين خارجه. في حالتي، حرمان الكرد السوريين حقوقهم، وجنسيتهم، أو دعم «العمال الكردستاني» في مواجهة أنقرة، كان هناك اعتبار واحد: الكورد بصفتهم كائنات حدودية، كائنات «بانديتية» طريفة يمكن أن تفرزها أي حدود بين قوميتين في العالم.
هذه النقطة بالتحديد لم يراجعها الخطاب المهيمن على قوى الثورة السورية. بالعكس. جرى الايغال في هذا المنطق، وبدل دعوة الكرد إلى دولة وحدوية لامركزية، تسمح لهم بالحقوق الثقافية كاملة، وبالمشاركة السياسية الواسعة، جاء «رهاب الفدرالية» ليعسكر مجدداً، بخلطات بعثية – إسلامية – ليبرالية متفاوتة المقادير، من «الدولة المركزية اللا-وحدوية»، التي لم تعد حدودها الداخلية سراً لنظام هذه المرة، بل كانتونات للوردات الحرب السورية. وفي سوريا، «رُهاب الفدرالية» هو الناخب الأول للفدرالية.

وسام سعادة

المصدر: القدس العربي