المجازر تستهدف «التفاوض» أوّلاً

31

حدثت مجزرة في مدينة تلدو في منطقة الحولة في 25 أيّار 2012 راح ضحيّتها 108 مواطنين بينهم 34 سيّدة و49 طفلاً. حقّقت الأمم المتحدة حينها في ملابسات الجريمة، وفي الشهادات المتضاربة حولها، بانتظار أن يوضع ملفّها يوماً مثل بقيّة جرائم الحرب التي ارتكبت في سوريا على طاولة المحاسبة. لكن من المفيد أيضاً وضع تلك المجزرة وتوقيتها في سياقها السياسي والاجتماعي. لقد حدثت خلال مهمّة المراقبين الدوليين غير المسلّحين لتخفيف تصاعد وتيرة العنف في سوريا وشكّلت تحدّياً قويّاً لطبيعة مهمّتهم، برغم مساهمتهم سريعاً في مجريات التحقيق، ما أدّى إلى سحبهم جزئياً ومن ثمّ كاملاً في 20 آب التالي. كما أتت المجزرة في خضمّ مبادرة المبعوث المشترك للأمم المتحدة وللجامعة العربيّة حول سوريا كوفي عنان ذات النقاط الستّ، والتي أدّت في النهاية إلى «بيان جنيف 1» في 30 حزيران المشهود وإلى مؤتمر المعارضة في القاهرة في 2-3 تموز. لكنّها قضت على اتفاق وقف إطلاق النار الذي تمّ التفاوض عليه ضمن المبادرة، والذي أعلن «الجيش السوريّ الحرّ» أنّه لم يعد يلتزم به. كما أطلق رئيس المجلس الوطني «حرب تحرير» حتّى يصدر قرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع. وشكّلت فرنسا مجموعة «أصدقاء سوريا» مشيرة إلى إمكانيّة تدخّلها عسكريّاً. هكذا شكّلت هذه المجزرة منعطفاً، كانت أبرز سماته تصاعد عدد الضحايا الأسبوعيّ إلى وتيرة غير مسبوقة، بحيث تخطّت الـخمسمئة، بل الألف أحياناً، ولم تقل عن ذلك سوى في فترات نادرة. كما تحوّلت الانتفاضة كاملاً إلى حرب مع انطلاق معركة حلب وريفها.
تبعت تلك المجزرة مجازر أخرى، شكّلت هي أيضاً منعطفات في الصراع. وخاصّة مجزرة الكيماويّ في غوطة دمشق في آب 2013 والتي أدّت إلى نزع مخزون السلاح الكيماويّ من سوريا في أوّل توافق روسيّ ـ أميركيّ منذ بدء الصراع.
فما هو المنعطف الذي ستشكّله مجزرة دوما الأخيرة؟
من اللافت أنّ العنف في سوريا يتصاعد كلّما جرت المحاولة سياسيّاً لإيقافه أو إلى تخفيفه. هكذا تدلّ مؤشّرات آليّة تطوّر الصراع منذ إطلاق أولى مبادرات التفاوض. فقد ضرب تصاعد العنف مخارج ما سُمّي حواراً وطنيّاً لحلّ الأزمة في حزيران 2012. كذلك تصاعد العنف لدى إطلاق مبادرة المراقبين العرب، وسُمّي أحد أيّام الجمعة آنذاك بـ «الجامعة العربيّة تقتلنا»، ليصل الأمر إلى إنهاء تلك المبادرة، ومن ثمّ إلى تصاعد وتيرة العنف. ومن الواضح أنّ مثل هذا التصاعد يؤثّر على الرأي العام السوريّ، ويأخذه بشكلٍ تلقائيّ إلى رفض التفاوض والحلول السياسيّة.
وتصعيد العنف المقصود، أو ذلك الذي يأتي في سياق تطوّر المشاعر وتأجّج الصراع، يترابط بشكلٍ وثيق مع آليّات الصراع الأخرى. فهو الذي يغيّر الذهنيّات ويأخذها إلى استحالة العيش المشترك، بين أطراف تصوّر أنّها هي أطراف الصراع، طائفةً كانت أم قوميّة أم فئة اجتماعيّة، وما لا يُمكن حلّه لا سياسيّاً ولا عسكريّاً. وتصعيد العنف ومشهد الشهداء والضحايا وخاصّة الأطفال منهم يدفع نحو تغليب المشاعر على العقل. والعنف وسيلة أو حجّة يستخدمها مَن لا يريد حلاًّ، فالعنف وسيلة تنقل أيّ «تفاوض» إلى غير مكانه.
رحم الله شهداء دوما، كما جميع شهداء سوريا. ولكن الأمل هو أنّ يتعلّم السوريّون الدرس من مآسيهم، بحيث لن تُبعدهم مشاعر سخطهم على العنف المفرط والجرائم والمجازر، من السير إلى كسر آليّة القتل العبثيّة، عبر ما يجعلهم بشراً، أي تغليب العقل على الانفعال الجارف. تبقى الكلمة والحريّة والمساواة والكــرامة هي أهدافنا كبشر عامّة… وكسوريين اليوم.

سمير العيطة
المصدر: السقير