المرأة السورية خلال عقد من الثورة: اعتقال وتغييب قسري وعنف واستغلال واعتداءات وفقدان الهوية.. والمعاناة تتفاقم على كافة الأصعدة

75

منذ الصرخة الأولى للثورة في آذار 2011، كان للمرأة السورية انخراط واضح فيها، متحدّية المخاطر والقتل اليومي والقمع في ميادين الحراك من شمال البلاد إلى جنوبها.
وجاءت ثورة المرأة السورية ضدّ الممارسات والقوانين التي أهدرت كرامتها لعقود وقيّدتها، لتجد نفسها مع موجات القمع تصارع مصيرا مجهولا وصعبا، متأرجحة بين مسؤولياتها الأسرية الثقيلة سواء في مناطق الحرب أو في مخيمات اللجوء والنزوح.
تجاربهنّ، ومآسيهنّ، وشجاعتهنّ، وإحباطاتهنّ، ومفاهيمهنّ، وآمالهنّ كثيرا ما قادتهنّ إلى معتقلات النظام وغيره والموت تحت التعذيب، وفي ساحات القتال أحيانا متصدية لقمع مورس ضد ذويها.. قصصهن تكتب في مجلّدات سيخلّدها التاريخ ويحكيها برغم مرارتها وآلامها، مجسدة تلك القوة الخارقة التي استمدتها من دموع دماء ترجف حبّا لوطن ينزف.

المرأة أبرز الخاسرين..
تعد المرأة من أبرز الخاسرين في هذه الثورة التي حوّلها الطغاة والغزاة إلى حرب طاحنة دامية جاءت على الأخضر واليابس وسالت فيها دماء الأبرياء، حيث وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان منذ إنطلاقة الثورة السورية في 15 من آذار 2011 وحتى الأول من آذار 2021 استشهاد 13843 مواطنة فوق الـ 18، وتوزع الجناة على النحو التالي:
قتلت قوات النظام 10460 مواطنة بنسبة 75.6%
قتلت الطائرات الروسية 1321 مواطنة بنسبة 9.5%
قتلت طائرات التحالف 712 مواطنة بنسبة 5.1%
قتلت القوات التركية وطائراتها 129 مواطنة بنسبة 0.93%
قتل حرس الحدود التركي 42 مواطنة بنسبة 0.3%
قتلت الطائرات الاسرائيلية 3 مواطنات بنسبة 0.02%
قتلت الفصائل الإسلامية والمقاتلة 197 مواطنة بنسبة 1.45%
قتلت المجموعات الجهادية 264 مواطنة بنسبة 1.9%
قتلت الفصائل الموالية لتركيا 111 مواطنة بنسبة 0.8%
قتلت قوات سوريا الديمقراطية 189 مواطنة بنسبة 1.4%
قتل تنظيم “الدولة الإسلامية” 415 مواطنة بنسبة 3%

هذه الأرقام المفزعة، منذ بداية الثورة، ترجمت معاناة المرأة السورية التي لعبت دورا مهما في الحراك السياسي السوري، حتى أن العديد منهن حملن السلاح دفاعا عن مصير الانتفاضة قبل أن تتسلّح وتخرج عن مسارها عبر التدخلات الأجنبية التي كانت سببا في تشريد نصف السوريين وتجويعهم ونهب ثروات بلدهم.

فقدان العائل..
عشر سنوات من الأحداث المرعبة كفيلة بقلب حياة المرأة السورية، فبعد أن كانت تعيش وسط أسرتها وعائلتها زوج أو أب يحرسها ويوفّر رزقها ويوفر احتياجاتها الضرورية، أصبحت مضطرة إلى تحمل أعباء أسرة وأبناء لتوفير لقمة العيش بعدما فقدت معيلها إما متوفيا أو سجينا ومعتقلا أو مختفيا أو مرابطا في ساحات القتال مع جهة ما، لتتقمّص دور الأب وتتحمل مشقة المسؤولية في بلد غير مستقر وحرب مدمّرة وقصف متواصل لا تعرف أنها قد يستهدف خيمتها البسيطة أو بيتها المتواضع.
تعدّدت معاناة السورية يوماً بعد يوم مع كبر مسؤولياتها وعدم قدرتها على لم شمل الأسرة التي فرقها النزوح والموت، وأغلبهن صرنا يحملن السلاح في وجه الشر المتربص بأبنائهن مطالِبات بالحرية التي آمن بها السوريون رجالا ونساء.
هي الأخرى شأنها شأن رجال البلد ضاق صدرها من الاعتقال التعسفي والظلم الذي غالبا ما ينتهي بالقتل، إضافة إلى فرض حالات التضييق والقمع من قبل التنظيمات على النساء والاعتداءات الجنسية والاغتصاب والتنكيل.
ولا يمكن الحديث عن التنكيل إلا وتقفز إلى الذاكرة حالات ارتفاع نسب العنف الجنسي المسلط على النساء كأداة ضغط واعتراف من قبل نظام مجرم وفصائل مسلحة، في دولة مثل سورية حيث يكون الدفاع عن العرض والسمعة مهمة تقع على عاتق الأفراد جميعهم، ومن هنا يتم استخدام الاغتصاب للضغط بشراسة على معارضات النظام وإخضاعهن بقوة.
كثيرة هي القصص التي مرّت ووثّقت في السجون والمخيّمات وأثارت ضجة ثم توفيّت في الرفوف.
وقد أظهرت دراسة قام بها صندوق الأمم المتحدة للسكان أن ما يقارب 145 ألف عائلة سورية تكون المرأة هي ربة العوائل والمسؤولة الوحيدة عن تأمين كافة مستلزماتها بغياب الرجل عنها.
ووضعت سنوات الحرب في سورية النساء أمام واقع العمل لسدّ الفجوة الناتجة عن الظروف الاقتصادية المرهقة، حتى أنهنّ أحياناً كنّ المعيل الوحيد في ظل غياب قسريّ للرجل، بين اعتقال أو موت أو هجرة أو انخراط في الحرب مع أحد أطراف النزاع، وهو ما شكّل شيئاً فشيئاً تقبلاً اجتماعياً لعمل المرأة نتيجة الظروف الاجتماعية الاستثنائية، بعد أن رفضته أسرٌ سورية لسنوات.
كما اضطرت المرأة للقبول بمهنٍ بعيدة كل البعد عن تخصصها وطبيعتها، لتعيل نفسها وأسرتها وأطفالها، فعملت في الزراعة والإنشاءات ومهن أخرى كانت حكرا على الرجال..

استغلال النساء ووصاية غير عادلة..
وأبرزت عديد التقارير التي قام بها المرصد السوري لحقوق الإنسان طيلة سنوات الحرب المستعرة أن المرأة السورية قد واجهت تحديات كبيرة كمحدودية فرص العمل وقلة توفر الخيارات، ولا سيما لصاحبات الشهادات، مع رصد صعوبة الوصول إلى سوق العمل في سورية.. ووفق إحصائيات الأمم المتحدة واجهت 82 في المائة من النساء تحديات من حيث النقل ووجود مرافق للأطفال، وواجهت 55 في المائة مشكلات متعلقة بانعدام الأمن بينما واجهت 43 في المائة تحديات متعلقة بظروف العمل، والالتزامات العائلية بنسبة 39 في المائة، والعادات الاجتماعية والثقافية بنسبة 30 في المائة.
ومن ناحية أخرى، وفي ظل سيطرة الفصائل المسلحة على بعض مناطق إدلب مثلا وريفها يعتبر دور المرأة لاغيًا بشكل كامل في كل مفاصل الحياة، بحسب المرصد، وذلك بسبب الآيديولوجيا التي تفرضها الفصائل على المنطقة، حيث تصل نسبة البطالة لدى المرأة في تلك المناطق إلى 95 في المائة تقريبا، ويبلغ أجر من يعملن في مجال الزراعة 3 دولارات على الأكثر يومياً، أما منظمات المجتمع المدني، فيكاد دورها يختفي في ظل سطوة الفصائل التي تفرض على المرأة قيوداً صارمة وتمنع أي نشاط نسائي يهدف إلى تحرر المرأة ومشاركتها في قيادة المجتمع.

المعتقلات في سورية… ضحايا الاضطهاد والقمع
وتتكئ سوريات ضحايا الدولة وسلطات القمع والاضطهاد على الجدران في صورة أبشع من تلك التي تصورها بعض المسلسلات الدرامية بل أقسى في صراعها للحصول على أبسط مقومات الحياة، لتداس الكرامة بين أسوار “السجون الضيّقة” في واقع حرب قصمت ظهرها بفقدان عزيز ونسفت كلّ مقومات حياتها .
وتشن قوات النظام حملات اعتقال واسعة للنساء، كورقة ضغط على المعارضين الذين يواجهون النظام، شأنه شأن بعض أطراف المعارضة التي تستعمل هذه الورقة للضغط.
ووفقاً لتوثيقات المرصد السوري فقد بلغت حصيلة حالات الاحتجاز التَّعسفي والتغيب القسري للمرأة منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011 (154984) امرأة
المرأة التي استطاعت أن تستوعب قسوة الحرب هي ذاتها التي تستحق في المقام الأول أن تعوّض عن سنوات الجمر والغلب والقهر والعراء والتنكيل.
وتحدّثت تقارير أممية عن اعتقال النساء وتعذيبهن وشتمهن بألفاظ نابية قبل توجيه أي سؤالٍ ، كما أن المرأة تبقى أحياناً تحت التعذيب عدّة أيّام حتى تنهار تماماً وتضطر للموافقة على أية تهمةٍ قد توجّه إليها، وهو ما روته قصص كثيرة لمعتقلات هربن من الأسر.
وكان المرصد السوري قد فضح منذ آذار 2011، التهم التي توجّه إلى النساء وأغلبها تتعلّق بقضايا الإرهاب والتعامل مع فصائل المعارضة السورية ومساعدة الجيش الحر وتهريب السلاح، وأخريات اتّهمن بالمشاركة في التظاهرات ونشر تعليقات مناهضة للنظام السوري وكذلك الأمر مشابه بالنسبة للفصائل المسلحة وفصائل المعارضة..
ورصدت تقارير أخرى الفظاعات التي يرتكبها النظام والفصائل المسلحة في السجون والأفرع الأمنيّة، ضد المعتقلات على خلفية سياسية، وعلى رأسها الاعتداء والعنف الجنسي كأداة حرب للقمع وكسر إرادة السوريين.

النزوح… ومعاناته
لا تنتهي معاناتهنّ بمجرّد خروجهنّ من وراء القضبان، بل تستمر مع التضييق على حياتهن العائلية والمجتمعية، وحرمانهن من احتضان أبنائهن والعيش بشكل طبيعي، مع نظرة حادة قاسية من مجتمعات تعيب مطالب المرأة بالحرية والانعتاق.
والسورية التي نزحت مع أبنائها إلى المخيمات، معاناتها مضاعفة، فبغض النظر عن الهموم التي تسيطر على كيانها في ظل القصص المروعة التي مرت بها في بلدها فهي تعاني من قسوة العيش وعدم توفّر أبسط ضروريات الحياة مع نقص في الغذاء والتمويل اللازم، وما زاد الطين بلة الظروف المناخية الصعبة التي عاشها اللاجئون بمن فيهم النساء في المخيمات، وما أزّم الوضع كذلك إنجاب بعضهن في المخيمات.
كل موجات الصقيع والبرد والحرّ شاهدة على معاناتهن إلى جانب الآثار الصحية الصعبة التي خلفتها تلك الموجات والتي نتج عنها عدد من الوفيات في صفوف الأطفال والشيوخ، وفق شهادات منظمات حقوقية من ضمنها المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي طالما حمل معاناة السوريات للعالم وكشفها.

انقطاع مبكّر عن التعليم..
كما عانت المرأة السورية تبعات الحرب التي لا تزال مستمرة منذ عشر سنوات، ودفعت أثمانًا باهظة فقدًا وتهجيرًا ونزوحًا وفقرًا وعنفًا وانتهاكات مورست عليها، وانقطاعا عن التعليم في سنّ مبكّرة… إلخ، وهو ما جعلها مدفوعة إلى القبول بالعمل الهشّ من أجل توفير القوت..
وتسببت حرب النظام والفصائل في تزايد ملحوظ في نسب الأمية بين النساء، وفق آخر إحصائيات المنظمات الدولية، الوضع الذي ينذر بكارثة اجتماعية تصيب جيلا كاملا.
وتقول التقارير إنه منذ إصدار قانون محو الأمية في العام 1972، استطاعت سورية أن تحقق نجاحات كبيرة في هذا المجال، إذ انخفضت نسبة الأمية من 19% عام 2004، إلى 14% عام 2007، إلا أن نار الحرب قد أعادت الأمور إلى فترة التسعينات، وفق المنظمات الدولية.
ولكن برغم كل ذلك لم يتوقف دورها أويغبْ، بل تجدها مشاركة في تعزيز السلم الأهلي خاصة في مناطق النزوح والتهجير، وفي السعي لتقديم مقترحات الحل السياسي لسورية المستقبل، برغم العوائق الكثيرة التي لا تزال تقف حجر عثرة أمامها وتعوق عملها، منها ما يتعلق بالمجتمع ونظرته إلى المرأة، ومنها ما يتعلق بالنخب السياسية وبالجهات الدولية والأممية التي اكتفت بالمشاركة الشكلية والنخبوية للمرأة.
ويرجع بعض المراقبين عزوفها عن الدراسة إلى توافر عدد من المعتقدات والطقوس القبلية لدى بعض هذه المناطق، والسيطرة الذكورية والنظرة الدونية ليُحكَم عليهن بالأمية، كما أوجدت الحرب واقعًا شديد المرارة أدى إلى آثار نفسية سلبية على النساء السوريات، نتيجة غياب الأمن الاجتماعي، وغياب القدرة على التكيف مع الأوضاع غير المستقرة التي تفرضها الحرب، إضافة إلى التعذيب والاعتقال والعنف كما ذكرنا سالفا والذي مورس ضد السوريات في المدارس وقد تحدثت عن ذلك منظمات حقوقية عديدة، ما جعلهن عرضة إلى الاضطرابات النفسية كالخوف الدائم والقلق والاكتئاب، والرغبة في الانتحار والعزلة، لا سيما مع عدم توافر العلاج النفسي وشح الأدوية ومحدودية الإمكانات الطبية.
هي إذن، هزّة قوية عاشتها المرأة السورية كان لها تبعات اجتماعية واقتصادية ونفسية وأخلاقية، دفعت بعض النساء إلى تغيير معتقداتهن وما نشأن عليه من عادات وتقاليد أو قيم دينية أو مجتمعية، وكان لتوجه المجتمع الدولي نحو المرأة السورية أثره في إنتاج مئات منظمات المجتمع المدني التي تحرص على تقديم خدمات للمرأة تناسب المتطلبات والاشتراطات الدولية.
وبرغم كل المآسي، ظلت المرأة السورية هي المنقذةَ ﻭﺍﻟﻨﺎشطةَ ﻭﺍلمعلمةَ ﻭﺍﻷمّ ولم تفقد ﺷﺠﺎﻋﺘﻬﺎ ﻭﺇﺻﺮﺍﺭﻫﺎ وأملها بقادم أفضل.
على مدار السنوات العشر الماضية، عانت المرأة السورية أبشع أنواع الانتهاكات والظروف الإنسانية الكارثية، وفي ظل عدم وضوح رؤية حول آفاق حل الأزمة السورية وسعي كل الأطراف إلى تحقيق أقصى قدر ممكن من المكاسب، فإن المرصد السوري لحقوق الإنسان يدعو المنظمات الدولية المعنية بالتدخل على الفور لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتحسين أوضاع المرأة السورية، ومحاسبة المنظمات المدنية المحلية التي تتلقى دعمًا وتمويلًا من المؤسسات الدولية والمتورطة بنهب ذلك الدعم دون أن تعمل على تحسين وضع المرأة الذي يتردى من سيئ إلى أسوأ بشكل شبه يومي. ويؤكد المرصد السوري لحقوق الإنسان أن استعادة سورية وبنائها من جديد لا يمكن أن يتم إلا بمشاركة المرأة التي تعد ركنًا أساسيًا في بناء المجتمع السوري من جديد، وفي ظل انتشار الفقر والبطالة والجهل، فإن فرص إنقاذ ما تبقى من المجتمع السوري تعد ضئيلة للغاية.