المرصد السوري لحقوق الإنسان: التلويح التركي بغزو شمال سوريا.. أداة مساومة أم خلط للأوراق؟

16

قبل نحو أسبوعين، وقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام برلمان بلاده يهدد بتنفيذ عملية عسكرية جديدة في شمال وشمال شرق سوريا، يقول إنها تستهدف من تصنفهم أنقرة على أنهم “إرهابيون”، في إشارة إلى قوات سوريا الديمقراطية التي تسيطر على المنطقة منذ سنوات بدعم من التحالف الدولي لمواجهة تنظيم “داعش”، والتي تندرج ضمنها وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة ذات الغالبية الكردية.

الرئيس التركي قال إن بلاده “تعتزم الانتقال إلى مرحلة جديدة في عملية إقامة منطقة آمنة تمتد على مساحة 30 كيلومتراً على حدودها الجنوبية، تشمل منبج وتل رفعت”.

التهديدات التركية أعادت الملف السوري إلى الواجهة من جديد بعد تراجع فرضته التطورات الدولية، فالأطراف الفاعلة في الأزمة السورية ترفض تحركات أنقرة وتعتبرها “مهددة لحالة الاستقرار النسبي في شمال وشمال شرق البلاد”، وفي وقت تخشى فيه قوات سوريا الديمقراطية من تكرار سيناريو عملية “نبع السلام” التركية في 2019 بتراجع القوات الأميركية، تحركت القوات التي تسيطر على مساحة تناهز ثُلُث الأراضي السورية، للتفاوض مع القوات الروسية والحكومة السورية لانتشار عسكري أكبر في المنطقة بهدف التصدي لـ”غزو تركي”، بعد اتفاق سابق في 2019 سمح للقوات السورية بالانتشار في مساحة تقدر بـ3% من مناطق شمال وشمال شرق سوريا للمرة الأولى منذ بدء الأزمة السورية.

عملية خامسة ومنطقة آمنة؟

التهديدات التركية بعملية عسكرية وشيكة ضد قوات سوريا الديمقراطية التي تتهمها أنقرة بـ”التبعية لحزب العمال الكردستاني” الذي تصنفه تركيا إرهابياً ليست وليدة اللحظة، فعلى مدار سنوات الأزمة السورية، شنت أنقرة 3 عمليات عسكرية كبرى هي “درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام” من 2016 إلى 2019، إضافة إلى عملية عسكرية رابعة محدودة تحت اسم “درع الربيع” في فبراير 2020 ضد الجيش السوري في محافظة إدلب.

ومن خلال العمليات الأربع، نجحت أنقرة في فرض سيطرتها المباشرة وسيطرة الفصائل المحسوبة على المعارضة الموالية لها على ما يصل إلى 4.9% من إجمالي مساحة سوريا، بما يعادل 9050 كيلومتراً.

خريطة توزع القوى والنفوذ في سوريا - يونيو 2022. الشرق، "المرصد السوري لحقوق الإنسان"
خريطة توزع القوى والنفوذ في سوريا – يونيو 2022. الشرق، “المرصد السوري لحقوق الإنسان”

منذ انطلاق عملية “درع الفرات” التركية في أغسطس 2016، تسعى تركيا إلى إقامة منطقة آمنة بعمق متفاوت يصل إلى 30 كيلومتراً على طول منطقة تمتد لما يزيد على 480 كيلومتراً على الحدود بين سوريا وتركيا، لكن ذلك الهدف لم يتحقق حتى الآن بالشكل الذي تسعى أنقرة لإرسائه بهدف إعادة توطين مليون لاجئ سوري “طوعاً”، بحسب خطط الحكومة التركية.

منذ ذلك الحين، ظهر الرئيس التركي في مناسبات عدة – أشهرها خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها 74 في أغسطس 2019 – يحمل خريطة تظهر حدود تلك المنطقة الآمنة التي يسعى لإنشائها، وقال: “مع مد عمق المنطقة الآمنة إلى خط دير الزور- الرقة، بوسعنا رفع عدد السوريين الذي سيعودون من بلادنا وأوروبا وبقية أرجاء العالم إلى 3 ملايين، وبالتعاون مع الولايات المتحدة وقوات التحالف الدولي وروسيا وإيران، يمكننا نقل اللاجئين من المخيمات إلى المنطقة الآمنة”.

 ضوء أخضر؟

على الرغم من التهديدات التركية المستمرة في غير مرة، فإن التوقعات ترجح تأجيل العملية العسكرية التركية في شمال وشمال شرق سوريا لفترة غير معلومة، والسبب بحسب ما قال مصدران مطلعان على تفاصيل المحادثات التركية الأميركية، والتركية الروسية، هو أن أنقرة لم تحصل على ضوء أخضر لإطلاق عمليتها، سواء من الجانب الروسي أو الجانب الأميركي.

مصدر مقرب من الحكومة السورية، قال لـ”الشرق”، إن أنقرة تطرح على روسيا صفقة تحصل بموجبها على السيطرة على مناطق تل رفعت ومنبج في ريف حلب وعين عيسى والدرباسية وتل تمر في ريفي الحسكة والرقة، مقابل فتح الطريق الرابط بين حل والساحل السوري مرورا بإدلب وضمان أمنه.

وفي المقابل، قال مصدر مقرب من قوات سوريا الديمقراطية لـ”الشرق” إن روسيا ليست لديها مشكلة في تسليم “تل رفعت” إلى القوات التركية والموالين لها، لكنها تواجه معضلة تكمن في أن سيطرة أنقرة على تلك المناطق تضع منطقتي “نُبل والزهراء” الشيعيتين واللتان تشهدان وجوداً كبيراً للجماعات الإيرانية المسلحة والفصائل الموالية لها، تحت رحمة تركيا، والأمر نفسه يسري على “منبج” التي لا تمثل أهمية كبرى بالنسبة لروسيا، لكنها تمثل مفترق طرق ونقطة تواصل بين قوات سوريا الديمقراطية والحكومة السورية، لكن في المقابل، تهدف الحكومة السورية -بحسب مصادر مقربة منها لـ”الشرق”- إلى عدم منح تركيا السيطرة على تلك النقاط لأنها تضيف مزيداً من التعقيدات على المشهد.

مفاوضات وشروط

في محاولة لخلط الأوراق التركية ومنع العملية العسكرية الجديدة، تسعى روسيا إلى الوساطة لاتفاق جديد بين قوات سوريا الديمقراطية من جانب والحكومة السورية من جانب، لكن تلك المفاوضات بحسب 3 مصادر مطلعة تحدثت لـ”الشرق” بشرط عدم ذكر هويتها، (مصدر كردي وآخر محسوب على دمشق وثالث مستقل)، لم تثمر عن اتفاق حقيقي حتى الآن بسبب تمسك كل طرف بمطالبه.

بحسب المصادر الثلاثة، عقد الجانبان لقاءين أحدهما في القامشلي والآخر في حلب، من دون نتائج تذكر حتى اللحظة، والسبب خلافات بشأن طبيعة تسليح قوات الجيش السوري وتمسك الوفد الحكومي بالأسلحة الثقيلة وليس الخفيفة فقط على غرار ما حدث في 2019، إضافة إلى المناطق التي ستنتشر فيها، وكذلك انسحاب قوات سوريا الديمقراطية بالكامل من المنطقة الحدودية.

في المقابل، قالت مصادر متطابقة لـ”الشرق” إن قوات سوريا الديمقراطية تسعى إلى أن يكون الاتفاق العسكري هو أساس لبدء مشاورات سياسية لتسوية يُحدد من خلالها وضع المناطق الخاضعة لسيطرتها وحصولها على الإدارة الذاتية لمناطقها، بالإضافة إلى الاتفاق على وضع قوات سوريا الديمقراطية في أي تسوية مستقبلية.

في الوقت نفسه، كشف مصدر مطلع على تفاصيل المشاورات لـ”الشرق”، أن زيارة قائد القوات الروسية العاملة في سوريا العماد ألكسندر تشايكو إلى القامشلي ولقائه قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، شهدت توترات بسبب تحميل “تشايكو” قوات سوريا الديمقراطية المسؤولية مسؤولية توغل تركيا في الأراضي السوري عام 2019، بحجة أن “قسد” لم تلتزم بالاتفاق الذي رعته روسيا آنذاك للتراجع عن الحدود لمسافة 30 كيلومتراً، والإصرار على تحديد القدرات القتالية التي سُمح بدخولها للمنطقة آنذاك.

وعلى الرغم من عدم تحقيق اختراق في المفاوضات حتى اللحظة، فإن مصدرين آخرين قالا لـ”الشرق” إن الحوار حالياً يجري بشكل منفصل مع الجانب الروسي فقط، إذ تسعى القوات الروسية إلى التوصل لاتفاق تنتشر بموجبه قوة إضافية من قوات الجيش السوري على الحدود مع تركيا، إضافة إلى تعزيز وجود القوات الروسية في مناطق شمال شرق سوريا.

من جانبه، قال المتحدث الرسمي لقوات سوريا الديمقراطية آرام حنا، لـ”الشرق”، إن “التواصل مع الحكومة السورية مستمر على المستوى العسكري منذ دخلت القوات السورية إلى مناطق “قسد” في 2019، وقد أجريت اتصالات أخيراً في نفس السياق من أجل تحقيق الحماية لحدود البلاد ومنع أي غزو تركي جديد للمنطقة”، مضيفاً أن “قوات سوريا الديمقراطية ملتزمة منذ توقيع اتفاق أكتوبر 2019، بما تعهدت به من بنود منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، من خلال السماح بدخول التشكيلات التابعة للجيش السوري والقوات الروسية إلى المنطقة، ولا تزال تلك الاتفاقية سارية المفعول حتى الآن”.

“حنا” أضاف لـ”الشرق” أنه “في ظل التهديدات الراهنة من جانب تركيا، ليس من المستبعد أن يجري التوصل إلى اتفاق جديد يجري من خلاله نشر أسلحة خفيفة ومنظومات دفاع جوي تابعة للجيش السوري والقوات الروسية في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، من أجل دعم قوات (قسد) ضد القوات التركية”.

تعزيزات عسكرية

تصريحات المصادر لـ”الشرق” تتوافق مع تطورات على الأرض شهدتها منطقة القامشلي خلال الأيام الماضية، فبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، عززت القوات الروسية من وجودها في المنطقة، إضافة إلى نقلها أرتال عسكرية ومعدات عسكرية ومنظومات دفاعية قصيرة المدى نحو منطقة “تل تمر”.

وبحسب مصادر محلية لـ”الشرق”، عززت القوات الروسية من وجودها في قاعدة بقرية “السعيدية” الواقعة غربي مدينة منبج في ريف حلب الشرقي، إضافة إلى إطلاق القوات الروسية دوريات جوية على فترات متقطعة في أجواء “منبج” وقرب خطوط التماس مع القوات التركية.

التحركات الروسية تزامنت أيضاً مع دفع الجيش السوري بوحدات من قواته البرية إلى شمال وشمال شرق البلاد، حسبما أشارت مصادر متطابقة مطلعة على مجريات الأمور على الأرض لـ”الشرق”، وهو ما يتوافق أيضاً مع ما نشره المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي نقل عن مصادر قولها إن القوات السورية بدأت الانتشار في ريف منبج، على أن يرتفع العدد بشكل تدريجي إلى 2000 عنصر على الأقل، في منطقة التي تُعرف بـ”خط الساجور” في ريف المدينة على الحدود مع تركيا.

الموقف الأميركي

على الجانب الآخر، تسعى الولايات المتحدة إلى إحباط محاولات التوافق بين قوات سوريا الديمقراطية من جانب والقوات الروسية والحكومة السورية من جانب آخر في المرحلة الراهنة، ما دفعها – بحسب مصادر مقربة من قوات سوريا الديمقراطية – إلى محاولة تقديم ضمانات بأنها تعمل على الضغط على تركيا لوقف العملية العسكرية المحتملة.

وأضافت المصادر لـ”الشرق” أن “وفداً من قوات التحالف الدولي زار قيادات قوات سوريا الديمقراطية في قاعدة خراب عشك، الخميس الماضي، لمحاولة طمأنتهم على الوضع الراهن، وتعهد بتعزيز الوجود العسكري الأميركي في المناطق التي تنتشر بها قوات التحالف الدولي، إضافة إلى تعزيز الانتشار العسكري في القاعدة الموجودة في شركة (لافارج) للإسمنت في منطقة ريف عين عيسى”.

على الصعيد الرسمي، دعت الخارجية الأميركية تركيا إلى الامتناع عن شن عمليات عسكرية جديدة في سوريا، وقالت إن أي عملية من هذا النوع ستؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة وتهدد جهود مكافحة تنظيم “داعش”، بالإضافة إلى كونها تمثل تهديداً للقوات الأميركية الموجودة ضمن قوات التحالف الدولي، في حين قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن “أي هجوم جديد من شأنه أن يوفر للأطراف الفاعلة الخبيثة إمكانية لاستغلال عدم الاستقرار”.

ورداً على التصريحات الأميركية، قال المتحدث الرسمي لقوات سوريا الديمقراطية، لـ”الشرق”، إنه “حتى اللحظة، تعلن الولايات المتحدة رفضها تلك العملية التركية نظراً لما يمكن أن ترتد به على جهود مكافحة داعش”، لكنه استطرد بأن “تلك التصريحات الأميركية تحتاج إلى الترجمة لأفعال حقيقية تضمن دعم موقف (قسد) وزيادة التنسيق العسكري معها في مواجهة العملية التركية”.

استعدادات “قسد”

في انتظار ما سيؤول إليه الحوار مع روسيا واستعداداً للعملية التركية، قال متحدث قوات سوريا الديمقراطية آرام حنا لـ”الشرق”، إن قواته اتخذت إجراءات دفاعية عدة على طول خط التماس مع القوات التركية والشريط الحدودي، لمنع محاولات التقدم إلى عُمق المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية.

وأضاف “حنا” أن قوات سوريا الديمقراطية “قادرة على التصدي لمحاولات تركيا التوغل في مناطقها”، مشيراً إلى أن “هناك إجراءات اتخذت على المستوى المدني والسياسي لحماية المدنيين الذين يعيشون في المناطق المهددة وتقليل الخسائر في أوساطهم”.

المتحدث قال أيضاً إنه على الرغم من التهديدات التركية باستهداف “تل رفعت” و”منبج” فقط، فإن الوضع الراهن يشير إلى أن التهديدات التركية قد تمتد إلى المناطق الغربية حتى منطقة “عين العرب/كوباني” أيضاً.

أزمة داخلية وفرصة إقليمية

تصاعد التوترات في شمال وشمال شرق سوريا حالياً، يرتبط بالأزمات الداخلية في تركيا والتطورات الإقليمية والعالمية التي تسعى أنقرة إلى استغلالها، بحسب قول مدير المركز الكردي للدراسات في ألمانيا نواف خليل لـ”الشرق”، الذي يرى أن تراكم الأزمات الداخلية وتراجع شعبية الرئيس التركي إلى أدنى مستوياتها وفقاً للاستطلاعات الأخيرة التي تتوقع أن يحصل على 37% فقط من الأصوات إن أجريت الانتخابات غداً، دفعاه إلى محاولة تصدير الأزمة وإلهاء الرأي العام التركي ومحاولة الإبقاء على ما تبقى له من حاضنة شعبية.

“خليل” قال أيضاً إن “هناك حالة إحباط لدى الحكومة التركية من عدم تحقيق النجاحات المطلوبة ضد حزب العمال الكردستاني من خلال العمليات العسكرية التي أطلقتها أنقرة في إقليم كردستان شمالي العراق”، وهي العمليات التي جذبت انتقادات دولية ورفض عراقي وتبادل للاتهامات بين بغداد وأنقرة حول التنسيق بشأن العملية العسكرية من عدمه.

وفي ما يتعلق بمفاوضات حكومة دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، قال “خليل” إن هناك رغبة لدى “قسد” في التوصل إلى تفاهم من أجل الحفاظ على حياة السوريين الذين يعيشون في تلك المناطق، مضيفاً أن “الكرة الآن في ملعب الحكومة السورية”، وفقاً لتعبيره.

وعلى الصعيد الدولي، ترى صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية أن هناك سبب إضافي يدفع “أردوغان” إلى التلويح بعمليته العسكرية في الوقت الراهن، وهو أن الرئيس التركي يرغب في استغلال انشغال العالم في حرب أوكرانيا من أجل تحقيق أهدافه في سوريا، من خلال استغلال قدرة تركيا كعضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) للاعتراض على عضوية فنلندا والسويد المحتملة بالحلف، من أجل ضمان عدم حدوث اعتراضات كبيرة على عمليته العسكرية، كما أنه يعتقد أن الجانب الروسي لن يبدي اعتراضات كبيرة نظراً لانشغاله في حرب أوكرانيا.

 

 

 

 

المصدر: الشرق