المرصد السوري لحقوق الإنسان : “تصادم مصالح” يشعل مواجهات “عصابات الفرع الواحد” في الجنوب السوري

28

لا يكاد يمر يوم على درعا حتى تشهد هذه المحافظة الواقعة في جنوبي سوريا حوادث قتل واغتيال واشتباكات مسلحة، تسفر عن ضحايا مدنيين وقتلى عسكريين من مختلف الأطراف، ورغم أن جذور هذا المشهد تعود إلى ما بعد اتفاقيات “التسوية” التي جرت بعد عام 2018، إلا أن دائرة “الفلتان” باتت تتوسع بمنحى جديد، يتلخّص بمواجهات “عصابات الفرع الأمني الواحد”، كما يصف نشطاء ومراقبون.

قبل خمسة سنوات انتهى الهجوم الذي أطلقته قوات النظام السوري بدعم روسي باتفاقيات “تسوية” استنسخت لعدة مرات وفي مناطق متفرقة وكثيرة. وبموجبها انضوى من فضّل البقاء من عناصر فصائل المعارضة ضمن تشكيلات مسلحة تتبع لأفرع أمنية مثل “الأمن العسكري” و”المخابرات الجوية” وفرق عسكريةكـ”الفرقة الرابعة” وفيلق مدعوم روسيا (الفيلق الخامس)، في خيارٍ يخالف ما كانوا عليه في البدايات.

ولطالما تردد ذكر هذه التشكيلات وعناصرها في المحطات التي عاشها الجنوب السوري، خلال السنوات الماضية، وفي وقت بقي عداد القتل “المسجّل ضد مجهول” متواصلا، دون أن يعرف لها “صيغة تنظيمية”، فيما كان لكل منها منطقة نفوذ، في أحياء درعا والقرى والبلدات الواقعة في ريفها.

ونادرا ما تشير الرواية الرسمية للنظام السوري إلى المسار الذي سلكه من فضّل البقاء من فصائل المعارضة، لكن في المقابل تحدث الأخير في أوقات عديدة عن وجود “مجموعات أهلية”، سبق وأن ساندته في عمليات أمنية وعسكرية، بينها ضد مقار خلايا لتنظيم “داعش”.

وبينما كانت محافظة درعا ليلة الجمعة تترقب ما ستسجله من حوادث قتل واغتيال مع بزوغ اليوم المقبل شهد ليلها توترا لساعات فرضته اشتباكات مسلحة اندلعت بين مجموعتين الأولى تعرف بتبعيتها لفرع “الأمن العسكري”، والثانية كذلك الأمر.

وأسفرت المواجهات عن قتلى من المجموعتين وعناصر من الشرطة التابعة للنظام السوري، بينما حصدت روح طبيب الأعصاب السوري، علي بركات السعد، في أثناء خروجه من مشفى الشرق الخاص في حي الكاشف. “رصاصة طائشة طالته” بينما كان إطلاق الرصاص على أشده.

وتشير الحادثة المذكورة التي تخللها أيضا عمليات قطع للطريق الدولي الواصل إلى معبر نصيب إلى الحال الخاص بهذه التشكيلات، وتعطي مؤشرا عن “مفارقة” تشوب العلاقة فيما بينها، فهي “تتصادم” رغم أنها ترتبط بذات التبعية.

“ليست وليدة ولاء”

وكان المرجو من اتفاق “التسوية” حين توقيعه فرض حالة من الاستقرار في المحافظة التي كانت أجزاء كبيرة منها خارجة عن سيطرة نظام بشار الأسد، على أن تتبع ذلك تسوية أوضاع المطلوبين أمنيا، وإعادة الخدمات وإصلاح البنى التحتية.

لكن جميع ما سبق لم يطبّق على أرض الواقع، على خلفية عدة أسباب، أبرزها عدم التزام النظام السوري بأيٍّ من المطالب، وخاصة الإفراج عن المعتقلين ووقف عمليات المداهمة والاقتحام.

ما سبق جعل درعا، التي انطلقت فيها أولى شرارات الثورة السورية، تدور ضمن متاهة قتل و”فلتان أمني”، لا تعرف الأطراف المستفيدة منها أو الدافعة لفرضه باستمرار على الأرض.

وبينما يوجه البعض اتهامات لتنظيم “داعش” بالوقوف وراء الاغتيالات، يرجّح آخرون مسؤولية النظام السوري وأفرعه الأمنية، ويعزو طرف ثالث الأسباب بطبيعة الأطراف المسيطرة على الأرض، وسياق “تضارب المصالح” ومساعي “الأخذ بالثأر” لقضايا تعود قصتها إلى ما قبل “التسوية”.

وكان “المرصد السوري لحقوق الإنسان” قد وثق في الثامن عشر من شهر يناير الحالي مقتل عنصرين من “المجموعات المحلية”، وإصابة مواطن وطفل بجروح بليغة، إثر اندلاع اشتباك مسلح بين مجموعتين محليتين، إحداها تابعة لـ”الأمن العسكري” في مدينة جاسم بريف درعا الشمالي.

وأوضح “المرصد”: “إذ نشب خلاف بين عنصرين، ليتطور إلى اشتباكات، واستقدام الطرفين تعزيزات عسكرية إلى مكان الاشتباك، وسط توتر ساد في المنطقة”.

يرى الباحث السوري في “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية”، نوار شعبان أن المجموعات المحلية التي ارتبطت بالأفرع الأمنية بعد اتفاقيات التسوية “ليست وليدة ولاء، بل تشكلت إما بهدف البقاء أو للسلطة وتعزيز المكاسب المادية”، وأنها “أولا وأخيرا لها أهدافها الخاصة”، حسب تعبيره.

ويقول شعبان المتخصص بالشؤون الأمنية في حديث لموقع “الحرة”: “لم تتشكل لأنها تحب الأمن العسكري أو النظام السوري، بل لحماية مصالحها، ومن الطبيعي جدا أن نرى الصدام فيما بينها في حال تضاربت مصالحها”.

“هذه المجموعات تأكل من نفس الصحن كما هو معروف. ولذلك تدفعها هذه الحالة للتصادم، ومن سيحظى بكل المصالح من حساب من”، حسب تعبير الباحث.

بدوره يشير الناشط الحقوقي، عمر الحريري إلى أن “الأفرع الأمنية” التابعة للنظام السوري موجودة في كل مكان بمحافظة درعا، وأن العناصر التابعين لها ينتشرون في معظم القرى والبلدات، بينما “تتشكّل عملية توزيع السلطة على من له التركيز الأكبر قياسا بالآخر”.

يتركّز نشاط “الأمن العسكري” في الريف الغربي لدرعا، وللمجموعات المحلية التابعة لها النفوذ الأكبر هناك، ومع ذلك يوجد نفوذ لأفرع أخرى لكن على درجة أقل.

ويقول الحريري لموقع “الحرة”: “مدينة جاسم مثلا تحسب على نفوذ فرع أمن الدولة، وهذا لا ينفي نفوذ الأفرع الأخرى وهكذا… القصة ليست تقسيم مناطق سيطرة بقدر ما هي توزيع للنفوذ”.

يوضح الناشط الحقوقي أن الصدام الذي يحصل بين الفترة والأخرى بين المجموعات التي تعرف بأنها تتبع لذات الفرع الأمني يرتبط بـ”المصالح الشخصية”، على خلاف الصورة العامة الخاصة بأجهزة النظام السوري الأمنية.

ويضيف: “ما حصل ليلة الجمعة من اشتباك بين مجموعتين تتبعان للأمن العسكري هو أقرب لصدام العصابات من صدام عناصر أمنية بشكل رسمي”، لافتا إلى أن العناصر “يحملون بطاقات أمنية، ويأتي الصدام فيما بينهم لحماية المصالح”.

“لعبة وقت”

وتعتبر درعا أولى المحافظات السورية التي هتف مواطنوها ضد النظام السوري، وطالبوا بإسقاطه، ورغم سيطرة النظام السوري عليها بعد عام 2018، إلا أن الأصوات المنادية بالحرية وإسقاط بشار الأسد لم تنقطع فيها.

كما تتميز بوضع خاص يميزها عن باقي المناطق السورية التي دخلت في “اتفاقيات التسوية”، من حيث طبيعة القوى العسكرية المسيطرة على قراها وبلداتها، وأيضا طبيعة المقاتلين، وتفاصيل سيطرة النظام عليها، التي توصف بـ”الهشّة”، كما حال جارتها السويداء.

ولا يعلّق النظام السوري كثيرا على حالة “الفلتان الأمني” التي تشهدها درعا، والتي باتت سمة بارزة تميزها، وتجعلها في صدارة الأخبار الخاصة بسوريا، لكنه في المقابل يعلن دائما عن مقتل جنود له بـ”هجمات إرهابية”.

وكما هو الحال بالنسبة للاغتيالات التي تستهدف مدنيين وناشطين محليين وإعلاميين وقادة فصائل سابقين في المعارضة تطال حوادث القتل أيضا ضباط وعناصر في “الجيش السوري”، وتصاعدت حدتها، منذ بداية ديسمبر العام المنصرم.

ويشير الباحث السوري شعبان إلى أن “عدم وضوح الهيكلية الإدارية والأمنية في محافظة درعا رغم سيطرة النظام السوري تعتبر لعبة وقت يحاول الأخير لعبها”.

ويقول الباحث: “النظام لم يعد له سوى الوقت. له هوامش لكن في درعا لا قدرة له أن يوقف كل شيء ويسحب العصابات”، معتبرا أن “سحب العصابات ووقف حالة الفلتان يحتاج جهودا دولية، وهذا ما يتطلع إليه النظام”، لكي يكون له قدما في ذلك.

وفي حين تدور معادلة تضارب المصالح بين المجموعات المحلية ونظيرتها الأخرى، إلا أن حوادث كثيرة شهدت إقحام ضباط من النظام السوري على الخط وبشكل غير مباشر، بعدما تم اختطافهم، بفرض مبادلتهم مع “مختطفين آخرين”.

ما سبق شهدته حادثة ليلة الجمعة، إذ أقدمت إحدى المجموعات المحلية على اعتقال ضابط برتبة “عميد” في قوات الأسد، من أجل الإفراج عن قيادي آخر ومتزعم فيها يدعى “إسماعيل القداح”.

ويرى الناشط الحقوقي الحريري أن “النظام السوري يعي ومنذ عام 2018 أن العناصر السابقين في المعارضة الذين انضووا في التشكيلات التابعة لأفرعه الأمنية لم يُقدموا على هذا الخيار بدافع الولاء”.

ويوضح: “هناك أولويات للنظام بمعنى أنه لا مشكلة ببضع عصابات تحمل بطاقات أمنية وتتخلل العلاقة بينها اشتباكات، مع ضمان عدم عودتها إلى حالة الفصائل المسلحة القوية القادرة على انتزاع سيطرة المنطقة، وأن تبقى المحافظة هادئة على مستوى الثورة”.

 

 

 

 

المصدر: الحرة