المرصد السوري لحقوق الإنسان: جيل من المشردين يضاف إلى جيل الخيام مع تنامي ظاهرة التخلي عن حديثي الولادة في سوريا

غياب مسؤولية الدولة والمنظمات المدنية لمعالجة الظاهرة في كافة مناطق سوريا تشهد كافة المناطق السورية باختلاف الجهات المسيطرة عليها حالات التخلي عن الأطفال حديثي الولادة، إضافة إلى التفكك الأسري وانهيار المستوى المعيشي لغالبية السكان وغياب دور الرقابة، في ظاهرة استفحلت مؤخرا حيث تهدد بخلق جيل من المشردين في البلاد.

36

عثر الأهالي في محافظتي دير الزور والرقة شمال شرق سوريا، على ثلاثة أطفال حديثي الولادة في يوم واحد هذا الأسبوع، في ظاهرة تتصاعد باستمرار لأسباب مختلفة، منها سوء الواقع المعيشي والفقر الشديد، إضافة إلى العلاقات غير الشرعية، ما يهدد بخلق جيل جديد من المشردين، في ظل عدم إيجاد حلول لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة.

ويدفع هؤلاء الأطفال حديثو الولادة فاتورة المأساة السورية التي ألقت بظلالها على الحالة الاجتماعية، بعد القتل والتهجير والنزوح والدمار في الأبنية السكنية ثم الزلزال المدمر. وسجل المرصد السوري لحقوق الإنسان، منذ اليوم الأول من رمضان، خمس حالات تخل عن الأطفال من قبل ذويهم، وهي حالة في مناطق سيطرة النظام، وأربع حالات في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.

وبحسب المرصد، فإنه منذ بداية العام الحالي 2023، وُثقت 17 حالة تخل في مختلف جهات السيطرة، توزّعت بين سبع حالات ضمن مناطق سيطرة قوات النظام، وتسع ضمن مناطق قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وواحدة ضمن مناطق سيطرة المعارضة السورية. وشدد على أن هذه الإحصائية لا تشمل احتساب الأطفال ضحايا العلاقات غير المقنّنة والذين يتم التخلّص منهم بالقتل ورميهم في أكياس بلاستيكية في حاويات القمامة والمناطق المهجورة أو وضعهم أمام المساجد أو في دور الأيتام.

وتمّ التخلي عن هؤلاء الأطفال بعد رميهم على قارعة الطريق أو بالقرب من المساجد والمشافي وأحيانا في مكبات القمامة، في مدن وبلدات مثل أريحا وجسر الشغور ومعرة النعمان في محافظة إدلب.

ويقول أحد سكان المنطقة في ريف إدلب شمال سوريا “أثناء عودتي إلى المنزل طلب مني أحد أهالي الحي مساعدته بفتح بطانية مرمية بجانب مدرسة ويصدر منها صراخ طفل. عندما فتحناها، وجدنا طفلا عاريا تماما وآثار الولادة مازالت على جسده”.

وأضاف “هرعنا بالطفل إلى مستشفى المدينة لتسليمه للأطباء، ولكن رفض المستشفى استلامه إلا بوجود القوى الأمنية، التي حضرت بعد حوالي ساعة ونصف الساعة، وأكدّ الأطباء أنّ درجة حرارة الطفل كانت متدنية جدا وكان هناك خطر عليه لولا إسعافه. لاحقا علمت أنه تمّ تسليم الطفل إلى إحدى دور رعاية الأيتام”. وتعمل أعداد من الدور المخصصة لرعاية الأيتام في إدلب على استقبال الأطفال الذين تمّ التخلي عنهم من قبل عائلاتهم.

حالات خطيرة وسلبية

 

ويؤكد المتخصصون الاجتماعيون أن طول فترة الأحداث الجارية في سوريا منذ نحو 12 عاما، انعكس سلبا على الحالة الاجتماعية العامة ونتج عن ذلك تنامي العديد من الظواهر السلبية، التي كانت قبل عام 2011 موجودة بشكل محدود.

وساهم في ذلك غياب نشاط السلطة القانونية بجانب الانهيار في المستوى المعيشي لغالبية السكان وغياب دور الرقابة والتفكك الأسري والكثير من العوامل الأخرى، وتعد حالة رمي الأطفال حديثي الولادة واحدة من بين تلك الظواهر.

 طول فترة الأحداث الجارية في سوريا انعكس سلبا على الحالة الاجتماعية العامة ونتج عن ذلك تنامي العديد من الظواهر السلبية

ويؤكد هؤلاء أن السببين الرئيسيين لهذه الظاهرة هما الفقر وغياب الوازع الديني والأخلاقي، وقد تزايدت كثيرا خلال فترة الأحداث السورية، فمن ناحية “العلاقات الشرعية” فإن الكثير من العائلات باتت تعاني الفقر الشديد، ومن جهة أخرى خسرت نسبة كبيرة من النساء أزواجهن بسبب الحرب، ومن ثمة غياب معيل الأسر، وغلاء الأسعار، كل تلك العوامل ساهمت بشكل كبير في تردي الواقع المعيشي للكثير من النساء.

كما ساهم تأخر سن الزواج وعدم وجود تسهيلات للزواج في غياب الوازع الأخلاقي وحدوث الكثير من العلاقات غير شرعية، وفي كلا الحالتين لا يمكن لطرفي العلاقة الإبقاء على الطفل إما بسبب الفقر وإما بسبب الخوف من الفضيحة والعقاب.

والبعض لا يفضل التخلص من الطفل حديث الولادة عن طريق القتل ويصعب عليه من جهة أخرى إيجاد حلول طبية للتخلص منه قبل ولادته، ما يدفعه إلى تركه في أماكن يعتقد بأنها ستؤمن للطفل أشخاصا يعتنون به مثل المستشفيات والمساجد والحدائق العامة أو على قارعة الطريق، في محاولة منه لعدم الشعور بالمزيد من الذنب وتأنيب الضمير تجاه الطفل.

كل ذلك يضاف إليه غياب دور المنظمات المعنية التي من المفترض أن تقوم بإطلاق حملات توعوية، لاسيما لجيل الشباب، وتوجيه الدعم المادي والنفسي للعائلات الأكثر تضررا مثل العائلات التي خسرت مصادر دخلها ومعيلها، والعائلات النازحة والمهجرة، كما يجب على المؤسسات الحكومية السعي لتحسين الواقع المعيشي للحد من هذه الحالات الخطيرة والسلبية.

مستقبل مجهول

 

وقال ناشط مقيم في ريف إدلب الشمالي، فضل عدم الكشف عن اسمه، إن التخلص من الأطفال حديثي الولادة بدأ مع بدء حركات النزوح الداخلية منذ بداية الثورة السورية، بسبب الكثافة السكانية والاختلاط الذي حدث بسبب النزوح في جميع المحافظات السورية في الشمال السوري وتردي الأحوال المعيشية، ولا تنحصر هذه الظاهرة في مناطق سيطرة النظام بل تكاد تكون منتشرة بشكل أوسع في الشمال السوري.

ويتكرر هذا المشهد بشكل دائم في جميع مناطق الشمال السوري سواء كان في مناطق إدلب وريفها أو ريف حلب الشمالي، وهي ظاهرة سلبية وتتنافى مع المجتمع السوري، ومما زاد من هذه الظاهرة هو غياب المؤسسات المعنية بمثل هذه القضايا ومعالجتها، إضافة إلى استمرار الأسباب التي أدت إلى تناميها. وأكد الناشط ضرورة وجود مؤسسات تعنى بشكل خاص بهؤلاء الأطفال وتتحمل مسؤولية رعايتهم والقيام على تأمين معيشتهم، خوفا من تفاقم هذه الظاهرة وظهور جيل من الأطفال المشردين مستقبلا، كما يجب على الجهات المسؤولة سن قوانين خاصة بهؤلاء الأطفال، فهم نتاج ظاهرة خطيرة ولا يجب التخلي عنهم.

 

17 حالة تخل عن الأطفال في سوريا وثقها المرصد السوري لحقوق الإنسان منذ مطلع العام 2023
◙ 17 حالة تخل عن الأطفال في سوريا وثقها المرصد السوري لحقوق الإنسان بداية 2023

 

ومازال دور الجهات المسؤولة (قوى الأمر الواقع) في إدلب مقتصرا على وضع الأطفال الذين تمّ التخلي عنهم إما في دور مخصصة لرعاية الأيتام، أو في عهدة من يود كفالتهم، دون تسجيلهم في دوائر الأحوال المدنية المحلية. وتتم الإجراءات بأن يتم أولا إبلاغ قسم الشرطة في المنطقة بالحادثة، ثمّ يتم تحويل الملف إلى المحكمة الشرعية. وإن وجد من الأهالي من يرغب بكفالة الطفل، يقوم بالتوجه إلى المحكمة الشرعية لإجراء تعهّد بالرعاية، حيث يقسم الوالدان اليمين بألا يعطيا نسبهما للطفل، وألا يخبراه بأصله إلا حين بلوغه سن الرشد. أمّا في حال عدم وجود من يرغب بكفالة الطفل، فيتم إرساله إلى أحد دور الأيتام لرعايته.

وعبر مراد الإدلبي، مدير “دار رعاية الأيتام الأولى” في ريف إدلب، عن مخاوفه على الأطفال، مضيفا أن رغم سعي الدار المستمر إلى توفير الرعاية للأطفال، إلا أنّ مستقبلهم يثير القلق، فمنهم من أتمّ الخمس سنوات ولا يزال دون أوراق ثبوتية، وخاصة مع عدم السماح بتسجيل هؤلاء الأطفال في دوائر النفوس المحلية في إدلب، بالإضافة إلى صعوبة تسجيلهم في دوائر الأحوال المدنية الحكومية، نتيجة الخوف من الذهاب هناك والاحتجاز على يد الأجهزة الأمنية السورية.

وقال أحد العاملين في مركز “بيت الطفل” في إدلب، إنّ المركز استقبل 28 طفلا تمّ التخلي عنهم منذ العام 2020، تتراوح أعمارهم ما بين سنة وخمس سنوات. وأضاف “من الصعوبات التي تواجهنا في تعاملنا مع الأطفال أنهم كثيرا ما يفتقدون جو الألفة ودائما ما تندلع المشاكل بينهم، مما يشكّل تحديا كبيرا لنا. ولا توجد رؤية واضحة لمستقبل هؤلاء الأطفال بعد بلوغهم سن 15 عاما. نحن لا نعرف إن كانت الدار ستبقى قائمة حتى ذلك الوقت لاحتضانهم، ولا نعرف إن كان الأطفال سيبقون فيها حتى ذلك الحين. لا يوجد أي تصوّر واضح عن مستقبل الأطفال”.

وشهدت مناطق سيطرة الحكومة السورية هي الأخرى ارتفاعا ملحوظا في حالات التخلي عن الأطفال. وكان المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي زاهر حجو، قد صرّح لصحيفة الوطن المقرّبة من الحكومة السورية عن تسجيل ما لا يقلّ عن 38 حالة لأطفال تمّ التخلي عنهم، من ضمنهم 17 أنثى و21 ذكرا، منذ مطلع العام 2022 وحتى تاريخ الثاني عشر من مايو 2022.

عادات وأعراف

 

أما عن الإجراءات في حال تمّ العثور على طفل تخلى عنه والداه، فيتم تنظيم الضبط من قبل مخفر الشرطة، وبدوره يحيله إلى النيابة العامة. تقوم الأخيرة بإرسال الطفل إلى المركز المخصص في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ومن ثمّ يتم فحص الطفل طبيا للتأكد من حالته الصحية. بعدها يتم تسجيله في السجل المدني الذي يختار له الاسم والوالدين والنسب، ويتمتع الطفل بكامل حقوقه المدنية، ولا يجوز أن يطلع أحد، سوى السجل المدني، على أنه مجهول النسب.

وعلاوة على الأثر النفسي والاجتماعي لظاهرة التخلي عن الأطفال، فإن هذا السلوك محظور قانونا، وتقع المسؤولية الأولى على عاتق الوالدين، لأن كلاهما مسؤول عن تربية الطفل وتنشئته بالشكل الذي يكون فيه قادرا على الاعتماد على نفسه والتأثير بشكل إيجابي في محيطه مستقبلا، ولهذا السبب فقد اعتبر قانون العقوبات السوري ترك الطفل دون معيل جريمة يعاقب عليها.

ونصت المادة 484 من قانون العقوبات السوري على أن “من طرح أو سيب ولدا دون السابعة من عمره أو أي شخص آخر عاجز عن حماية نفسه بسبب حالة جسدية أو نفسية عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة، وإذا طرح الولد أو العاجز أو سيب في مكان قفر كان العقاب من سنة إلى ثلاث سنوات”.

 دور قوى الأمر الواقع في إدلب مقتصر على وضع الأطفال الذين تمّ التخلي عنهم في دور لرعاية الأيتام، أو في عهدة من يود كفالتهم، دون تسجيلهم

وشددت المادة 486 العقوبة إذا كان المجرم أحد أصول الولد أو العاجز أو أحد الأشخاص المولين حراسته أو مراقبته أو معالجته أو تربيته. ويؤاخذ البعض على النصوص السابقة أنها حددت عمر الطفل بسبع سنوات، وكان من الأجدر أن يكون الجرم واقعا بغض النظر عن عمر الطفل ما دام لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره.

كما يؤاخذ على هذه النصوص أنها أعفت الأم من العقوبة إذا كانت قد أقدمت على ترك الولد وتسييبه اتقاء للعار أو حماية لشرفها، حيث نصت الفقرة الثانية من المادة 486 المذكورة على أنه “لا يطبق هذا النص على الوالدة التي أقدمت محرضة أو فاعلة أو متدخلة على طرح مولودها أو تسييبه صيانة لشرفها”. فمن غير المقبول أن يجازف القانون بحياة طفل مراعاة لعادات وأعراف اجتماعية لا شأن للضحية فيها ولم يشارك أصلا في ترسيخها.

وتتحمل الدولة مسؤولية القيام بمهامها بهذا الخصوص. فإن كان الوالدان غير قادرين على رعاية الطفل وتربيته لأي سبب من الأسباب، فمن واجب الدولة إيجاد الحلول التي تراعي مصلحة الطفل. وعلى هذا الأساس نص الدستور السوري في المادة 20 على أن “1ــ الأسرة هي نواة المجتمع ويحافظ القانون على كيانها ويقوي أواصرها، 2ــ تحمي الدولة الزواج وتشجع عليه، وتعمل على إزالة العقبات المادية والاجتماعية التي تعوقه، وتحمي الأمومة والطفولة، وترعى النشء والشباب، وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم”.

لكن يبدو أن هذا النص، كالعديد من نصوص الدستور السوري، مجرد نص شكلي لا أكثر، مع انتشار ظاهرة ترك الأطفال، وعدم اتخاذ الحكومة لأي إجراءات تراعي فيها مصلحة الطفل، كما هو واضح في الحالات المذكورة في هذا التقرير. كما أن قوى الأمر الواقع في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية تتحمل ذات المسؤولية، وذلك بناء على القوانين والأنظمة التي وضعتها لنفسها، والتي من المفترض الالتزام بها.

 

 

المصدر:  العرب