واتخذت التحقيقات، بحسب كنعان، “منحى أمنياً، وجرى التوسع فيها، فكل من دخل لبنان بطريقة غير شرعية عليه الإقرار بمن ساعده على ذلك لاستدعائه والتحقيق معه وكشف من يعاونه، في وقت سلّمت عائلات المفقودين كتاباً إلى محافظ اللاذقية الذي سلّمه بدوره إلى رئيس اللجنة الأمنية العسكرية، ليأتي الرد بالتحفظ عن الموضوع ولو لم يكن هناك موقوفون لكان ذكر ذلك، كما تم توجيه كتاب إلى قيادة الشرطة والرئاسة السورية”.

ويضيف “أنا موظف في الحكومة السورية وعتبي كبير كونه لم يتم إطلاع العائلات على توقيف أبنائهم، ودفع الأهالي لسلوك الطرق الملتوية لكشف مصيرهم”، مشدداً أن عادل مهندس ميكانيكي، كان يقيم في سوريا، وقد توجه إلى لبنان لتجديد عقد عمله لكن الشركة طلبت التريث شهراً، في ذلك الوقت أقنعه زميله بالسفر عبر القارب، فاتصل بوالدته وأطلعها على قراره، عارضته بشدة إلا أنه أصر على ذلك لاسيما وأن بإمكانه السفر بطريقة شرعية”.

ابتزاز مالي

يتعرض أهالي المفقودين للابتزاز من قبل سوريين يطلبون الحصول على مبالغ مالية مقابل الإدلاء بمعلومات عن أبنائهم، فبعد فقدان محمود، طلب شقيقه أحمد، من خلال منشور عبر صفحته على فيسبوك، ممن يعلم عنه شيئاً طمأنته، وإذ كما يقول “تواصل معي شخص عبر الماسنجر، أطلعني أنه عقيد في الجيش السوري يخدم في فرع فلسطين، وأن محمود موقوف هناك بتهمة الدخول بطريقة غير شرعية إلى البلاد”.

على الرغم من أن أحمد (المقيم في السويد ويحمل جنسيتها) لم يتأكد فيما إن كان من يتواصل معه عقيداً بالفعل من عدمه، فإنه استجاب له، وحول مبلغ ستة ملايين ليرة سورية لتسديد الغرامة إلى المحكمة كما قال له “العقيد”، واعدا إياه بأنه سيسمح له بالتواصل مع محمود بعد استلام المبلغ، لكن بدلاً من ذلك عاد وطلب خمسة ملايين ليرة سورية بحجة أن العميد اشترط ذلك، دفع أحمد المبلغ من دون أن يتمكن من التواصل مع شقيقه، ويقول “أنا كالغريق الذي يحاول التمسك بأي شيء كي ينجو، حتى لو كانت قشة، لذلك سارعت وأرسلت المال علّي أصل إلى ضالتي”.

كذلك تعرض كنعان للابتزاز المالي بداية، إلا إنه كما يقول “سلّمت التسجيلات الصوتية إلى أحد الفروع الأمنية، فتوقفت الاتصالات التي كنت أتلقاها من هذا النوع”.
وقبل حوالي الأسبوعين، توجهت والدة محمود إلى سوريا علّها تتمكن من رؤيته وإخماد النيران الثائرة في صدرها منذ فقدانه، يقول أحمد “رفض الأمن العام السوري بداية إدخالها لعدم تسجيلها مغادرة أراضيه، وبعد أن أطلعته أنها كانت برفقة الصليب الأحمر الدولي حين قصدت سوريا، اشترط عليها مراجعة فرع فلسطين للسماح لها بالعبور، وهو ما كانت تتمناه للسؤال على محمود كونه يمنع على أي شخص دخول هذا الفرع الأمني من دون تصريح”.

أربع ساعات أمضتها الوالدة، بحسب أحمد، تحت التحقيق، “سألها المحقق عن جميع أولادها، مركّزاً بشكل أساسي على محمود، وعندما حاولت الاستفسار منه فيما إن كان شقيقي موقوفاً في الفرع كان جوابه، أنه هو من يوجه الأسئلة فقط”.

ومنذ فقدان شقيقه، وأحمد يكرّس حياته لمتابعة قضيته “يومياً أتواصل مع سوريين، فأنا متأكد من أنه لا يزال على قيد الحياة، فهو يجيد السباحة وكان يرتدي سترة نجاة، وقد وعدت بأن الإفراج عنه مسألة وقت، وهذا ما أتمناه”.

وكتب على 3 لبنانيين أن يكونوا من عداد المفقودين، أحدهم مصطفى حبلص، الذي كان يهدف للوصول إلى ألمانيا حيث يقيم شقيقه، وذلك هرباً من الوضع الاقتصادي في لبنان، وكان الشاب، البالغ من العمر 25 عاما، يعمل في مطعم مصارعاً الحياة لتأمين كفاف يومه، وهو الذي تربى يتيماً بعدما فقد والده منذ صغره.

وبحسب ما يقول ابن عمه يحيى لموقع “الحرة”، “نتابع مع الشيخ بلال شعبان قضيته، بعدما أطُلعنا عن وجود موقوفين لبنانيين لدى النظام السوري، لكن إلى حد الآن لم نتوصل إلى أي معلومة مؤكدة”، في حين يقول ليث الحلواني الذي يتابع قضية ابن خاله خضر برغل، وابن بلدته علي الحاج (من ببنين العكارية) أن “المحامي الذي وكلناه بقضيتهما أطلعنا أن التهمة الموجهة إليهما هي الإرهاب أي الانضمام إلى صفوف داعش، وأنه قبل حوالي الأسبوعين سلمتهما السلطات السورية إلى جهة أمنية لبنانية من دون أن نعلم إلى الآن من هي”.

تأكد الحلواني، كما يقول لموقع “الحرة”، من وجود ابن خاله في سجون سوريا بعدما أطلعه المحامي على معلومة خاصة بالعائلة أخبره إياها برغل، وهو ينتظر أن تصله مستندات رسمية تثبت تسليم الموقوفين إلى السلطات اللبنانية.

“ورقة للمساومة”

ليس لدى رئيس الهيئة العليا للإغاثة، اللواء محمد خير (الذي تابع عمليات إنقاذ ركاب القارب حينها)، أي خبر عن مفقودين لبنانيين أو فلسطينيين كانوا على متن القارب الذي غرق قرابة ساحل طرطوس، وما يعلمه كما يقول لموقع “الحرة” أن “الركاب السوريون الذين لا يملكون إقامة في لبنان أو المطلوبون منهم تم إيقافهم من قبل السلطات السورية”، في حين أكدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لموقع “الحرة”، أنها تنسق مع السلطات اللبنانية والسورية، وقد قدمت قائمة بأسماء الموقوفين، “وإلى حد الآن لم يتم التوصل إلى شيء”.

إذا كان النظام السوري أوقف ناجين من القارب ممن يحملون الجنسية السورية سواء بسبب معارضتهم له أو فرارهم من التجنيد الإلزامي والاحتياطي، فلماذا يوقف فلسطينيين ولبنانيين؟ عن ذلك علّق عبد الرحمن “ما علمناه أن أحد الركاب الفلسطينيين تم توقيفه بناء على معلومات من السلطات اللبنانية بأنه كان يقاتل على الأراضي السورية”.

ويبرر النظام السوري اعتقال الناجين، بحسب مدير المرصد السوري “بأنه يستند إلى القانون السوري الذي يقضي بالسجن من سنة إلى 5 سنوات وبالغرامة من 5 إلى 10 ملايين، أو بإحدى هاتين العقوبتين على كل من دخل أو غادر الجمهورية العربية السورية بطريقة غير شرعية أو ضبط على الحدود السورية دون سبب مسوغ لوجوده”.

ويضيف “يهدف النظام السوري من توقيف عدد من الركاب استخدامهم كورقة للتجارة والمساومة للحصول على أموال مقابل إطلاقهم، فكيف إن كانوا معارضين ومطلوبين، فهؤلاء قد يكون مصيرهم القتل، وكما يعلم الجميع هناك 150 ألف معتقل في سجون النظام، وبأن 105 معتقلين لقوا حتفهم تحت التعذيب العام الماضي”.

من المفقودين السوريين، عبد الحي فرج، الذي قصد لبنان مع أهله عام 2011 حينها كان يبلغ من العمر 10 سنوات، حيث شاءت الظروف حرمانه من طفولته، فاستبدل مقاعد الدراسة بالعمل في مقهى، وحين قرر رسم مستقبل جديد له بالسفر إلى ألمانيا عند شقيقه غدره القارب مغيّراً مصيره.

واتعبت الظروف الاقتصادية التي يمر بها لبنان عبد الحي، فقد كان مسؤولاً، بحسب والده أحمد، “عن تأمين لقمة عيشنا، فأنا عاطل عن العمل وشقيقه المتزوج من ذوي الاحتياجات الخاصة، وكل يوم ترتفع الأسعار أكثر فأكثر، في وقت كانت يوميته 35,000 ليرة كبدل عمل 12 ساعة، من السابعة مساء حتى السابعة صباحا”.

لا يعلم الوالد عن ابنه شيئاً، منذ أن ودّعه في ذلك اليوم المشؤوم وانطلق في طريقه إلى القارب، ويقول لموقع “الحرة” “بعد غرق القارب توجهت والدته إلى سوريا، بحثت عنه بين الجثث من دون أن تجده، عادت أدراجها وكلنا أمل أن نسمع خبراً يطمئنا عنه، لكن إلى حد الآن نعيش حالة من الضياع، وكل ما بتنا نصبوا إليه الآن معرفة إن كان لايزال على قيد الحياة من عدمه”، مشيرا إلى أن “لدى عبد الحي إقامة في لبنان، وكونه غادر سوريا منذ صغره فإنه مطلوب للخدمة العسكرية لكن العفو الرئاسي الصادر يشمله”.

البحر في دائرة الاتهام؟

كذلك تنتظر عائلة الأطرش خبراً يطمئنها عن ابنها محمد ساجد، الذي قصد لبنان من حماه مع شقيقه عبد الخبير قبل 11 سنة، عملا في نجارة الباطون، من دون أن يحل ذلك دون تردده على سوريا لإكمال دراسته الجامعية، لكن كما يقول عبد الخبير “سجن لمدة شهر ليتبين بعدها أنه حصل تشابه في الأسماء، توقف عن الذهاب إلى وطننا قبل حوالي الخمس سنوات، بالتالي لم يلتحق بالخدمة العسكرية، وبعدما ساءت الأوضاع الاقتصادية في لبنان عرضت عليه أن نسافر إلى مصر لكنه رفض ليقرر بعدها أن تكون وجهته ألمانيا رغم أنه لا أقرباء لنا هناك”.

كان الهدف الأكبر لمحمد ساجد ألا يحتاج أهله أحد، باع سيارته واستدان 2000 دولار من رب العمل، من أجل حجز مقعد له على القارب، معارضاً قرار والده الذي طلب منه دفع المال لتسوية وضعه في سوريا.

ويشرح عبد الخبير لموقع “الحرة”، “كان آخر اتصال بيننا قبل أن يغادر المياه الإقليمية، وإذ بي أصدم حين علمت بغرق القارب، لنبدأ رحلة البحث عنه، كل ما عرفناه حتى الآن من ناج كان برفقته، أنه بقي في القارب بعد غرقه حوالي 12 ساعة قبل أن يقرر الناجي القفز في الماء، كما أطلعتنا ناجية أنها سبحت وإياه حيث كان يستند على كرسي خشبي كونه لا يجيد السباحة وذلك إلى حين أن فرّق الموج بينهما”.

ويشدد عبد الخبير على أنه لدى شقيقه إقامة في لبنان، وكان يرتدي سترة نجاة منذ أن صعد على متن القارب، وأن من بين المفقودين من يجيدون السباحة بشكل كبير وهم كذلك في عداد المفقودين، مضيفاً “ما تأكدنا منه أن هناك ناجين تم توقيفهم من دون أن نتأكد فيما إن كان شقيقي من بينهم”.

وعن احتمال أن يكون البحر قد ابتلع جثث بعض الركاب، يشرح رئيس وحدة الإنقاذ البحري في الدفاع المدني، سمير يزبك، أن “الأمر يتوقف على عمق المياه، فإذا حدث الغرق في مياه عمقها 50 كلم وأكثر يحول الضغط دون طفو الجثث وحتى القارب على السطح، كما هو الحال عندما غرق قارب طرابلس حيث استقر والجثث في قاع البحر على عمق 450 كلم، أما إذا كان عمق المياه 40 كلم وأقل فلا بد من أن تطفو الجثث على السطح”.

كما أن الأمر يتوقف كما يقول يزبك لموقع “الحرة” “على كمية المياه التي يتم ابتلاعها، فعندما لا يبتلع الشخص كمية كبيرة من المياه يبقى عائما على السطح مع احتمال ضئيل أن تسحبه المياه إن كان عمقها 50 كلم وأكثر إلى القاع، لكن إن طفت الجثة على السطح من المستبعد أن تسحبها المياه إلى القاع مهما كان عمقه”.

وفيما يتعلق بالأشخاص الذين يرتدون سترات نجاة، يشرح يزبك “من يرتدي سترة نجاة حتى وإن فارق الحياة تطفو جثته على سطح المياه”، ويضيف “إن كان الطقس عاصفاً يمكن لمن يرتدي السترة أن يبقى على قيد الحياة ما بين 12 إلى 24 ساعة حيث أن الأمر يتوقف على مدى قدرته على الحركة ومقاومة المياه، لكن بعد ذلك سيفقد جسمه السكر والماء والملح، وبعد 48 ساعة سيصاب بحروق في جسده نتيجة المياه المالحة”.

ويلفت إلى أنه “ما بين 5 إلى 10% ممن يرتدون سترة النجاة يطفون على سطح المياه بطريقة معاكسة أي أن وجههم إلى المياه كونهم غير معتادون عليها، ويؤدي عجزهم عن التحكم بوضعيتهم إلى لفظ آخر أنفاسهم بسرعة”.