المعارض السوري علي صايغ: الثورة اقتلعت منظومة ثقافة الخوف من السوريين.. وأنظمة الاستبداد تهدف إلى إطالة أمد الحروب.. وخيوط الأزمة في أيدي الأطراف الدولية

52

تمارس الولايات المتحدة الأمريكية ضغوطا سياسية واقتصادية غير مسبوقة على النظام السوري من أجل عودته إلى العملية السياسية، بعد أن اتهمته بتعطيلها مرارا. ويبدو أن العقوبات أحادية الجانب التي فرضها الولايات المتحدة تهدف -من بين أشياء أخرى- إلى تحقيق ما عجزت عنه آلة الحرب. المحامي والناشط السياسي السوري المعارض القيادي بحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي علي صايغ، تحدّث في حوار مطول مع المرصد السوري لحقوق الإنسان، عن الأزمة السورية واللاعبين الرئيسيين في الأزمة الممتدة منذ نحو عشر سنوات.

س- سوريا اليوم على مفترق طرق، وأغلبية الآراء تذهب إلى أن الواقع لم يعد يحتمل بقاء النزاع السوري على حاله، ما هي قراءتكم للمشهد الحالي في سورية؟

ج- الوضع السوري ومفرزات الأزمة السورية خلال أكثر من تسع سنوات، تشير بوضوح إلى أن من يمسك بالملف السوري هي الأطراف الدولية وعلى رأسها أمريكا وروسيا، ومنذ أن تم تدويل القضية السورية خرجت الأمور من أيدي طرفيها المتصارعين في الداخل. والمسألة ليست وصول الأزمة إلى طريق مسدود، وإنما أنه إلى الآن لم ينتهِ الدور الوظيفي المرسوم لطرفي الصراع رغم أن الأطراف الدولية متفقة على الخطوط العريضة للحل، ولكن يبدو أنها مختلفة على التفاصيل وعلى النفوذ وحصتها النهائية من الكعكة السورية.

س- في 2011، انتظر الكثيرون سقوط النظام، لكن الأحداث توالت وخلقت معطيات أخرى…

ج- أنظمة الاستبداد لا تعير التفاتا إلى ما يسكن في عقول وقلوب مواطنيها، ما تعمل عليه هو كيفية إطالة حكمها وتمديده. لقد استطاعت الثورة السورية أن تقتلع منظومة ثقافة الخوف التي تحولت فيما بعد إلى ثقافة رعب، وكاد النظام مثله مثل باقي أنظمة الحكم في ثورات “الربيع العربي” أن يتداعى، لكن عوامل عديدة أنقذته من السقوط، من بينها التوافق الدولي على عدم سقوطه خشية -كما يقولون- من الفوضى وتكرار ما حدث في العراق، وتعويم المجموعات المتطرفة التي تم تنظيمها في الداخل وجلبها من الخارج ودعمها وتمويلها من كل الأطراف وتحويلها إلى ميليشيات تستند إليها أطراف الصراع في حرب جاءت على الأخضر واليابس وحصدت مئات الآلاف من القتلى.

وبالتالي، غاب البديل الموضوعي عن النظام وتم وضع الشعب السوري والقوى العالمية أمام خيارين: بقاء النظام مع العمل على تعديل سلوكه أو استلام المتطرفين السلطة بما يشكلونه من تهديد للأمن والسلم الدوليين. كما قلنا، المتحكم في الأزمة السورية هي الأطراف الدولية، وما يجري الآن أو ما يتحكم بالوضع السوري داخليا بين النظام والمعارضة هو حالة توازن الضعف، فكلاهما وصل إلى حالة الإنهاك، ومن يمدهما بالحياة هي الأطراف الدولية والإقليمية الداعمة لكل منهما، ولا يمكن إنهاء الأزمة في سورية عبر الحل العسكري الذي ثبت فشله في إنجاز حل مستدام، وتأكدت نتائجه الكارثية على بنية الدولة والمجتمع السوري.

الحل السياسي التفاوضي على أساس القرارات الدولية عبر حكم انتقالي ودستور وانتخابات بإشراف الأمم المتحدة، ووضع محددات وإجراءات للاستقرار ومكافحة الإرهاب هو المسار الذي ينقذ السفينة السورية من الغرق، أي إن انتهاء الأزمة السورية مرهون بتطبيق القرارات الدولية وجدية الأطراف الدولية في تطبيقها.

س- هل ستضيف الانتخابات جديدا إلى المشهد السياسي السوري خاصة في ظل الأوضاع الحالية القائمة سواء على المستوى العسكري أو الاقتصادي؟

ج- إذا كان المقصود الانتخابات السورية النيابية مثلا، والرهان عليها في إضافة جديد على المشهد السوري فهو رهان خاسر. السوريون لم يعرفوا ولم يمارسوا خلال خمسة عقود انتخابات حقيقية في كل المستويات. كل الانتخابات السورية شكلية وعبارة عن ديكور وفلكلور انتخابي، ونتائج الفائزين فيها معروفة قبل الانتخابات وقبل فرز الأصوات. والبرلمان القادم مثله مثل غيره من السابق عليه، محكوم ببنية النظام وتركيبته، ولا يستطيع الخروج عنها، وبالتالي لا يمكن التعويل عليه في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وليس له أصلا أي دور يتعدى الموافقة على السياسات التي ترسمها الطبقة العليا من النظام.

 

س- مجلس سوريا الديمقراطية عرض بتاريخ 16 يوليو على الجامعة العربية رؤيته لوحدة سورية ورفضه التدخل التركي، هل تلتقون مع هذه الرؤية؟

ج- أي مشروع أو توافق لا يهدد وحدة سورية أرضا وشعبا ودولة ويؤدي إلى وحدتها، فإننا في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي وفي هيئة التنسيق الوطنية معه. لا بد من تأسيس عقد اجتماعي في النظام السياسي الجديد يقوم على مبدأ المواطنة المتساوية بين كل مكونات الشعب السوري ويرتكز على صيانة الحقوق الثقافية والدينية، وصيانة الحريات العامة كحرية الاعتقاد وحرية الممارسة السياسية والمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص، في ظل نظام ديمقراطي تداولي يصون الحقوق ويحفظ الكرامة لجميع مواطني بلدنا. وأي خطوة من الجامعة العربية أو غيرها على هذا الطريق نؤيدها وندعمها.

س- بعد تجارب عشر سنوات، إلى أين وصلت المعارضة السورية في مطالبها؟

ج- تجربة المعارضة لم تبدأ خلال العشر سنوات. المعارضة السورية موجودة منذ عقود ودفعت ثمنا في وجودها واستمرارها، عبر اعتقالات كوادرها ورموزها، لكن العشر سنوات الماضية كانت متميزة. وهنا، لا أريد الحديث عن المعارضة الخارجية وإشكالية أدائها والأجندات التي تحيط بها، لكن ما أريد الحديث عنه هو المعارضة الداخلية التي تمسكت ولا تزال متمسكة برؤيتها وأهدافها في إنجاز التغيير السياسي السلمي عبر الانتقال السياسي، وقد أدت انطلاقة الثورة إلى وحدتها وتجمعها في مؤتمر حلبون، حين أعلنت إطلاق هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي، ورفعت لاءاتها المعروفة: لا للعنف، لا للتدخل العسكري، لا للطائفية، لا لحكم الاستبداد، ولا تزال متمسكة بمواقفها ورؤيتها.

س- إذن إلى أين وصل النظام بعد عشر سنوات؟

ج- كما قلت سابقا، كلا النظام والمعارضة تحكمهما اليوم حالة توازن الضعف، ولا يمكن للنظام أن يستمر إلى ما لا نهاية في إنكار مفرزات أو نتائج الحرب والصراع خلال عشر سنوات، كما لا يمكن إهمال مطالب الثورة التي نهضت بها الجموع الشعبية للمطالبة بالإصلاح والتغيير إلى نظام ديمقراطي. ومن يظن أن بالإمكان عودة عقارب الساعة إلى ما قبل 2011 هو واهم، وكذلك ظل دور المعارضة وأدائها محكوما بالمناخ السائد، وبالرغم من كل ما تبذله للدفع بالعملية السياسية كخطوة باتجاه التغيير، فإن هذه العملية محكومة في إنجاحها بأطراف دولية كبرى. ونعتقد أن دور المعارضة سيكون ذا فعالية عند الانتقال السياسي وفي أجواء الحكم الديمقراطي، وعليها منذ اليوم أن تعد نفسها للعمل على إعادة النظر في بنيتها وأدائها على الصعيد الداخلي في أحزابها، وعلى صعيد علاقاتها بالحاضنة الشعبية لها.

س- ‌في خضم الحرب المستمرة، هل توجد استراتيجية دولية للسلام في سورية برأيك؟ وهل يرضي أي حل الشعب السوري، وهو المعني الأول بمصيره؟

ج- من الطبيعي أن توجد استراتيجية للدول المتدخلة في الملف السوري، فلكل دولة مشروعها ومصالحها تعمل عليه، على عكس العرب ليس لديهم مشروع يعملون عليه لمواجهة المشاريع الأخرى التي تعمل بحرية في أوطاننا. ومن هنا نجد غياب العرب، ليس كأمة فقط وإنما حتى كسياسات أنظمة عن القضايا العربية، ومنها سورية.

ما يتحكم الآن في سورية استراتيجيات الدول المتدخلة بالملف السوري ارتباطا بمصالح تلك الدول وعلى حساب المصلحة الوطنية السورية. وما يجري التخطيط له للحل السياسي في سورية، يؤشر إلى أن هناك سعيا -احتماليا غير مؤكد- من الدول الكبرى النافذة في الملف السوري إلى تشكيل مجلس عسكري وبالتوازي معه المضي بإعداد الدستور تمهيدا لإنشاء حكومة مدنية تعمل مع المجلس العسكري في المرحلة الانتقالية تمهيدا لإنشاء المؤسسات وفق الدستور الجديد، ثم إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في نهاية المرحلة الانتقالية.

طبعا هناك سيناريوهات أخرى يجري ترويجها، لكن الشعب السوري أثبت أنه لم يرض يوما عن أي استراتيجية تهدد كيانه ووجوده ومصالحه. قد يتم التأسيس لاستراتيجيات ومصالح الدول عبر التواطؤ مع أطراف داخلية على حساب المصلحة الوطنية، وقد يفرض الواقع اليوم احتلالات متعددة على الأرض السورية، ولكن شعبنا لن يقف مكتوف الأيدي تجاهها، وقناعتنا وأملنا كبير في شعبنا، ونحن محكومون بالأمل.

س- ما مدى تأثير قانون قيصر على النظام في حين تجمع آراء عديدة على أن سياسة الحصار لا يتضرر منها إلا الشعوب.. ما هي تداعيات هذا القانون على الشعب السوري الذي يعيش أصلا أزمات خانقة؟

ج- يبدو أن عشر سنوات من القتل والدمار والمعاناة لم تكفِ تعطش الدول للدم والخراب، ليأتي قانون قيصر استكمالا لمخططات تحويل بلدنا إلى ركام في كافة المجالات ومخططات وضع بلدنا في حالة عجز دائم ورهن إرادته لصندوق النقد الدولي والدول التي تحركه، حتى لِمَا بعد الانتقال السياسي كما حدث في العراق والسودان، إذ بالرغم من التغيير السياسي في السودان مثلا وبالرغم من اتفاقات الحكومة السودانية مع الكيان الإسرائيلي، فإن العقوبات لم ترفع عن السودان إلا جزئيا لتبقى العصا الغليظة فوق السودان وحكوماته مستقبلا.

لقد أثبتت تجارب كوبا وكوريا وإيران والعراق والسودان وغيرها أن العقوبات الاقتصادية لا تسقط نظاما ولا تحدث تغييرا في بنيته، وتمتلك تلك النظم طرقا عديدة للالتفاف عليها، بل كثيرا ما تكون مثل هذه القوانين للحصار الاقتصادي ورقة رابحة في أيدي الأنظمة، وقانون قيصر سيكون منقذا للنظام من استحقاقات التغيير أو إجراءات مكافحة الفساد أو إجراءات الخروج من الأزمة المعيشية التي تطحن الناس في ظل الهبوط الهائل للعملة الوطنية بالمقارنة مع العملات الأخرى.

وقد يتخذ النظام من هذا القانون مبررا لفرض قبضته الأمنية متذرعا بالحصار الاقتصادي لتكميم الأفواه وضمان الولاء له بالاستناد إلى شعارات مقاومة الحصار الذي يهدد الوطن بقرارات أميركية أحادية تمس سيادته، ومع ذلك فقد “لا تتطابق السوق مع حركة الصندوق” ويؤدي انهيار الوضع الاقتصادي إلى انفجار ثورة الجياع.

س- سياسيون سوريون يتهمون أمريكا باستخدام المساعدات الإنسانة ستارا لدعم الإرهاب في سورية، ما تعليقك؟

ج- أمريكا لم تقف يوما مع حقوق الشعوب، وكدولة عظمى تقوم استراتيجيتها على الهيمنة على العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا، من أجل الحفاظ على تفوقها وهيمنتها ومصالحها، ومن الطبيعي -وتاريخ أمريكا حافل بابتزاز الشعوب والدول- أن تتحرك السياسة الأمريكية في سورية كجزء من سياستها في الشرق الأوسط خدمة لمصالحها ومصالح الكيان الإسرائيلي. السياسة لا تتحرك استنادا إلى معايير قيمية أو أخلاقية أو معايير تقوم بترويجها عن حقوق الإنسان وحقوق الشعوب، وإنما وفق معيار” البزنس” والمصلحة العليا للدول، باستخدام كل الوسائل بما في ذلك الإرهاب وتمويله، ما دامت تؤدي إلى تحقيق مصالحها وسياساتها. كما أن أمريكا وغيرها ليست “جمعية خيرية ” تقدم الدعم والمساعدات الإنسانية مجانا بدون مقابل.

س- يقول مراقبون إن أمريكا وروسيا وإيران تلعب على الوتر الإنساني لتمرر أجنداتها في سورية.. ما تعليقك؟

ج- كما قلنا في البداية هناك تفاهم روسي-أمريكي حول سورية في الإطار العام، بل أرى أن التدخل الروسي لم يكن ليتم لولا الضوء الأخضر الأمريكي، وقد صرح لافروف أكثر من مرة بأن كل الخطوات التي اتخذتها روسيا في سورية كانت بعلم وتنسيق مع الإدارة الأميركية، وهذا يعني أن المجال الإنساني مثل غيره من المجالات سواء بفتح المعابر الإنسانية أو بإغلاقها يتم وفق تفاهمات بين الكبار، والمجال الإنساني ورقة من أوراق الضغط على الأطراف الإقليمية والداخلية لخدمة التفاهمات الأساسية بين روسيا وأمريكا.

س- ماذا عن مصير المعتقلين قسرا والمختفين في سورية، علما أن النظام لم يسمح بوصول المنظمات الدولية الإنسانية لمعرفة أحوالهم؟

ج- قضية المعتقلين والمختطفين والمختفين قسرا وفقا للقرارات الدولية (جنيف، و2218 و2254 لعام 2015)، تعتبر فوق تفاوضية، بمعنى أنه على طرفي النزاع تقديم لوائح اسمية للأمم المتحدة تمهيدا للإفراج عنهم، إلا أن ذلك لم يتم بالرغم من جولات جنيف التسعة وجولات أستانا وسوتشي والتي وضعت ملف بحث المعتقلين على جدول أعمالها. ومع ذلك، وللأسف لم يتقدم هذا الملف خطوة واحدة إلا في إطار ما يعرف بتبادل أسرى بين طرفي النزاع. وهناك عناد في عدم بحث هذا الملف أو القيام بخطوة جدية تعبيرا عن حسن النية تمهيدا لبدء أي مفاوضات وفق القرارات الدولية. لذلك، أرى أن مسألة المعتقلين والمفقودين ستبقى معلقة إلى المرحلة النهائية من التفاوض السياسي.