المفكّر السوري خيري الذهبي: الطغاة المعاصرون حمقى لم يقرأوا التاريخ أبداً.. والمعارضة التقليدية فشلت في تمثيل الشعب السوري

99

لا يزال مستقبل سورية غامضا وغير واضح أمام أبنائها وأمام العالم بأسره على نطاق أوسع، برغم كل المؤتمرات والملتقيات الإقليمية والدولية برعاية أممية وغيرها، إذ دخل الصراع عامه العاشر ولم ينتصر فيه أحد.. فالكل خاسرون، والشعب جائع ومشرّد بين مخيمات النزوح واللجوء، ومن جانبه يحاول النظام النجاة، بعد أن غرق المركب وراح ضحيته شعب طالب بالحرية والعيش الكريم.
وقد تعمّدت مختلف الأطراف إغراق البلاد في دوامة من العنف والنهب، وكانت سياسة الأرض المحروقة ورقة التخويف والترهيب من هذا الطرف أو ذاك، بعد أن غذى الصراع ظهور تنظيمات إرهابية متطرفة مسنودة بمقاتلين من جنسيات مختلفة.

ويرى المفكر السوري خيري الذهبي، في حوار مع المرصد السوري لحقوق الإنسان، أن المثقف قوة ناعمة لا يمكنه إلا إشعال النور لإنارة الطريق أمام الشعب والثورة، لافتا إلى أن التشابك الدولي هو من يمنع اكتمال دائرة التغيير والتطوير، مشيرا إلى أن المثقف العربي أصبح رهينة الانكفاء والسلبية من ناحية وإرادة التطويع الرسمية من ناحية أخرى.

س- ما هي مخاطر التيارات الإسلامية على اختلافها ودورها في تأزيم الأوضاع في المنطقة العربية وخاصة سورية، وممارساتها لفرض رؤيتها على الدولة المدنية الحداثية؟

ج: التيارات الإسلامية التي ترتكز على الدين كمرجع في تطبيق وتفسير الأمور الحياتية والاجتماعية موجودة وقديمة قدم الدولة العربية، وحتى أنها موجودة في الغرب في الإمبراطوريات الكبرى المسيحية، وهي بالطبع موجودة في الدولة اليهودية.. مشكلة هذه التيارات أنها بشكل أو بآخر تفترض أن المجتمع العربي يجب أن يبقى مقيداً في إطار وضع ما قبل 1500 سنة، أي أن الدولة العربية-وفقا لتلك التيارات- يجب أن تتبع ذات المنهج الذي ساد في صدر الإسلام، في معالجة شؤون السياسة والرئاسة وانتقال السلطة والشؤون المدنية وقوانين الأسرة، في تجاوز وإنكار لكل التطورات الهائلة والتراكمات الحضارية والتحولات الفكرية عبر القرون، وهذا بالطبع غير ممكن مطلقاً، فالعقل العربي الذي كان يقبل افتراضاً تطبيق حد السرقة أو القتل، لا يمكن له بأي شكل أن يقبل بتنفيذه اليوم في عصر التكنولوجيا وحقوق الإنسان وتطور علم الجريمة وعلم النفس، بذات المنطق لا يمكن معاملة المرأة ضمن تلك المفاهيم، وبالقياس نكمل الأمثلة.. لذلك فالقائمون على تلك الأحزاب بدمج الدين بالمجتمع وخلط الدين بالدولة، يعلمون أنهم يدغدغون سلفية ما موجودة عند مجتمع محبط، قيل له ملايينَ المرات بأن العرب والاسلام كانوا يوماً أمة حكمت العالم بفضل الالتزام بقوانين الدين والشريعة، وبالتالي “إذا أحببت أن تستعيد مجدك فلا بد لك من العودة إلى أصول الدين والشريعة حتى تستعيد روح الأمة “وهذا كلام فارغ، فلقد أثبتت التجارب فشل الدولة الدينية في قيادة مجتمع مدني متعدد الأديان والطوائف، أيًّا كان من يقود الدولة وأيًّا كانت طائفته، ولا يمكنه الاستناد إلى الحكم الديني والعشائري والطائفي، فالدولة المعاصرة تتنافى كلياً مع الشكل القديم للدولة العربية، والمواطن العربي اليوم يحتاج آلاف الأشياء التي لم يكن يفكر بها جده قبل 1500 سنة: العدالة والمساواة وحقوق المرأة والمواطنة والمشاركة الديمقراطية، والأهم تداول السلطة، وعدم قبول فكرة أن الخروج على الحاكم هو شأن ينافي الدين.. وما الدين في المحصلة سوى شأن من الشؤون القبلية، حيث تحولت كل طائفة إلى قبيلة يترأسها زعيم سياسي تحالف مع زعيم ديني، وبالتالي استمد شرعيته من تلك القوة الروحية لتلك الطائفة وبات بالضرورة قبول سياسات الزعيم السياسي شأنا يتعلق ببقاء الطائفة واستمراريتها و ووجودها في مواجهة بقية الطوائف، وهذا أمر كارثي، ولا حل له إلا بهدم البنية الطائفية التي عززتها بعض القوى الاقليمية، من أجل استمرار الفوضى واستثمارها، وعن طريق تلك الفوضى تتخذ الأحزاب الدينية التقليدية مرجعيتها كقوة قبلية عشائرية يجب الخضوع لها وإلا فالفرد الناشز يبتغي تهديم الدين، حتى لو كان ينوي بناء الدولة العصرية.

لا يمكن إيجاد حل للمنطقة العربية إلا باجتثاث الطائفية ومن يروج لها، فالطائفية في المشرق العربي هي التي تغذي جميع الأحزاب الدينية، ويجب اجتراح قوانين مدنية تفرض على من يرغب في تأسيس حزب ديني شروطاً مدنية تتعلق بنزع الدسم الديني والقدسية والحصانة عن كل من يرغب من رجال الدين في ممارسة السياسة، وتجريمهم أسوة بأي سياسي يرتكب غلطاً أو تحريضاً أو تأثيراً سلبياً على بقية شركاء الوطن، وهنا نحن نحتاج إلى بناء جسم قانوني قضائي صارم لا يفرق بين سياسي عسكري وسياسي ديني، ويحاسبهم على مستوى واحد من الصرامة.

س- ألا تعتبر أنّ المثقف العربي أصبح رهينة الانكفاء والسلبية من ناحية وإرادة التطويع الرسمية من ناحية أخرى، الأمر الذي خلق فراغاً فكرياً أثر على مسيرة الشعوب في كفاحها ضد الظلم والطغيان والاستغلال؟

ج: عالجت هذا الموضوع في عدة روايات أهمها ( صبوات ياسين) و( لو لم يكن اسمها فاطمة)، وتلك والله معضلة كبيرة، فالمثقف العربي حُمل أكثر من طاقته، مثقفو الجيل السابق كانوا حالمين جداً وقارعوا الاستبداد والظلم والدكتاتورية والطائفية و التطرف الديني والاستعمار والامبريالية، وكل هذه القوى الشرير دونما قدرة على تطوير أساليب لايصال صوتهم للمواطن الفاعل أو المواطن السلبي لاستنهاضه، فسقطوا فرائس للإحباط واليأس، ولقد استطاع النظام السوري على سبيل المثال اختراق المثقفين والثقافة بذات الطريقة التي اخترق بها المعارضة السياسية له، والتنظيمات العسكرية المناهضة له.. اخترق النظام المثقفين عبر زرع طبقة جديدة من مثقفين غير خصبيين، أي معقمين من قبل النظام يمارسون الأدب والمسرح والسينما والشعر والرواية تحت الخط الذي يريده النظام فملأوا الساحات والمنابر، وكان النظام يقصي المثقف الفاعل على حساب هؤلاء، هذه الخطة الجهنمية في إفراغ الثقافة من محتواها وتحويلها إلى بوق أجوف، جعلت الناس ينفكون عن الثقافة، وتحولت كلمة مثقف إلى كلمة شبه كوميدية في الأوساط الشعبية، بديلة عن كلمة التفلسف والحذلقة الفارغة، إذ أن النظام عوّم على سبيل المثال مسرح دريد لحام الفارغ الشعاراتي، وأقصى مسرح فواز الساجر وسعدالله ونوس ومصطفى الحلاج ووليد فاضل وفرحان بلبل….كانت مسرحيات لحام تعرض في الأعياد والمناسبات كافة ، بينما مسرحيات تفوقها نقداً وأهمية بقيت حبيسة أشرطة الفيديو، وأيضاً كان التمثيل الأدبي في المؤتمرات الدولية رهينة مزاجية صاحب اتحاد الكتاب العرب، فمن كان يمثل سوريا في كافة مؤتمرات اليونسكو ومعارض الكتاب العربية والعالمية لم يكن إلا من مثقفي النظام المعقمين فكرياً، وهم لا يزالون حتى اليوم موجودين، فما فائدة أن تكون مثقفاً إن كنت راضياً عن دمار بلدك و تجد المبررات لانتفاخ السجون، والمسوغات لإبادة نصف الشعب؟ المثقف يجب أن يكون على يسار السلطة مهما كانت تلك السلطة، وتلك اللحظة التي تتوافق فيها السلطة مع المثقف، يعني أن ذلك المثقف أصبح شاعر بلاط، يلتقط الدراهم جزاء أدبه المرضي للسلطان، حتى لو كان أدبه عاليا…

الطبقة المثقفة عانت تماماً مثل معاناة الشعب، من تفرقة وتجزئة وتشتت، لا رابط يجمعها ولا منبر حقيقي يوحدها، حتى منابر مثقفي الخارج، تقصي فلانا وتتقرب من فلان، حسب مزاج من يقوم عليها، وليس حسب القضية.. راقبوا واستنتجوا…المثقف كلمة كبيرة جداً، وليس كل من عمل في الكتابة هو كاتب، وليس كل من نظّر في الحياة والفلسفة هو منظّر.. الثقافة شأن موسوعي، والمثقف الحقيقي نصف نبي، لا تنقصه إلا المعجزات..لذلك يتوجب على الناس التمييز بين الصدق وبين الإفك..وإن لم يفعلوا فالتاريخ سيفعل.

س- تحدّثت في أعمالك المتنوعة عن علاقة المثقف والثقافة عموما بالسلطة وحملت هذا الهمّ على عاتقك.. كيف تعقِّب على مواقف بعض المثقفين من الثورة في سورية وماهو الدرس الذي أخفق فيه مثقفو سورية ومفكروها؟

ج: ظهر في سورية في القرن الفائت قامات ثقافية عالمية، فلاسفة وكتاب ومفكرون على درجة كبيرة من الوعي والحكمة والوطنية، ولكن المثقف قوة ناعمة، لا يمكنه إلا إشعال النور لإنارة الطريق للشعب، ولكن التشابك الدولي هو الذي يمنع اكتمال دائرة التغيير.. تخيلوا لينين لو لم يعد إلى روسيا على قطار ألماني، أو الخميني لو لم يعد إلى طهران على طائرة فرنسية، وما تحمله تلك العودة من دعم ربما، تخيلوا ليخ فاليسا دونما دعم أوروبي، انظروا الثورة في براغ في الخمسينات وكيف راقبها العالم وهي تسحق تحت الدبابات السوفييتية، انظروا إلى انتفاضة هونغ كونغ، ورومانيا وهنغاريا.. العالم بات في تشابك كبير.. ولسبب يعرفه الجميع، لم يسمح التوافق الدولي لربيع سورية بالاكتمال..والمثقف هنا ضحية مثله مثل أي مواطن، حتى مثقفو السلطة هم ضحايا، لنفوسهم الأمارة بالسوء، أو لضعفهم وخوفهم، فلكل نفس قدرة على التمرد، وأيضاً على الصبر…

س- أنت مثقف تقرأ معطيات التاريخ وتُحلّل الواقع وتحاول البحث في آليات إنقاذ شعبك مما وقع فيه، والحال أنك تعيش في ”بلدان الموز العربية” كما أطلقت عليها في أحد حواراتك السابقة .. أي مفارقة لتحقيق هدفك النبيل ونقل نبض الناس وانكسارات الأمة وفرض وجهة نظر وفلسفة لتصبح وجهة نظر جمعية؟

ج: التأمل في شؤون الناس والابتعاد عن الضغائن وصغائر الأمور كانت شغلي الشاغل طوال السنوات الخمسين المنصرمة، طفت بلاد الشرق جميعها وعشت في دول عديدة من العالم، ولكن توهج روحي كان يتقد في الاقتراب من بلاد الشام وشؤونها، لم أترك فرصة لنقل الأفكار إلى الناس إلا وتفاعلت معها.. كتبت في الإذاعة والتلفزيون والسينما والرواية والقصة القصيرة والصحافة وللأطفال، والبحوث التاريخية والفكر والعلوم الإنسانية… لكن حملات التجهيل والتعتيم على العقل العربي كانت أقوى من الحركات الفردية لعشرات المثقفين من هنا وهناك.. التعتيم على العقل العربي فعل منهجي شارك فيه الجميع، من داخل الوطن ومن خارجه، اليمين واليسار، كان الجميع يتعلم السياسة دونما سابق معرفة على ممارستها، فارتكبوا أخطاء لا تغتفر.. التأميم غلط، التعليم الموجه غلط، عسكرة المجتمع غلط، مناهج التعليم والتلقين غلط، افتعال المواجهة بين الدين والعسكر غلط، تأثيم التدين غلط، مغالاة التيارات الاسلامية غلط شنيع، وكم ارتكبنا من أغلاط في مصر واليمن والعراق وليبيا وسوريا و السودان ولبنان وفلسطين.. نحن كنا نتعلم، وكم كانت الأخطاء قاسية، كانت المجمدة العثمانية قد منعت عنا وعنهم التدريب على الحوار والتمرين على الديمقراطية والرأي الآخر، بعكس دول الجوار الأوروبي المتمرسة على الحوار، ثم أتينا على مرحلة العسكر وإقفالهم على المجتمع وكأنه صندوق خشبي يخص جداتهم، فانتفخ المجتمع داخل الصندوق وانفجر في عموم المنطقة العربية.. وكما قلت ، لكل فعل رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه، فكلما ازداد الطغيان علينا أن نتوقع انفجاراً يساويه ، وما انتفاضات “الربيع العربي” الفاشلة إلا بداية ربما لنصف قرن قادم من الثورات في المنطقة العربية، حتى نصل إلى الدولة الحلم.. مشوارنا طويل، وقدر الانسان هو سعيه الدائم للوصول إلى راحته الأبدية ، التي ربما سينالها هو وربما نالها أحفاده…

س- قلت سابقا سيد خيري، إنّ الديمقراطية التي تمنح الشعب حق اختيار قادته وضمان حقوق الأقليات والعدالة، هي الحل الوحيد للعرب ومن بعدها سيبدأ التاريخ.. ألا ترى أن بداية التاريخ وفق منظورك الفكري مع هؤلاء الزعماء العرب المهووسين بالسلطة، والحكم قد لا يبدأ مع هذا الشرط ؟

ج:الطغاة المعاصرون، حمقى، لم يقرأوا التاريخ أبداً، ولا يمكن لحاكم أن يمسك بزمام أمته طوعاً إن لم يقرأ التاريخ، فلا سبيل للطاغية إلى كسر أمته أبداً، الشعب سيتصنع الرضا و الطاعة، خوفاً من البندقية، ولكنه سيقتص لنفسه حينما تأتيه الفرصة، ولقد أسلفت بأن الثورة الفرنسية أم الثورات في العالم، احتاجت قرناً كاملاً حتى صنعت التغيير، وكان السجال بينها وبين الطغاة، يتناوب، فتارة تعود الملكية وتارة تنتصر الثورة، وحدث هذا الأمر ثلاث مرات في نصف قرن فقط.. اليوم هناك على الأقل نصف الشعب يؤيد الثورات ولا أدري ما هي النسبة بينهم ممن يؤيد الديمقراطية، وهناك نسبة كبيرة تساند الطغاة، سيبدأ التاريخ حينما تصبح نسبة مؤيدي الطغاة تعادل نسبة عشاق جمع الطوابع في العالم العربي، حينما يقتنع الشعب بأن الطاغية لا يجلب الأمن ولا يجلب الاستقرار ولا يجلب الشرف والكرامة، وبأن لا هدف له إلا نفسه وتسهيل بقائه، حينها سيعمل الجميع على رفض ونبذ الدكتاتوريات، وحينما يقتنع معسكر الثورة بأن الديمقراطية هي الحل، وبأنه لا يمكن مطلقاً فرض رأيك على عموم الشعب، حينها يبدأ التاريخ.. نحن قلنا تلك الأفكار في كتبنا وفي محاضراتنا، وسنظل نفعل، لأن هذا قدرنا السيزيفي في رفع الوعي العربي حتى يصل إلى ذروة اتخاذ القرار، وليس كل قرار من الشعب صائباً ..الشعوب تخطأ أحياناً ، ولكن أغلاطها مغفورة لأن الشعب يعود عن تلك الأغلاط، وهذا مبدأ الديمقراطية.. قد تنتخب شخصاً وتكتشف أنه لا يستحق، فتسقطه، ولكن لا يمكنك إسقاط مغتصب السلطة في البلاد العربية إلا بالوعي العام والعمل طويل الأمد.

س- تتحدّث دائما عن أهمية قراءة التاريخ العربي لمعرفة الأخطاء والتخلص منها مستقبلا، وتدعو أمة “إقرأ” التي لا تقرأ، إلى أن تطلّع حتى ينصفها التاريخ.. كيف يمكن أن يقرأ الجيل الجديد هذا التاريخ الذي يرونه ملوثاً ببطولات وهمية وتفسيرات خاطئة، هذا التاريخ الذي لا يثقون به؟

ج: الارتقاء بالوعي العام مسألة غاية في الخطورة، وتحتاج إلى تدقيق كبير، القراءة فعل هام جداً، حيث تفترض القراءة أن يتخذ كل قارئ وجهة نظر ليكون رأيه الخاص، وهو أمر لا تسمح به الهيئات الممسكة بالعمل الثقافي المحلي والعابر للمنطقة العربية.. هنالك من يعمل على توجيه العقل العربي، انظري، أغلب الدول المهتمة بالشأن العربي تمتلك إعلاماً موجهاً للأمة العربية، يلبي حاجات مهووسيها، روسيا تمتلك جهازاً إعلامياً كبيراً موجهاً للعرب، فرنسا كذلك، بريطانيا، الولايات المتحدة، ايران، تركيا، وحتى ألمانيا والصين واليابان، افتحي التلفزيون وشاهدي، عشرات التلفزيونات تعمل ليلاً ونهاراً على بث فكر تلك الدول سلبياً كان أم إيجابياً وسكب تلك الأفكار في العقل العربي، بينما الإعلام العربي مشغول بأمرين: تمجيد الحاكم والدراما السلبية، فقط…والتلفزيون كما نعلم هو أكبر دار نشر في العالم العربي، في ظل انكفاء القراءة وانعدام المكتبات واضمحلال سوق الكتب والسينما والمسرح، لذلك نحن أمام جيل استهلاكي بحت، يبحث عن الجمال السطحي، دونما الغوص في أعماق الفكر البشري، أعماق المشكلة العربية، أمة إقرأ لا تقرأ، أمة تعيش على أمجاد الماضي، لا يمكن لها أن تعيش اللحظة، وتفكر في المستقبل.. أحتفل هذه الأيام بصدور روايتي الجديدة ( الجنة المفقودة- من القنوات إلى كفرسوسة) وهي مرثية حب ضائع لجيل فقد بلاده وتناثر في المنافي، هل هذا ما يريدونه..؟ لا أعلم.

س- في كتابك الشهير الذي صدر عام 2019 “300 يوم في إسرائيل”والذي تحدّثت فيه عن مواجهتك مع الضباط الإسرائيليين في حرب 1973 وما حدث حينما كنت أسيرًا لدى كيان الاحتلال، وحفرت عميقا عن واقع سورية أيضا.. كيف أثّرت فيك هذه التجربة، ولماذا بعد نصف قرن فكّرت في نحتها في رواية؟ وإلى أي مدى أثّرت في رؤيتك المستقبلية؟

ج: المصالحة مع الماضي هي السبيل الأمثل للبدء نحو المستقبل، وأنا تصالحت مع ماضييّ حينما كتبت كتاب( 300 يوم في إسرائيل) ، تلك التجربة التي أثرت بعلاقتي مع بلدي و مع وطني بشكل كبير، كانت صدمة هائلة بالنسبة لي مشاهدة كيف يصنع الكذب في معامل الإعلام لتتحول الهزيمة إلى انتصار، والكبوة إلى تعثر، وكيف تصنع الشعارات، حتى يقتنع الانسان بأنه من الممكن إدراك السماء بسلالم خشبية…هذا غير صحيح….

س- كيف يقيّم المفكّر خيري الذهبي دور المعارضة السورية لفرض الحلّ السياسي السلمي بعيدا عن منطق القوة والسلاح والقتل؟

ج: المعارضة السورية التقليدية فشلت حتى الآن في تمثيل الشعب السوري الذي بدوره يعيش عزلته ووحدته، فلا النظام يمثله، ولا المعارضة، فيكتفي بنفسه منتظراً المنقذ، وأنا أعتقد أن هذا المنقذ لن يكون إلا من الجيل الجديد شاباً أو شابة يتمتع\تتمتع، بروح العصر، والايمان بأن السياسي الذي تناط به قيادة الأمة يجب أن يلغي ذاته من أجل الآخر، لا أن يبني لنفسه قصوراً من عقد نفسية بالبطولة والخلود والعظمة بينما يتضور أبناء شعبه جوعاً في المخيمات والمنافي وداخل البلاد، لذلك لا أعول على المعارضة أبداً، هنالك أصوات فردية لا غبار عليها، ولكن التدخل الإقليمي والدولي جعل من العمل السياسي في سورية فعلاً عبثياً، حيث لا قرار لسياسي سوري، أبداً، لا من النظام ولا من المعارضة، الجميع باتوا دمى، ولن يتغير شيء حتى يتم التوافق الدولي على شخصية جديدة يتفق الجميع وينخرط خلفها، شخصية تعمل على تعزيز العمل المدني وتعزز روح الديمقراطية والمواطنة، ولو كان أمر المعارضة بيدي لانشغلت ببناء عقل الأطفال الصغار وتفتيح عقولهم نحو الأمل والديمقراطية وحرية التعبير، لطبعت الكتب والصحف والمجلات لمساعدة أولادنا، فمع كل صندوق مساعدات وطعام يتوجب علينا إرسال صندوق كتب ومجلات..هكذا تكون المعارضة، في بناء العقول أيضاَ، وليس في شراء البطون الجائعة، ولكن هذا ليس شأن المعارضة وحدها، فدول الطوق والجوار لم تعمل على بناء تلك العقول أيضاً بل تركت الأطفال نهباً للتخلف والجوع الفكري الذي لا يقل خطورة عن الجوع المادي، ويترك فراغاً قد يملأه التطرف الديني..

س- يتّهم البعض إيران بالسعي في سورية إلى إحياء الدولة الصفوية ويتهم آخرون تركيا بالعمل على إحياء الدولة السلجوقية.. ألا ترى أن الصراع اليوم في سورية والشرق الأوسط هو صراع سياسي أكثر من كونه صراعا طائفيا؟

ج: الصراع في سورية صراع سياسي، بالدرجة الأولى، ما تفعله إيران وتركيا، لا يوافق عليه الشعبان التركي والايراني، أبداً، الشعوب تجد على الدوام نقاطاً للالتقاء، ولكن الأنظمة هي التي تفعل الخلافات و المذهبيات، فلتسقط تلك الأنظمة وسنرى حينها شعوباً متفقة تعمل بالزراعة و التجارة والصناعة وتستفيد من بعضها، ولكن الفضاء المشرقي كان منذ ألف سنة مسرحاً لذات الصراع ، منذ الوثنية وانتقالاً إلى المناذرة والغساسنة و بيزنطة والكسروية ، مروراً بالعباسيين والأمويين، وصولاً إلى إيران وتركيا، ومسرح الشام والعراق الذي يتقاتلون عليه…صراع النفوذ موجود ولكل دولة منهما أجندة وجدول عمل يعمل عليه نظامها، ولكن السؤال الأهم، ماهو جدول العمل العربي، وما هو منهجنا كعرب؟ هل لدينا خطة عمل؟ ..الطائفية فعل ساقط، فعل من لا ضمير له، فكيف يمكنك تبرير القتل بحجة الدين أو الخوف…

س- بعين المفكّر والسياسي.. ماهي أبرز الأخطاء التي ارتُكبت لتنزلق الثورة في سورية إلى هذا الوضع المأساوي؟

ج: الخطأ الأساسي كان من النظام الذي مارس تجهيلاً كبيراً على الشعب، وعممّ التخلف في عموم البلاد، حارب المجتمع المدني والحراك الثقافي الجاد، منع الأحزاب التي كان مناطاً بها العمل على القواعد الشعبية كي ترفع مستواها الثقافي والتوعوي، فحينما استوى الجهل بين الناس وتفاعل الظلم و القهر والفقر معه، كان من السهل إشعال عود ثقاب الفتنة، لتندلع الكارثة.

س-برأيك لماذا فشلت كل المؤتمرات السورية المتنوعة من سوتشي إلى القاهرة إلى جنيف في تنفيذ الحل السياسي السلمي؟

ج: لسبب بسيط وهو أن الشعب السوري كان غائباً عنها.. قلت من قبل إنه لا تمثيل حقيقي للشعب السوري لا في المعارضة ولا في النظام، وبالتالي الشعب السوري ليس معنياً بما يجري هنا أو هناك..أضف إلى ذلك أن أياً من تلك المؤتمرات لم يلب طموح الشعب بالحد الأدنى من طلباته…لذلك لا يمكن للشعب أن يتفاعل مع تلك المؤتمرات، يمكنهم فرض حل مؤقت ولكن الزمن سيكون كفيلاً بنقضه من جديد..وتذكروا نصف قرن من النضال ينتظرنا حتى تحقيق الدولة الحلم.

س- ما هي الرسالة التي توجهها إلى الشعب السوري الملتاع؟

ج: أقول للشعب السوري العظيم بأن الجميع يخشاك، والجميع يخشى حراكك، لا تتخلَّ عن وعيك وعن ثقافتك وحسك الفطري بالحق والعدل، وامض في مسيرتك نحو بناء بلدك، إنها الثورة الأولى الحقيقية في تاريخ سورية المعاصر، ولا بد لتلك الثورة من تحقيق أهدافها..لقد عبرنا من الأسوأ و ينتظرنا عمل كثير…لأن سورية المستقبل تستحق .. نحن متعبون ، جميعاً متعبون، ولكننا حينما نتكامل فإننا سنتسامى، وَلْيُتقن كل منا عمله، ولنتمسك بأخلاقنا تلك التي تميزنا عن القتلة.. لن نقبل إلا أن نكون منارةً للشرق مجدداً، ولن يهدأ لي بال حتى يتم هدم أخر السجون في سورية، ويطفئ أخر ضوء في أبنية المخابرات.