الموت ليس فرصة لتصفية الحساب: عن ميشيل كيلو والآخرين

المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي المرصد السوري لحقوق الإنسان

30
وسط ما بدا من إجماع سوري على تقدير قيمة الراحل ميشال كيلو ودوره، والعزاء به والترحم عليه، انطلقت أصوات خافتة، بدت منفردة، ثم أخذت تتصاعد وتتجمع، لتخرق شبه الإجماع السوري…

توفي ميشيل كيلو الكاتب والصحافي السوري، وأحد أبرز رموز المعارضة السورية. إذ يمتد حضوره ونشاطه فيها إلى أكثر من 50 عاماً، كان في خلالها حاضراً في  التفكير والكتابة وفي القول والنقاش، وفي التواصل وإقامة العلاقات مع الأشخاص والتنظيمات السياسية والاجتماعية، وإطلاق المبادرات في كل اتجاه ومستوى، إضافة إلى الانخراط في تنظيمات سياسية واجتماعية وغيرها.

واصل كيلو بعض تلك الأنشطة حتى اللحظات الأخيرة من حياته، إذ أطلق وصيته للسوريين للخروج ظافرين من المعركة ضد نظام الأسد، وتمنى في لقاء مصور معه، أن يساعد السوريون بعضهم بعضاً في مواجه جائحة الجوع، ولم يقصر إلا بداعي عدم القدرة على الرد على الرسائل والاتصالات التي كانت ترد إلى هاتفه النقال.

ولأن ميشيل كيلو كان على هذا النحو من القدرات والنشاط والعمل والعلاقات، بدا من الطبيعي، أن يقابل موته بقدر كبير وغير مسبوق من اهتمام السوريين ومشاركتهم عائلته وأصدقاءه العزاء، بل في عزاء بعضهم بعضاً، وقد صاروا عائلة واحدة وأهلاً للراحل الذي لم يكن يراهم في يوم من الأيام إلا على هذا النحو، باستثناء قلة من بطانة نظام القتل والاستبداد والمرتبطين به، وقد باعوا ضمائرهم، وجعلوا حواسهم خارج متابعة ما حصل في سوريا في العشر سنوات الماضية، وهي امتداد فج لعشر قبلها من عهد الابن وثلاثين أخرى أمضاها السوريون في ظل الأسد الأب ذاقوا فيها الأمرين.

وسط ما بدا من إجماع سوري على تقدير قيمة الراحل ميشال كيلو ودوره، والعزاء به والترحم عليه، انطلقت أصوات خافتة، بدت منفردة، ثم أخذت تتصاعد وتتجمع، لتخرق شبه الإجماع السوري، وتندرج في ثلاثة مسارات أولها “سياسي”، والثاني “قومي” والثالث “ديني”، سجلت اعتراضاتها على الموقف السوري العام ازاء رحيل كيلو، وسعت إلى نبش ما أمكن من نصوص ومواقف وممارسات، وأحداث، لدعم موقفها.

المسار الأول للاعتراضات الذي اتخذ الطابع السياسي، تبدى بموقف أصحابه في اختلافهم مع ما كان لميشيل كيلو من مواقف وآراء، تختلف مع آرائهم ومواقفهم في القضية السورية أو تُناقضها. وهم بهذا لا يناقضون الطبيعة البشرية بما فيها من اختلاف بين شخص وآخر فقط، بل يرغبون في أن يكون الرجل متطابقاً مع مواقفهم وآرائهم، وإن كان غير ذلك، فلا بد من التشكيك به وبما أحيط برحيله من اهتمام واسع.

ويقارب المسار الثاني مثيله الأول في محتواه، وإن كان مختلفاً في واجهته، وأكثر تعقيداً من سابقه، وقد تكرس في اعتراضات سوريين أكراد على بعض مواقف كيلو وأقواله، التي ظهرت إزاء تطورات الحدث السوري في السنوات الماضية. وإذا كان من الحق، أن أشير إلى آراء ومواقف، قطعت من سياقها العام لغاية في نفس يعقوب، وهذا امر دارج في السياسة السورية، فيمكن القول، ان الرجل وكل العاملين في المجال السياسي، يمكن أن يتخذوا موقفاً، أو يعلنوا رأياً لا يتوافق مع آخرين، أو يتعارض مع سياق مواقفهم العامة. والحكم على الآراء والمواقف، ينبغي ألا يكون معزولاً عن إرث صاحب الموقف والرأي وتاريخه، إلا إذا كان يمثل تحولاً جوهرياً في مسار الشخص في القضية المحددة. وإذا كان الكلام حول موقف ميشيل كيلو من القضية الكردية، فإن الموضوع لا يحتاج نقاشاً طويلاً، فقد كان الرجل من أكثر السوريين تأييداً لحقوق الأكراد وضد ما تعرضوا له من انتهاكات وسياسات عنصرية، وبخاصة التي مارسها نظام البعث، بل إن علاقات ميشيل مع الأكراد ونخبتهم السياسية والثقافية أمر معروف… وكانت عنصراً فعالاً في تجسير علاقات الأطراف السياسية العربية والكردية والانفتاح بينهم في فترة ربيع دمشق، والتي كان للجان إحياء المجتمع المدني دور كبير فيها، وكان كيلو أحد أركانها. وتقديري أن الانتقادات التي ظهرت على هامش رحيل كيلو جاءت من شباب أكراد إما لا يعرفون الرجل حق المعرفة، أو هم من شبان حصلوا على جرعة زائدة مثل تلك التي حصل عليها أمثالهم من الشبان العرب في غمرة المناكفات العربية- الكردية، التي لا تنفع أحداً، وتضر بالطرفين. وفي الحالتين علينا ألا نأخذ معظم ما قيل على محمل الجد.

المسار الثالث في الاعتراضات طابعه “ديني” ويتصل بالمتدينين وجماعات الإسلام السياسي في تعاملهم مع رحيل ميشيل كيلو ولا سيما لجهة النعي والترحم. فقد نعت جماعات الراحل، وقدرت نضاله الطويل والمتواصل ضد نظامي الأسد أباً وابناً، لكنها تجنبت الترحم عليه على نحو ما تضمن نعي صدر عن المراقب العام للإخوان المسلمين السوريين محمد وليد، التزاماً بما يعتقده المتدينون من عدم جواز الترحم على غير المسلمين، بل وأحياناً على المسلمين الذين ينزعون عنهم صفتهم الاسلامية. تماماً كما فعل عماد الدين رشيد الذي يتزعم جماعة إسلامية صغيرة عند وفاة المفكر السوري الطيب تيزيني، فأكد عدم جواز الترحم عليه. والغريب أن شخصاً مشهوداً له بالاعتدال من بين الشخصيات الإسلامية السورية، هو عصام العطار الذي كان صديقاً للراحل كيلو، نعاه، من دون أن يذهب حد الترحم عليه، ما يؤكد توافق الإسلاميين في جماعاتهم وشخصياتهم على عدم الترحم، في سلوك يكرس موقفاً متشدداً تمييزياً يقوم على أساس الانتماء الديني في التعامل مع موت شخصيات ذات أهمية وطنية.

قبل أن أختم أود أن أشير في غمرة ردودالفعل إزاء وفاة الراحل ميشيل كيلو إلى نموذجين ظهرا مميزين في نعوته وسط شبه الإجماع السوري على تقدير كفاحه ودوره ضد نظام الأسد، أولهما قناة “أورينت”، والثانية قناة “سوريا”، إذ قامت كل منها بتغطية واسعة لرحيله، واستضافتا كتاباً وصحافيين وسياسيين للتعليق على الحدث. ثم انفردت الأولى بفتح ملف تشهير ضمني بمواقف الرجل وآرائه، وهذا مفهوم في ضوء الخلافات بين الراحل وصاحب المحطة، ما جعل نقاش مواقف كيلو وآرائه، فرصة لتصفية حسابات قديمة. أما تغطية تلفزيون “سوريا”، فقد بدت وكأنها مزايدة على السوريين باعتبار أن كيلو أحد أركان تلك المحطة ومشغليها في وقت لا يتجاوز عمرها وصلاتها بالقضية السورية سوى سنوات قليلة، بينما نضال كيلو والسوريين ضد نظام الأسد يعود إلى عقود.

 

 

 

الكاتب: فايز سارة – المصدر: درج