الناشط السياسي محمد ملّاك: حضور المرأة السورية سياسيا كان “صوريا” رغم الثورة.. والمجتمعات العربية همّشتها ودفعت بها إلى الوراء “خلف الرجل”

79

تلعب النساء في سورية دورا مهما في الحراك الثوري على الأرض ومواقع التواصل الاجتماعي، ولكنهن لم يحصلن على الاهتمام الكافي من أطياف المعارضة المختلفة في مشاريعها للفترة الانتقالية، رغم أنهن لم تتأخرن عن القيام بما تمليه الظروف الحياتية المستجدة، حيث تم تهميشها في عديد المناسبات. محمد ملاك رئيس تحرير مجلة (سيدة سورية) الناشط السياسي المهتم بقضايا المرأة، تحدث لـ”المرصد السوري” عن واقع المرأة والمعوقات التي حالت دون المزيد من المشاركة.

 

1- سرعان ما تحولت الثورة في سورية إلى عنيفة ومسلحة.. هل كان من الضروري حمل السلاح؟

ج1- بدأت الثورة السورية حلماً بالتحرر من الاستبداد والتوريث والهيمنة على مقدرات البلاد، في ظل نظام شمولي شكّلته عائلة الأسد، وبدا أنّ الحلم ممكن التحقق مع موجة “الربيع العربي” التي حشدت فئات الشعب في الشوارع والميادين، في مظاهرات سلمية وحراك مدني حمل شعارات الحرية والعدالة ووحدة الشعب السوري. لكن النظام رد بالاعتقالات والقتل والتهجير، وهكذا فرض النظامُ العسكرةَ على الثورة كردٍ على العنف الذي نفذته الميليشيات التي شكَّلها بهدف إخضاع المناطق الثائرة، ما أجبر الناس على محاولة الدفاع عن أنفسهم. ولولا العنف الشديد وعشرات آلاف الاعتقالات وقتل المتظاهرين في الشوارع، لظلت الثورة السورية مثالاً يحتذى لثورة شعبية مدنية، كما حدث في تونس والسودان والجزائر.

 

2- بعد قرابة عشر سنوات من الصراع، أي دور للمعارضة الداخلية والخارجية لبلورة رؤية مشتركة بهدف إيجاد حل سياسي سلمي واستئناف صياغة الدستور السوري؟

ج2- منذ سيطر النظام قبل حوالي 50 عاماً على سورية، عمل بشكل ممنهج على هدم الدولة وتدمير قوى المعارضة أحزاباً وتيارات، وشكَّل هياكلَ تخنقُ كلَّ صوت خارج إرادته على غرار”الجبهة الوطنية التقدمية” التي ضمّت أحزاباً وافقت تحت الضغوط على أن يقودها “حزب البعث العربي الاشتراكي”. وقد عانى كل من خالف ذلك التهميشَ والفصل عن العمل، وصولاً إلى الاعتقال والقتل. ومن يعرف سورية يعرف معتقلاتها التي لا تشبه شيئاً آخر. هكذا، وبعد عقود من تفريغ المجتمع من أي عمل سياسي، دخلت المعارضة معترك العمل السياسي برصيد ضعيفٍ وكوادرَ قليلة منهكة عانت السجن والاعتقال الطويل. وخلال سنوات، غرقت المعارضة بلعبة التّسابق على حصص في الشارع السوري المنهك، الذي لا يقيم لها وزناً، وغرقت أيضا بالارتهان للخارج حتى باتت الأحزاب والتشكيلات غير التابعة فقيرة ضعيفة دون موارد.

وفي ظلِّ صوت البنادق وتحوّل سورية إلى أرض صراع إقليمي ودولي، هُمّش الشعب السوري والمعارضة التي تقارب حلمَه وتتماهى مع متطلبات ثورته، وتعاظمت في المقابل قوة الأحزاب والتيارات التي قبلت المال السياسي، وهي إمّا أحزاب إسلامية أو تيّارات بأجنحة ميليشياوية ورؤى غير وطنية. من جهة أخرى، تعمل القوى الوطنية الديمقراطية على توحيد قواها لقيادة حل سياسي ينهي النظام بكل رموزه، محافظاً على ما تبقى من مؤسسات الدولة، وهو مسار يبدو أن القوى الدولية والإقليمية باتت مقتنعة بأنه الحل الوحيد الذي يجب إنضاجه لإخراجها (القوى الدولية) من الدوامة التي وقعت فيها في صراع السنوات الماضية، وأيضا لإيقاف المذبحة التي تحدث للشعب السوري والتخفيف من آثارها. من هنا كان لا بدّ للمعارضة الوطنية الديمقراطية أن توحد قواها وتنبذ الخلافات لإكمال الدفع باتجاه بناء سورية جديدة، دولة المواطنة والقانون والحريات، دولة وطنية موحدة تحقق طموحات الشعب السوري وترتقي إلى مستوى تضحياته.

 

3- باعتبارك ناشطا سياسيا مهتماً بقضايا المرأة، وُصفت الحركة النسوية في سورية بالضعيفة، بماذا تفسر محدودية هذه المشاركة؟

ج3- المجتمع السوري فيما يخص المرأةَ جزء من المجتمع العربي والإسلامي عامة، مع بعض الفروقات، وكلُّها مجتمعات همّشت المرأة ودفعت بها إلى الوراء “خلف الرجل” تحت دعاوى عديدة، دينية واجتماعية واقتصادية. ويضاف إلى كل ذلك أن النظام السوري الشمولي مدَّعي العلمانية، بنى هياكل صورية مفرّغة من محتواها بهدف خنق الحريّات المدنية، وأضاف إلى عوامل تهميش المرأة وإقصائها عوامل جديدة، فشكّل الاتحاد النسائي التابع له وحصر به نشاط المرأة ونضالها، ما أعاق عمل العديد من الجمعيات النسوية المستقلة الموجودة سلفاً. وكذلك أقصى الناشطات النسويات، خاصة المعارضات، وباتت برامج تحرير المرأة إضافة إلى القيود الإجتماعية، رهينة الكبت السياسي الذي عانى منه كل الشعب السوري نساءً ورجالاً. ومع أن تمثيل المرأة في هيئات الحكومة السورية مع بداية الثورة عام 2011 وصل إلى 12%، فإنه بقي تمثيلاً صورياً لا يخدم تحرر المرأة والنهوض بواقعها.

وحين حرّر الشارع السوري بانتفاضته أحزاب المعارضة من جمودها وبدأت بتشكيل هيئاتها، قدّمتْ عامة الأحزاب فيما يخص تمثيل المرأة أسوأ الأمثلة، حيث لم يزد تمثيلها في المجلس الوطني والائتلاف عن 4%، في هيمنة واضحة لقيم المجتمع الذكوري. وفي تشكيلات الثورة في الداخل السوري، قلت نسبة تمثيل المرأة عن ذلك، إذ لم تزد في المجالس المحلية عن 1%، وكانت غير موجودة في كثير من الأحيان، وبلغت 2% في طفرات نادرة. وفي السنوات اللاحقة، حين ضغطت المنظمات الدولية لفرض “كوتا” نسائية، بدأ الذكور المسيطرون العمل على توسعة نسائية لا تخدم المرأة بقدر ما تخدم الإبقاء على توازنات الكتل، مثلما حصل في الائتلاف وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية.

 

4- كيف واجهت المرأة السورية تداعيات الحرب، خاصة على الأسرة والأطفال الذين يمثلون الفئة الأكثر هشاشة؟

ج4- انعكست الحرب على المرأة والطفل بشكل أساسي، وكان النزوح بالملايين داخل سورية، حيث فقدت المرأة محيطَها الاجتماعي، وباتت المسؤولةَ الأولى والمعيلة لعائلتها وأطفالها في ظل التدهور الأمني، وسكنت الخيام والخرائب وعملت في مهن تبدأ من جمع الحشائش حتى جمع أكياس النايلون، بما فيها المهن الشاقة، فتعرضت للاستغلال والتحرّش والعنف بكافة أشكاله وذاقت الخوف والرعب وأنواع الانتهاكات بحقّها وحق أطفالها من النظام والميليشيات الطائفية والجماعات المتطرفة التي استخدمت الانتهاكات ضدها أداةً للحرب وفرض التهجير والتغيير الديموغرافي، حتى أنهن تعرضن للبيع سبايا في الأسواق.

 

5- تتحدث تقارير عديدة عن ظاهرة الزواج المبكر والاستغلال والاغتصاب.. كيف يمكن معالجة هذه الظاهرة الخطيرة؟

ج5- كانت حالات تزويج القاصرات قليلة الحدوث نسبياً قبل الثورة السورية، لكن الوضع تغير بعد بدء العنف الذي فرضه النظام وحلفاؤه، فقد استخدم الانتهاكات بحق المرأة والاغتصاب في المعتقلات وعلى الحواجز التي قطع بها أوصال البلاد، ما دفع الناس إلى مغادرة مناطقهم ليسكنوا البراري والخيام في مخيمات النزوح، وتوقّف التعليم بسبب قصف المدارس وتدميرها بشكل ممنهج. ومع انتشار البطالة والفقر وانعدام الدخل، قبِلت الأسر السورية تزويج بناتها قاصراتٍ بحثاً عن الأمان والتخفيف من عبء الأسرة مأكلاً ومشرباً. وفي مخيمات اللجوء في لبنان والأردن وتركيا والعراق، تعرضت الفتيات القاصرات وأسرهن إلى ضغوط شديدة، حيث استغل الراغبون “القادرون مالياً” عوزَ الأسر للحصول على أطفال بعمر الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، استناداً إلى مزاعم فقهية وتراخي تطبيق القوانين أو الاحتيال عليها استناداً إلى زواج شرعي “كتاب شيخ” غير مسجل. وهكذا نشأت عصابات بكل معنى الكلمة تبدأ بخاطبات أو مخبرات يبحثن عن الأطفال المناسبات لدى الأسر الأشد فقراً في المخيمات مروراً بمكاتب التنسيق لهذه الجرائم في المدن القريبة، وصولاً إلى المستغلِّ الموسر، الذي لا يطول به الأمر حتى يترك الطفلة -الزوجة- مدمرةً على الصعيدين النفسي والجسدي، متزوجةً مطلقةً غير مسجلةٍ وبعضهن حواملَ.

الأمر السيئ الآخر حصل في مناطق النزوح الداخلي في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، حيث استغلت الفتيات الصغيرات خاصة المشردات اللواتي فقدن عائلاتهن تحت تأثير العوز والخوف للعمل في الدعارة. أما الأسوأ، فقد حصل في مناطق سيطرة الجماعات المتشددة التي قدم إليها المقاتلون الوافدون من كل أنحاء الأرض “المهاجرون” بفكر يرى المرأة متاعاً ومتعة وعورة، فتعرضت المرأة لشتى أنواع الانتهاكات، تقييداً وسَجناً في المنازل والملابس، وبات زواج القاصرات اعتيادياً، وقد أجبرت العائلات على القبول بالمقاتلين أزواجاً لطفلاتها ترغيباً وترهيباً، وزوِّجت الطفلة القاصرة مرةً أو مرتين وربّما أكثر وأنجبت بعضهن قبل أن تبلغن الثامنة عشرة من مقاتلين لا يُعرف نسبُهم أو أسماؤهم، بل اكتُفي بألقابهم فقط. وها هن الآن في مخيمات الاعتقال في العراق وشمال سورية، يعشن أسوأ الظروف، وينظر إليهن على أنهن أعباءً أو قنابل موقوتة، ويسمون بـ”الأرامل السوداء”.

 

6- من أعقد المشاكل في سورية، قانون العقوبات وقانون الأحوال الشخصية وقانون الجنسية، ما هي الصورة الحقيقية لوضع المرأة في تلك القوانين؟

ج6- سورية كانت من أوائل الدول عالميا التي أعطت النِّساء حق الانتخاب منذ 1949، ثم منح دستور 1950 النساء المساواة في حق الانتخاب على أساس المواطنة، وبعدها حصلت النساء على حق الترشح للانتخابات أسوة بالرجل. وفي فترة الوحدة بين سورية ومصر، وصلت سيدتان سوريتان إلى البرلمان وكان يدعى” مجلس الأمة” في حينه، إلا أن حق المرأة في الترشُّح أُلْغي في الفترة بعد الانفصال استناداً إلى الدستور، وأُبقي على حقها في الانتخاب. وفيما يخص (منح المرأة الجنسية للأولاد)، فكما جرى خلال مئات السنين الماضية، تمَّ النظر للزوجة والأم على أنها وعاءٌ فقط، وتلك إحدى آفات المجتمعات الذكورية عامة، وهكذا كان الأمر مع الدستور السوري، فقد جاء في المادة الثالثة من المرسوم 276 لعام 1969: “يعتبر عربياً سورياً حكماً من ولد في القطر أو خارجه من والد عربي سوري”. وهكذا، تمنح الجنسية للأولاد دون اعتبار للأم أبداً، فهذا ما جرى منذ الخلافة الأموية حتى اليوم.

 

7- حسب هذا القانون تبقى المرأة مهمشة ومظلومة ومهانة.. هل هناك وعي وإرادة لتنقيحه بما يتماشى مع دورها وكرامتها للمساهمة الفعالة في النهوض بالمجتمع؟

ج7- نعم لا يزال قانون الأحوال الشخصية مجحفاً إلى درجة كبيرة بحق المرأة، حيث يبدو واقع المرأة القانوني انعكاساً لواقعها الاجتماعي في ظل هيمنة الإرث الديني القبلي. وبالرغم من ارتفاع أصوات تطالب بتعديل القوانين الخاصة بالمرأة لتحسين وضعها استنادا للقانون -وبرأيي هذا طرح متأخر اليوم- فإن عديداً من الأصوات تتبنى اليوم إلغاء التمييز على أساس النوع الاجتماعي بشكل كامل، وهذا ما يجب دعمه اليوم بكل الوسائل، للوصول إلى مساواة جندرية كاملة غير منقوصة على أساس المواطنة، مع منح المرأة كل الحقوق التي تختص بها لمراعاة ظروف الحمل والأمومة.

 

8- ذكرت إحصائيات أن نسبة 41% من النساء يبررن العنف ضد المراة في الوطن العربي.. برأيكم ما سبب انتشار ثقافة العنف ضد المرأة في المجتمعات العربية، حتى في أوساط النساء؟ وما هي السبل إلى تغييرها.

ج8- في سياق ما تحدّثنا عنه، يتبدى شبحُ العنف القديم (ضدّ المرأةِ) قدم المجتمع الذكوري، وللأسف الشديد لا تزال مجتمعاتنا العربية تراوح في هذه المنظومات حتى اليوم، ونِسبُ النساء اللاتي تتعرضن للعنف بأشكاله كافة، تزيد كثيراً عن هذا الرقم في كثير من البيئات، حيث تتعرض المرأة للعنف اللفظي والتحكّم بالمصير وغير ذلك. تأثّرت النساء بفعل التهميش لقرون، والحرمان من التعليم وانغلاق المجتمع وسيطرة القيم الدينية والعادات البالية، وفي ظل كل ذلك، تعيش فئة واسعة من النساء هذا الإجحاف كأنه قدَر وإرادة عليا. ولتغيير كل ذلك، لا بد من مشاريع ثورية على المستوى الوطني، تشمل كلَّ الجوانب، تعمل على التوعية والتحريك الاجتماعي وتغيير القوانين، ولابد لأجل لذلك من إرادة دولية تضغط بهذا الاتجاه وتدعم طرح حلول جذرية جريئة، وليست إصلاحية مهادنة.