الهجمات الروسية في منطقة التفاهمات

المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي المرصد السوري لحقوق الإنسان

32

تؤيد مجريات الأسبوعين الأخيرين من العمليات العسكرية الروسية في شمال غربي سوريا، ما ذهب إليه تقرير أصدرته الأمم المتحدة الشهر الماضي للدلالة على خطورة ما يجري هناك من اتهام روسيا بارتكاب جرائم عبر تنفيذ غارات جوية، استهدفت سوريين، في إشارة إلى ما قامت القوات الروسية بين يوليو (تموز) 2019 وبداية يناير (كانون الثاني) 2020 في منطقة إدلب ومحيطها، التي كانت مسرحاً لعملياتها الأخيرة أيضاً.
ويتوافق محتوى العمليات الأخيرة من حيث إيقاع مئات الضحايا بين قتيل وجريح مع محتوى العمليات السابقة. بل إنه متوافق مع محتوى العمليات التي قامت بها القوات الروسية وحدها أو بالتشارك مع حلفاء آخرين في سوريا منذ تدخلها العسكري الواسع قبل خمس سنوات، حيث جعلت من العمليات العسكرية أداتها الرئيسية، ثم الوحيدة لتحقيق هدفها الأول بمنع سقوط نظام، قبل أن تتطور أهدافها وتوسعها لاحقاً، فتجعلها في ثلاثة أهداف أشمل: أولها تمكين الوجود الروسي من السيطرة العسكرية والأمنية، وتصعيداً إلى فرض هيمنتها السياسية الاقتصادية، مما يجعل روسيا الفاعل الرئيس في سوريا، وصاحبة القول الفصل في مختلف شؤون البلاد ومستقبلها. ويتمثل الهدف الثاني في إضعاف -وصولاً إلى تدمير- معارضة نظام الأسد سواء المعارضة المسلحة أو المعارضة السياسية، أياً كانت توجهاتها أو علاقاتها، لأنها جميعاً موصوفة عند الروس بـ«الإرهاب» و«التطرف». والهدف الثالث، أخذ سوريا إلى حل يضمن بقاء النظام، بل ويمكن أن يتضمن أيضاً استمرار بشار الأسد على رأس السلطة، ما دام ذلك ممكناً.

وكما يبدو من الأهداف، فإنها تجعل انحياز روسيا كاملاً إلى جانب النظام ورئيسه، بعد أن منح الروس كل ما يمكن من فرص وامتيازات واتفاقات، صاروا بالاستناد إليها أصحاب القرار والسلطة من دون منازع، مما جعلهم غير راغبين ولا قادرين على تسويق مواقفهم لأي طرف من المعارضة السورية، وكانت تركيا لعبت دوراً هائلاً في إجبار تلك الجماعات على الاقتراب من روسيا والذهاب إلى «آستانة» وإلى «سوتشي» والمشاركة فيهما على أمل تحسين علاقات تركيا وروسيا وتدوير الزوايا في مواقفهما في القضية السورية من جهة، وإحداث خرق في الموقف الروسي المتشدد إلى جانب نظام الأسد ثانياً، وكان الإنجاز الوحيد الذي تم تحقيقه هو إقرار هدنة إدلب وجوارها في مارس (آذار) 2020، والتي تعرضت لانتهاك فاضح في الأسبوعين الأخيرين، حيث قتل وجرح الطيران الروسي في هجماته مئات السوريين، استناداً إلى الحجة المكررة، وهي مكافحة الجماعات الإرهابية.
وإذا كانت العمليات الروسية الأخيرة، استمراراً لنهج ثابت وأساسي وأداة تكاد تكون وحيدة في سياسة موسكو السورية لتحقيق أهدافها، خصوصاً في منطقة الشمال الغربي، التي تشكل حيزاً أخيراً لمعارضي نظام الأسد، فإنها حملت في جانب آخر مهمة ثانية بفعل تزامنها مع الانتخابات الأميركية، والتي استأثرت بكل اهتمام الإدارة، مما سمح لموسكو بالقيام بعمليات يمكن أن تخلق وقائع جديدة في الصراع السوري خارج المتابعة الأميركية المباشرة من جهة، وأن تكون أداة لموسكو في تمرير رسائل إلى الرئيس القادم إلى البيت الأبيض سواء تجديداً في حالة دونالد ترمب الذي خسر الانتخابات، أو للمرشح الذي فاز بالوصول إلى البيت الأبيض جو بايدن، وخلاصة الرسالة أن موسكو حاضرة في سوريا، وهي مستمرة في سياساتها، وتنتظر من واشنطن ملاقاتها في الطريق عندما ترغب في بحث الموضوع السوري والوصول إلى حل يكون متوافقاً مع الرؤية الروسية أو قريباً منها.
غير أن رسائل الهجمات الروسية الأخيرة لم تقتصر على التوجه نحو الولايات المتحدة، بل توجهت أيضاً إلى شريك موسكو التركي وإلى حلفائه من الجماعات السورية المسلحة في إدلب ومحيطها. فكان من مهمة الهجمات إفهام الأتراك بصورة واضحة أن التوافق بينهما في سوريا والهدنة القائمة في إدلب ومحيطها هما جزء من تقارب روسي – تركي، ينبغي أن يتكرس، ويظهر واضحاً في أماكن أخرى، ولا سيما القريبة، ومنها منطقة الصراع الأرميني – الآذري الذي لم يفرق الموقف منه بين الروس والأتراك فقط، بل شجّع الأتراك على دفع مسلحين من حلفائهم في الجماعات السورية المسلحة إلى إرسال عناصرهم للقتال مع الآذريين ضد القوات الأرمينية، ومن هنا يمكن فهم أن هجمات الطائرات الروسية شملت قصف معسكر لـ«فيلق الشام» وثيق الصلة بالأتراك والأقرب إليهم، من دون أن توجه قذيفة واحدة إلى قوات تتبع هيئة تحرير الشام المحسوبة على «القاعدة»، أو جماعات مثل «حراس الدين» المحسوبة على «داعش» أو المقربة منه على الأقل.
خلاصة الأمر، أن موسكو تسعى إلى رؤية تطورات إيجابية في القضية السورية، تخفف من أعبائها، وتفتح الأبواب على واقع جديد، مما يستدعي تحريك الوضع في إدلب ومحيطها من جهة عبر استعمال الهجمات الجوية، ودفع النظام وحلفائه الإيرانيين إلى بعض التحركات الموازية، كأن الحرب في منطقة التفاهمات يمكن أن تقع وتتطور، إضافة إلى مساعي موسكو في تحريض واشنطن، وهي على أعتاب مرحلة جديدة مع رئيس جديد، لتلعب دوراً فعالاً ونشطاً في سوريا، وقد أضافت إلى ما سبق تنبيهات لحليفها التركي لتذكّره بحدود التفاهمات التركية – الروسية، ليس في سوريا فقط، وإنما في الدوائر الأخرى، التي تجمع الطرفين وحلفاءهما.
لقد أكدت موسكو هجماتها العنيفة بوصفها أداتها لتحقيق أهدافها في سوريا وفي شمالها الغربي، وأرسلت رسائلها إلى الأطراف المعنية كلها، أما تفاعلات الآخرين، والرد على الخطوات الروسية، فإنه يحتاج إلى بعض الوقت وكثير من الحسابات، قبل أن يقرر كل طرف ما يمكن القيام به، والأمر في هذا سيشمل الروس أيضاً!

 

 

 

 

الكاتب: فايز سارة- المصدر: الشرق الاوسط