انهيار السلطة الاقتصاديّة للدولة في الشمال السوري

28

أعلنت «المحكمة الشرعية في المناطق المحررة» ومقرها مدينة حلب السورية، قبل أيام، بدء اعتمادها الليرة التركية بدل نظيرتها السورية في تعاملاتها الاقتصادية، خصوصاً في مسألة صرف رواتب موظفيها. وقال رئيس المحكمة الشرعية في حلب وريفها الشيخ عبدالقادر فلاس، أن ذلك كان استجابة من المحكمة لطلبات الموظفين لاستلام رواتبهم بالعملة التركية. وفي خطٍّ موازٍ، أعلنت الإدارة الذاتية الكردية رفع سعر ليتر المازوت بنسبة 50 في المئة، من 30 ليرة (نحو 10 سنتات) إلى 45 ليرة، ما سبّب بعض الإضرابات في صفوف العاملين في قطاع المواصلات في المناطق الخاضعة لسلطة الإدارة.

يشكّل الحدثان المترادفان مؤشّرين إلى انهيار آخر السلطات الرمزية للدولة السورية في شمال البلاد، فالنظام السوري على رغم خروج كثير من تلك المناطق من سيطرته العسكرية والسياسية، كان يحافظ دوماً على نوع من التواصل الاقتصادي الحميم مع تلك المناطق، كإبقاء خطوط التجارة والنقل مفتوحة معها، وإرسال رواتب الموظفين في شكل دوري. وكانت أجهزة النظام تبتغي من وراء ذلك الحفاظ على أكبر مقدار ممكن من الموالين، خصوصاً أفراد الطبقة الريعية البيروقراطية، الذين كانوا يشكلون عصب المنتمين إلى حزب البعث، وكانوا يعتبرون استقرار النظام من استقرارهم الطبقي، لأنهم كانوا يحيون استقراراً اقتصادياً معقولاً نسبياً، مقارنة بتدهور أحوال باقي الطبقات السورية منذ أوائل التسعينات مع إعادة الهيكلة الضخمة التي طاولت كل الاقتصاد السوري.

من جهة أخرى، كان النظام يريد الإيحاء بأنه ما زال وحده يمثل شرعية الدولة في كل المناطق والأقاليم السورية، بما فيها تلك الخارجة عن سيطرته، وأنه يتصرف بروح الدولة ومسؤوليّتها، ولا يُستدرَج إلى ردود أفعال اقتصادية قد تخلّ في صورته كمحتكر لمؤسسات الدولة. فهو كان طوال الأزمة جاهزاً لمحاصرة مناطق وبلدات ومدن بعينها، ودفع المحاصرين إلى الموت جوعاً، لكنه كان شديد الحرص على سلطته الاقتصادية حتى في المناطق التي تخرج عن سيطرته سياسياً وعسكرياً، للقول أن تلك المناطق إنما مُهيمن عليها من قوى عسكرية غير شرعية، وأنه وحده يحمل المسؤولية تجاه السكان في تلك المناطق. ومحور ذلك كله، أن النظام يدرك بعمق أن موقفه هذا سيشكّل دافعاً لكل القوى السياسية الإقليمية والدولية، لاعتباره الممثل الوحيد لـ «الدولة السورية».

كانت بعض القوى السياسية والعسكرية المعارضة، ومعها كثير من القطاعات المجتمعية السورية التي تحيا في تلك المناطق، تبادل النظام المنفعة، فمناطق النظام ومؤسساته المركزية بقيت الأكثر حفاظاً على موضوعية العملية الاقتصادية، خصوصاً في جانبها التبادلي وفي عملية تأمين الطاقة وفي مسألة البُعد القانوني والبيروقراطية للعملية الاقتصادية، وإن في شكل نسبي. وبقيت الواردات المالية من مؤسسات النظام تشكّل أهم مصدر لمعيشة مئات الآلاف من العائلات السورية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، خصوصاً في المناطق الشمالية من البلاد.

الحدثان لا يشيران إلى تعمّق الإحساس بتدهور حال النظام وتراجع سيطرته فحسب، بما بقي منه كمؤسسات وبنى في المناطق التي ما زال يسيطر عليها، بل يشيران أيضاً إلى مدى صعود وتيرة «الجهوية» في مختلف الأقاليم السورية، ومدى قدرة السلطات الحاكمة الفعلية في هذه «الجهويات» على ربط مصيرها وشبكة تفاعلها الحيوية بمؤسسات غير تابعة للدولة السورية، وإن من خارج حدود الكيان السوري.

سيشكل التعامل بغير العملة الرسمية السورية في مناطق تشكل نحو خُمس مساحة البلاد وقواه البشرية والاقتصادية، مصدر ضغط كبير على الاقتصاد السوري بكله، وسيدفع إلى خلق مزيد من التضخم في كل المناطق السورية، خصوصاً تلك التي ما زالت تحت سيطرة النظام عسكرياً وسياسياً. وسيشكل استغلال الإدارة الكردية 30 – 40 ألف برميل نفط مستخرجة من آبار منطقة رميلان من دون أي تنسيق مع النظام السوري، مصدر دخل لمؤسسات هذه الإدارة «الجهوية». لكن كلا الفعلين سيترك المنطقتين المعنيتين خارج أي حماية اقتصادية كانت متوافرة بالحد الأدنى عندما كان التداول والتواصل الاقتصادي مع المؤسسات الرسمية – المركزية للدولة السورية مستمرّين.

رستم محمود

المصدر : الحياة