تحديات الــشَمال الســـوري بعد داعِش

36

بعد عِدّة أعوام من الحرب على أخطر التنظيمات الإرهابية التي وضعت بالفعل بُقعة كبيرة من الشرق الأوسط –تكاد تصل إلى حجم بريطانيا- بين فكيّها، أنهت قِوّات ســوريا الديقراطية التواجد العسكري لتنظيم “داعش” عندما أعلنت الانتصار عليه في الثالث والعشرين من شهر مارس/اّذار المُنصرم عقب انتهاء معارك “الباغوز”، منهية بذلك فترة من الظلام الذي حلّ على مساحة كبيرة من الأراضي السوريّة، تعرّض فيها أبناء المنطقة لأقسى الممارسات الوحشيّة على الإطلاق.

لقد أدّت الحرب على الإرهاب في شِمال وشرق سوريا، والتي بدأت انطلاقاً مِن “كوباني” نهاية 2014 عقب شنّ التنظيم هجمات يمكن وصفِها بالأعنف على المدينة، إلىتدمير البنى التحتيّة لِلعديد من المدن والبلدات، بالإضافة إلى استشهاد ما يُقرب من 11 ألفاً من قوّات سوريا الديمقراطيّة.

جاء ظهور تنظيم ما يُسمى بِـ”الدولة الإسلاميّة في العراق والشام”، المعروف إعلاميّا بـ”داعش”، بعد بدء “ثورات الربيع العربي” بأعوام قليلة، في حين كانت أغلب بُلدان الشرق الأوسط مُنشغلة بسياستها الداخلية، وسط مساعي من الأنظمة الحاكمة فيها إلى إبقاء هيمنتها المطلقة سياسيّاً وعسكريّاً على حِساب شعوبها، حيث ساعدت الحالة الأمنية المنفلتة في تلك البلدان على تفكّك التنظميات الإسلاموية التقليديّة، أو انقلابها على بعضها البعض، إلى جانب هشاشة السياسية الأوربية في التعامل مع المجموعات المتطرّفة في الشرق الأوسط. كلّ  تلك الظروف هيّأت المناخ المُناسب لتشكيل “داعش”، والذي استغلّ هِذه الفُرصة، إلى جانب تفاقم الأزمة الدبلوماسية في المنطقة، لِبسط سيطرته عل ىعدّة مدن سوريّة وعراقيّة، بالإضافة إلى تنفيذ عمليّات إرهابيّة في دول عربيّة وأوروبيّة عدة.

لقد تم الإعلان عن الانتصار على تنظيم “داعش” عسكريا، إلا أن ذلك لا يعني أنه تم القضاء على التنظيم كليا، بشكل أو بآخر، و بالتالي فإن نهاية معركة دحر الإرهاب هي بِذاتها بِداية لمعركة طويلة الآمد . كما أن الإعلان عن الانتصار على “داعش”، لا يعني أنه لم يعد يشكل خطراعلى الشمال السوري والعالم بالعموم، وبالتالي، فإن الحرب الإيديولوجية على التنظيم هي مهمة أصعب بكثير من الحرب العسكرية، لأن الفكر المتطرف الذي نشره “داعش” لا يزال يمثل تحديا أمام أمن الشرق الأوسط، ولا يزال منأصعب التحديات التي تواجه عملية تحقيق الاستقرار في المنطقة.

إستهداف تنظيم داعِش الإرهابي دورية للتحالف الدولي في هجوم إنتحاري شرقي الفُرات في سوريا في 11 أبريل/نيسان 2019 بالإضافة إلى التفجيرات الإنتحارية المتتابِعة في سيناء “مصر” و كابول الأفغانية وكذِلك محاولات أخرى في دول مختلفة، تــؤكد على إن التنظيم الإرهابي نجح في نشر فكره ، وهو ما يعني أن المنطقة –وسوريا تحديدا- أمام تحدٍ جديد يتمثل في مواجهة الفكر المتطرف للتنظيم الإرهابي، وإعادة تأهيل عناصر التنظيم وعوائلهم الذي تفوقت أعدادهم عشرات الألاف عربي وأجنبي.

بالنِسبة لمناطق شمال وشرق سوريا، فإن تلك المنطقة لاتزال أمامها جملة من التحدّيات يمكن توصيفها على الشكل التالي:

أولّاً: مواجهة الفكر المتطرّف لـ”داعش”

انتهى وجود “داعش” عسكريّاً، لكن هناك خلايا نائمة يجب أخذ كافة التدابير لمنعها من تنفيذ عمليّات إرهابيّة، علاوة على فكره المتطرّف المنتشر والقادر على تأسيس بؤر خطيرة في مناطق عدّة. إذاً، نحن أمام حرب إيديولوجيّة فكريّة طويلة الأمد ضِد “داعش” و غيرها من التنظيمات الإرهابيّة، وهذا ما لا يمكن تحقيقه في الوقت الراهن دون تعاون دولي مشترك، خاصّةً أن الازمة السوريّة تحوّلت من داخلية إلى دوليّة، وبات وضع العالم الخارجيأيضاً مرهونا بما تشهده وقائع الاحداث والتطوّرات علىالأرض في هذه البقعة من جغرافيا الشرق الأوسط.

وبالتبعية، فإن مواجهة الفكر المتطرف لـ”داعش” تتطلب إعادة تأهيل من تم احتجازهم في المخيمات من أسر وعوائل التنظيم الإرهابي، فمثلا، يؤكد المحللون والمراقبون أن مخيم “الهول” الذي يضم ما يزيد على 70 ألف منزوجات وأطفال مقاتلي التنظيم الإرهابي، تحول إلى “قنبلة موقوتة” قد تنفجر في أي لحظة، لأن المخيم ليس لديه الإمكانيات الكافية لتوفير الظروف الإنسانية الملائمة للحياة،وفي نفس الوقت ليس لديه الإمكانات المطلوبة لإعادة تأهيل هؤلاء الذين يعيشون بداخله، خصوصا أن بعض النساءاللاتي يعشن في هذا المخيم، يحملن أفكارً أكثر تطرفا من الأفكار التي يحملها مقاتلو “داعش”، وهو ما يعني أنأولئك النساء سينقلون أفكارهن المتطرفة إلى أطفالهن، وبالتالي سينشئ جيل جديد أشد فتكا وخطورة، ما ينذربتجدد موجة الإرهاب على نطاق أكثر حدة مما شهدناه في السنوات الماضية.

من بين القضايا الملحة التي تستوجب حلا فوريا، قضية الدواعش الأجانب الذين ترفض دولهم استعادتهم حتى الآن، خصوصا في ظل حالة الازدواجية التي تسيطر على بعض الدول –وعلى رأسها الولايات المتحدة- في تلك القضية بالتحديد، ففي الوقت الذي تدعو فيه “واشنطن” دول العالم إلى استعادة مقاتليها الذين يحملون جنسياتها، فإنها ترفض استعادة الدواعش الذين يحملون الجنسية الأمريكية. أيا ما كانت الأفكار المطروحة حاليا لحل الأزمة، فإن الوضع يستلزم إيجاد حل توافقي تشارك فيه دول العالم المسؤولية لمحاكمة هؤلاء الدواعش الأجانب ومحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها، سواء كان الأمر سيتم في دولهم أو عبر إنشاء محاكم دولية في سوريا، أوبأي طريقة كانت، ما دامت ستؤدي في نهاية المطاف إلى محاسبة هؤلاء المجرمين، وفي الوقت نفسه احتواء خطرهم ومنع أي احتمال لهروبهم في ظل عدم توافر الإمكانات المطلوبة لدى قوات سوريا الديمقراطية في شمال سوريا.

ثانياُ: إعادة إعمار المناطِق المحرّرة من تنظيم داعِش

كما ذكرنا، فإنّ الحرب على الإرهاب أدّت إلى تدمير البنية التحتيّة للمناطق التي خضعت لسيطرة “داعش” فيماسبق، وإعادة إعمار هذه المناطق واجب على العالم أجمع وخطوة ضروريّة لإعادة الحياة إلى تلك المدن، إلى جانب تأمين الاستقرار فيها، وهذا الأمر يشكلّ نقطة هامّة في المضيّ قدماً نحو نحو حلّ الازمة الســـورية قريباً.

حقيقيةً ليس هناك تقديرات فعلية حقيقية لتكلفة إعادة إعمار المناطِق في شمال وشرق سوريا ولكن بحسب التقديرات العالمية، فإن تكلفة إعادة الإعمار في سوريا بشكل عام،تبلغ حوالي نصف تريليون دولار أي ما يقرب من 500 مليار دولار، وهو ما يعني بالتبعية أن إعادة إعمار شمال سوريا سيتكلف عشرات –إن لم نقل مئات- المليارات، وهذهِ مبالغ طائِلة لايمكننا تحملها لوحدنا خاصةً في الوقت الذي نسعى فيه لإعانة مئات الالاف من أهالي عفرين الفارين من بطِش الحكومة التركية و المجاميع المُسلحة و الموجودة الأن في مناطق الشهباء شمال مدينة حلب ولذِلك فإن التحالف الدولي ضِد داعش مُطالب بالمُشاركة بفعلية في في إعادة الإعمار وتوفير الموارد اللازمة، خصوصا وأن التأسيس لظروف إنسانية صحية يعيش فيها الإنسان في تلك المنطقة، سينعكس بالإيجاب على عملية إعادة تأهيل منيحملون أفكار الدواعش في عقولهم، وبالتالي تخفيف وطأة الموجة الثانية من الإرهاب، إن لم يكن منعها من الأساس.

ثالِثاً: التهديدات التركيّة 

لا يُمكن الحديث عن أمن أو استقرار أو أيّ  حلّ للأزمة الســـورية باستمرار تهديدات الدولة التركيّة لمناطق شمال وشرق سوريا، ولا يمكن تجاهل هذه التهديدات كما حدث أثناء شنّ تركيا هجماتها الوحشية على منطقة”عفرين”، ومن ثمّ احتلالها. لذِلك، يجب أخذ عواقب أيّ  هجوم تركيّ على مناطق شرق الفرات بعين الاعتبار،لأنها ستؤدّي إلى زعزعة استقرار المنطقة بِشكل عام وسيكون لها عواقب لا يمكن وصفِها إلّا بالوخيمة. لا شك أن أيّ هجوم من هذا النوع سيضع المنطقة امام حرب طويلة الاَمد. هذا من جِهة، ومن جهِة أخرى، ستمنح مثل هذه الأوضاع -إن حدثت- الفُرصة لتنظيم “داعش” الإرهابي والتنظيمات الإرهابية الأخرى، لإعادة بلورة نفسها من جديد، في ظلّ  تواجد الالاف من عناصر داعش وعوائهم من السوريين والأوروببين في مناطق شمال سوريا، وهذا يعني أنّ أيّ خلل أمنيّ في المنطقة سيعيد السيناريوهات السابقة، وسيضع أوروبا أيضاً في مواجهة الإرهاب وجهاً لوجه على أراضيها بِشكل مُباشر.

بإختصار فإن الإتحاد الأوربي و الولايات المُتحدة تحديداً مطالبين بالإنحراط بِشكل أكبر بِهذا المـلف لِايقاف هذِه التهديدات والعمل على درء أي محاولة تركية لاستهداف أمن واستقرار شمال سوريا. وسيكون على الولايات المتحدة أنتضع حدا للغطرسة التركية، وتهديدات الرئيس التركي رجبطيب أردوغان بشن هجوم على المنطقة، خصوصا بعد أنتحول الأمر إلى عملية ابتزاز ممنهجة ينفذها “أردوغان” بهدف ابتزاز الغرب والولايات المتحدة للحصول على ضوءأخضر لتنفيذ أهدافه هناك، وفي نفس الوقت الانصياع إلىرغباته في شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية المتطورةS-400 رغم اعتراضات حلفائه في حلف شمال الأطلسي (ناتو).

ومن بين القضايا الأخرى التي لا يمكن فصلها عن هذه المسألة، قضية التواطؤ التركي مع تنظيم “داعش” الإرهابيعلى مدار السنوات الماضية، وهو ما ظهر جليا في اعترافات ما اصطُلح إعلاميا على تسميته بـ”سفير داعشفي تركيا”، والذي أدلى باعترافات أنه كان مسؤولا عن التنسيق مع الجانب التركي لتمرير المقاتلين والأسلحةوالتمويل إلى التنظيم الإرهابي، إضافة إلى ما كشفت عنهتحقيقات النيابة التركية عن تواطؤ الاستخبارات التركية فيغض البصر عن نقل أسلحة ومقاتلي “داعش” عبر تركياإلى سوريا، وهو ما أمر يجب تحميل تركيا المسؤولية فيهومحاسبتها عليه.

رابِعاً: الســعي نحو حلّ الازمة الســورية

لا يمكن الحديث عن استقرار دائم في سوريا دون التوافقعلى شكل سوريا المُستقبلية وفقاً لما يتطلّبه الواقع على الأرض، إذ لطالما فشلت كلّ الجهود الدوليّة لإيجاد مخرج للأزمة السوريّة، بسبب غياب ممثّلين حقيقيّن  للشعب فيجميع المحادثات والمفاوضات التي أجريت لهذا الغرض. إذاً، لا حلّ إلّا بعقد حوار سوريّ-سوري بامتياز، يمكن من خلاِله الخروج بقرارات ترضي جميع المكوّنات، وهذا يعدأحد أكبر الأولويّات، ومن ثمّ التحدّيات لمناطق شمال وشرق سوريا، خاصّةً فيما يتعلّق بالمفاوضات مع النِظام الســوري التي توقّفت نتيجة قرار روسيّ مباشر، كان للتقارب بين “موسكو” و”أنقرة” دور كبير فيه. بالرِغم من شفافيّة موقفِناتجاه المفاوضات مع النظام، لكنّه لا يزال يتعامل مع الأوضاع بعقليّته القديمة، ولا يزال يتحيّن الفرص لفرض شروطه التعجيزيّة على الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.

هذه المفاوضات التي بدأت في صيف العام الماضي لمتحظ بأي تقدم يذكر، وذلك بسبب تشبث النظام بعقليّته وسياسيته المركزيّة والتي أودت بالِبلاد إلى ما نحن عليه الآن. النِظام الســوري الآن أمام خيار وحيد، إن كان جاداً في حقيقة نيّته لحلّ الأزمة الســورية، ألا وهو قبو ل النِقاط العشر التي قدّمناها له من خِلال الروس والتي تضمن لا مركزيّة سوريا وحقوق كافة المكوّنات.. على آمل ألّا  يضيّع هذا الخيار ويغدو الوضع قاتماً أكثر مما هو عليه.

وعلى المستوى الدولي,سيكون على الأطراف الدولية المختلفة و على رأسها الولايات المتحدة و روسيا التوصل إلى نـوع من التوافق فيما يخص النِظام الســوري و شكل الإدارة المستقبلية و لربُما العمل لِدعم مفاوضات سورية-سورية جادة تصل في نهاية المطاف إلى حل يرضي جميع الأطراف وينهي الأزمة السورية الدائرة منذ 8 أعوام, ويمكن تحقيق هذِه المفاوضات على الأراضي المُحررة من داعِش.

إبراهيم مراد
المصدر: إيلاف

الآراء المنشورة في هذه المادة تعبر عن راي صاحبها ، و لاتعبر بالضرورة عن رأي المرصد.