تحديثات على الاستراتيجية الأمريكية المقبلة في المنطقة

المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي المرصد السوري لحقوق الإنسان

33

توفي وليد المعلم وزير خارجية النظام السوري في 16/11/2020 الماضي، أي مع ذكرى انقلاب الأسد الأب واستلامه وأسرته السلطة في عام 1970، لسخرية القدر. وكان قد أعاد قبل ذلك بأربعة شهور مقولته حول نسيان «أن أوروبا على خريطة العالم» التي كان قد قالها بعد ثلاثة أشهر وحسب من اندلاع الثورة السورية وحراكها الكبير.. هذه مجرّد مقدمة، لما سيأتي هنا من مراجعة للسياسة الأمريكية، التي يمكن – يمكن وحسب- أن نتلمّس في هامشها بعض النسيان «لكون سوريا على الخريطة» في المنطقة التي جاءت بمراجعة استراتيجية جذرية.. مع أن هذا بذاته ليس موضوع المقالة هنا.
فقد صدر منذ أيام تقرير مهم عن مؤسسة راند، مركز الأبحاث الأمريكي الذي يزوّد الحكومة الأمريكية ومؤسساتها بمؤشرات ودراسات استراتيجية تخصّ الأمن والدفاع، تساعد صنّاع القرار على اتّخاذ قراراتهم، وكان تحت عنوان رئيسي «إعادة تصوّر الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط: شراكات مستدامة، استثمارات استراتيجية». ويبدو أن التقرير المهم، تمّ تجهيزه بتعاون عدد من كبار الباحثين الاختصاصيين، لمساعدة الإدارة الجديدة على تشكيل رؤية لسياساتها في المنطقة، من خارج الصندوق المعتاد حتى الآن، الذي يبدو جليّاً أنه قد بلي واهترأ.. وفي ما يلي عرض لأهمّ ما ورد فيه.
يقوم البحث بتحليل حاجة الولايات المتحدة إلى تعديل أدواتها سياسياً وأمنياً واقتصادياً ودبلوماسيا ومعلوماتياً؛ باتجاه معالجة أكثر فعاليةً للتحديات الإقليمية، بطرق تراعي الموارد الأمريكية وحدودها. وحين تؤخذ الجائحة بالاعتبار، مع تغيّر المناخ، وخلل أسواق النفط، بالاشتراك مع أزمات المنطقة العديدة وفشل حكوماتها في مواجهتها؛ فإن استراتيجية الولايات المتحدة لا يمكن تركيزها على مستوى الدول أو القيادات، بإهمال مستوى الحاجات الاجتماعية لشعوب المنطقة. ومن ثمّ أيضاً، فإن الولايات المتحدة لا تستطيع متابعة المشاكل الإقليمية وحدها.

استراتيجية الولايات المتحدة لا يمكن تركيزها على مستوى الدول أو القيادات، بإهمال مستوى الحاجات الاجتماعية لشعوب المنطقة

وتأخذ إعادة تقييم سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هذه الاعتبارات بجدية، بحيث يؤدّي ذلك إلى اختبار حازم للكيفية التي نتعامل بها مع الشركاء والخصوم، في المنطقة وخارجها؛ وكذلك مع الأدوات المؤثّرة في السياسة، حتّى نتقدّم نحو تحقيق أهدافنا الاستراتيجية لمصلحة الولايات المتحدة والمنطقة» كما ورد في مقدمة التقرير.
إذا كان من الصحيح تلخيص محتوى التغيير الاستراتيجي، الذي يتبناه التقرير، فيمكن القول إن جوهره قائم على مبدأ الانتقال من التركيز على التهديدات إلى المنافع؛ أي الانتقال من أن يقال: نحن هناك لمواجهة كذا وكذا، إلى القول: نحن هناك لنحقق كذا وكذا.. تلك التهديدات كانت قديماً قائمة على الاتحاد السوفييتي وأي أخطار تتعلّق بأمن إسرائيل وحركة النفط، وهي حالياً تركّز على «داعش» وإيران، إضافةً إلى أمن إسرائيل. بذلك يتحوّل الهدف الاستراتيجي في المنطقة لينطلق من تفهّم أكبر لاستقرار المنطقة، ويعطي الأولوية لتقليص النزاعات، والحكومات الأكثر رشداً والتنمية. بذلك تكون المسألة – كما يطرح البحث – ليست في البقاء في المنطقة أو الخروج منها، بل في «كيف» يمكن التعامل معها والانخراط في قضاياها، وما هي الأهداف الواقعية التي يمكن أن تساعد على بناء سياسات أكثر واقعية، لأنه؛ على الرغم من تعب الأمريكيين ومللهم من الشرق الأوسط بعد عقود من الحروب؛ فإن الولايات المتحدة تحتاج إلى الاستمرار في الانخراط هناك، حيث تؤذي تلك النزاعات، وحالة عدم الاستقرار، الأمريكيين وحلفاءهم مباشرة، لذلك يقوم البحث باستخدام تعبير «التهديدوية» كثيراً، وهي العقلية التي يوصي بالتخلّي عنها، وينتقل منها إلى انتقاد السياسات السارية حتى الآن في العلاقة مع الشركاء الإقليميين، وإدارة تهديدات الخصوم، وتحديد دور المنافسين الدوليين (الصين وروسيا) وكذلك في الأدوات المستخدمة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية، التي تحتلّ القوة العسكرية منزلة مهمة فيها.
في العلاقة مع الشركاء، يرى التقرير إن جزءاً كبيراً من المساعدات الأمريكية مبنيٌّ على إرث التفكير بحاجة هؤلاء الشركاء إلى حوافز مالية، حتى يكون لهم دور إيجابي أو غير متعارض على الأقل مع أمن إسرائيل. ولا يترافق مع ذلك التوجّه إلّا القليل من الاهتمام بالاستثمارات غير الأمنية، كالحوكمة المتطورة التي تستطيع دعم الاستقرار الإقليمي بطريقة أكثر نجاعة ودواماً.
كذلك فيما يخص محاولات تقليص التهديد الإيراني، ربّما يكون من المفيد – كما يرى الباحثون في توصياتهم – الانتقال من الانشغال بتغيير النظام إلى تعزيز قوة ومناعة دول المنطقة، أو تقليص هشاشتها أمام النفوذ والفعل الإيراني التخريبي. والمنطق الذي ينطلق منه هذا الطرح هو أن إحباط النفوذ الإيراني مسألة انخراط في لعبة طويلة الأمد. وعلى المنطق نفسه، تطرح الدراسة أن مواجهة «داعش» في العراق، تتطلّب الإصلاح الحكومي، وتعزيز الشرعية والقوى الأمنية التي تضمن للدولة هيبتها العملية. في حين، لا ترى أساساً لمنع عودة «داعش» في سوريا، إلّا في استقرار المنطقة الشرقية، بالبناء على مقوماتها وقواها الحالية ذاتها التي أثبتت فعاليتها حتى الآن.
بالنسبة لروسيا والصين، التي تتركّز مصالح أولاهما بالأمن والسلاح، وثانيتهما بالتبادل والاستثمار، واستقرار تدفق النفط وسعره، أو الاقتصاد عموماً؛ ويمكن هنا إطفاء حالة التهاب التنافس، بإجراء تقاطع للأهداف، وإعطاء فرصة أكبر للتعاون والانفتاح، في مجالات لا تنتهك المصالح الأمريكية. أمّا مسألة أدوات دعم السياسات وتحقيق الأهداف، فهي حتى الآن مرتكزة بقوة إلى الجانب العسكري المباشر، بحيث زادت المساعدات العسكرية كثيراً عن الاقتصادية (ستة مليارات دولار لإسرائيل ومصر والأردن في العام، بحيث تزيد عن نصف ما تنفقه الولايات المتحدة دولياً لهذا الهدف) وهذا لا بدّ من معالجته في السياسات المستهدفة الآن. ينتهي التقرير إلى توصيات استراتيجية للإدارة الأمريكية وللولايات المتحدة عموماً، تقوم على الانزياح من العسكري إلى الاقتصادي – السياسي، بالاشتراك مع الحوكمة والدبلوماسية. وفي ذلك – جزئياً- اشتقاق من الاستراتيجية الصينية، التي أثبتت نجاحها حتى الآن. تبني تلك الاستراتيجية على تأسيس مبادرات واستثمارات إقليمية، تنطلق من أفق أكثر بعداً وانفتاحاً، لتخفيض النزاعات، ودعم التنمية الإقليمية بكلّ جوانبها، وتقديم مسائل الحوكمة ودعم المجتمع المدني وحقوق الإنسان؛ حتى لو كان ذلك على حساب المخاطر القريبة المدى.
– العمل مع شركاء دوليين- وأحياناً منافسين دوليين- لمقاربة التحديات العامة، كخفض حدة النزاع بين دول الخليج وإيران مثلاً، الأمر الذي يتطلّب انزياحاً في منظومة التخطيط والممارسة من العسكري إلى السياسي أيضاً. تسمّي مجموعة الباحثين الخيارات المطروحة بأنها قائمة على «شراكات مستدامة، استثمارات استراتيجية» وأعتقد أنها ستكون من أهمّ ما تستند إليه الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، خلال المدى المنظور على الأقل، جزئياً أو كلياً.
في هذا الموجز، بقيت ملاحظة واحدة لا بدّ لكاتب سوري من ملاحظتها، وهي غياب بلده بشكل واضح من هذا البحث، رغم تسجيل لوجود كلّ عناصر ومسائل الشرق الأوسط وقضاياه. وربّما ينسجم ذلك مع توجّه الإدارة الأمريكية إلى تجميد القضية السورية حتى تنتهي مفاعيل الوجود الروسي، ويستنفد طاقاته، أو لأن هذا البلد بعد كلّ مآلاته أصبح أبعد بكثير عن أيّ بحث في حقل الشراكات والمصالح والاستثمارات، ومن ثمّ حقل الاستراتيجيات. وإذا أضفنا ذلك إلى تصريحات أوروبية عن تراجع القضية السورية، وتضاؤل الاهتمام بها، يمكن لنا أن نفهم ملاحظة «ثعلب» دبلوماسية النظام السوري المتوفّى حديثاِ منذ البدايات عن «محو أوروبا من الخريطة» من خلال ما قام به النظام فعلياً، وشغله الحثيث على «محو سوريا من الخريطة».. على شكلها الحالي، وفي المدى المنظور على الأقل.

الكاتب: موفق نيربية – المصدر: القدس العربي