تركيا ما بعد الانقلاب والاستدارة جنوبا

15

لم يتوقع أحد أن تركيا أردوغان ما بعد الانقلاب العسكري، ستغير استراتيجيتها في سوريا بهذه السرعة. فبعد فشل انقلاب ليلة 15 تموز مباشرة، وفيما كان الجميع يتوقع انشغال طويل لتركيا بالوضع الداخلي لمرحلة ما بعد الانقلاب، تحديدا في إطار تصفية «الدولة الموازية» المفترضة التي اقامها فتح الله غولن، أو بإعادة هيكلة الجيش التركي بما يضمن عدم تكرار أي سيناريو انقلابي آخر، أو انشغالها في الاقل بمجمل العلاقات الدولية، بعد اتهام تركيا الصريح لدول حليفة تاريخيا، وأعضاء في الحلف الاطلسي، بدعم الانقلاب، أو على الأقل الترحيب الضمني به.
فبعد أقل من اسبوعين على الانقلاب، وحملة التصفية الهستيرية التي قادها أردوغان ضد مدنيين وعسكريين، تم الاعلان عن زيارة مرتقبة لأردوغان إلى موسكو! وهي الزيارة التي تحققت في يوم 9 آب/ أغسطس، والتي تمت بعد «الاعتذار» رسميا عن حادثة إسقاط الطائرة الروسية في الأجواء التركية! وبدا واضحا من التصريحات المتبادلة، روسيا وتركيا، ان ثمة «صفقة» تتعلق بسوريا. وقد جاءت الأحداث السريعة اللاحقة لتضع الجميع امام واقع جديد، فالتصريحات التركية المتواترة بدأت تكشف عن تغيير صريح في الموقف التركي من الازمة السورية ككل، ومن نظام بشار الأسد بشكل خاص. فوزير الدفاع التركي فكري ايشيق تحدث بعد ثلاثة أيام من الزيارة أن كلا من تركيا وروسيا قد «اتخذتا» قرارا فيما يخص سوريا، ونقف بعدها بثلاثة أيام أخرى على تحول جذري في الموقف التركي إزاء الرئيس السوري، فبعد ان كان وجوده يشكل على مدى خمس سنوات عقبة أمام أي حل فيما مضى، ورحيله هو مفتاح الحل، تحدث رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم عن القبول ضمنيا ببقاء الأسد على المدى القصير، وربما المتوسط! عندما قال ان الأسد لن يكون موجودا «على المدى الطويل»، مع تأكيده على الاقتراب من حل الازمة السورية. ليتحول هذا القبول الضمني إلى قبول صريح حين وصف يلدريم في 20/ 8 الرئيس الأسد بانه «أحد اللاعبين» في سوريا، وانه يمكن ان يبقى خلال المرحلة الانتقالية! ثم جاء تصريح رئيس الوزراء التركي اكثر وضوحا في كلمة متلفزة في الثاني من أيلول/ سبتمبر بأن تركيا تريد «تطبيع العلاقات مع سوريا» بعد المصالحة مع روسيا واسرائيل!
وقد جاءت المواقف الاقليمية والدولية مؤكدة لوجود هذه الصفقة! فالسوريون المحرجون من الصفقة أدانوا العملية واعتبروها «خرقا سافرا للسيادة»! ولكنهم على الرغم من ذلك تحدثوا عن أن محاربة الإرهاب يتطلب «التنسيق مع الحكومة السورية والجيش العربي السوري»! بما يعني ضمنيا القبول بالتدخل التركي لمحاربة الإرهاب في داخل سوريا شرط التنسيق المسبق!
ايرانيا كرر المتحدث باسم الخارجية الايرانية الموقف السوري بالقول إن مواجهة الإرهاب لا يمكن أن تكون إلا بموافقة النظام السوري، ولكنه أكد أيضا على أن موضوع سوريا يمكن أن يكون ملف بحث بين تركيا وسوريا. ولم يكن هذان الموقفان بعيدين عن الموقف الروسي المعلن عن اهمية جهود محاربة الارهاب على الحدود التركية السورية، ولكن «فعالية» هذه الجهود مرتبطة بـ «التنسيق مع دمشق»!
أمريكيا، وعلى الرغم من الانزعاج الامريكي المعلن من استهداف الجيش التركي لقوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيا، إلا أن الولايات المتحدة كانت بحاجة، هي الاخرى، لإعادة ترتيب علاقاتها مع تركيا ما بعد الانقلاب، وتركيا ما بعد الغزل الروسي، خاصة وأنها ترى ان كسب الأتراك في الحرب ضد تنظيم الدولة أفضل من الناحية الاستراتيجية من الاعتماد على قوات كردية لها طموحاتها وأطماعها الخاصة والتي تثير الحساسيات المحلية أكثر مما تدعم استقرارا في مرحلة ما بعد داعش.
بموازاة هذا التسارع في تغيير المواقف من الأزمة السورية، حدث تطور ميداني آخر، تمثل في التدخل التركي العسكري المباشر لأول مرة في الصراع السوري. ففي الرابع والعشرين من آب/ أغسطس أعلنت تركيا عن بدء عملية «درع الفرات»، عندما عبرت الدبابات السورية الحدود التركية السورية باتجاه جرابلس، برفقة قوات من الجيش الحر السوري الحليف لتركيا. وعلى الرغم ن ان تركيا لم تعلن بشكل واضح الهدف النهائي لهذه العملية، وإذا ما كانت ستقتصر على الهدفين المعلنين: ضرب آخر معقل لداعش قرب الحدود التركية من جهة، وإبعاد القوات الكردية المدعومة أمريكيا إلى شرق نهر الفرات. أم ان العملية يمكن أن تتطور، لاسيما بعد تصريح أردوغان، نشر يوم أمس، بأن تركيا مستعدة للعمل مع واشنطن لإخراج تنظيم الدولة من معقله الرئيس في الرقة، مما يعني استعداد تركيا للتوغل لمسافة أكثر من 130 كيلو مترا في الداخل السوري وصولا إلى الرقة!
لقد ظل الموقف التركي، تحديدا فيما يتعلق بتنظيم الدولة، والقوات الكردية، يثير الكثير من الالتباس خلال السنوات الماضية. فعلى الرغم من الموقف التركي المعلن تجاه تنظيم الدولة، إلا أن التنظيم أفاد كثيرا من غض تركيا الطرف عن انتقال العدد الأكبر من المقاتلين الاجانب من خلال اراضيها للانضمام إلى التنظيمات العسكرية المقاتلة في سوريا. كما أن الموقف التركي المعلن والذي يرفض تحرك بعض التنظيمات الكردية التي يصفها بالإرهابية، مثل حزب الاتحاد الديمقراطي (بي واي دي) المرتبط ايديولوجيا بحزب العمال الكردستاني، وبالتالي من قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكيا، والمُشكّلة بالأساس من حزب الاتحاد الديمقراطي، وقوات حماية الشعب (واي بي جي)، وقوات حماية المرأة، وهذه المجموعات الثلاث ترتبط بحزب العمال الكردستاني (بي كي كي)، مع بعض القوات المحلية العربية والمسيحية التي تشكل مجرد غطاء سياسي لتسويق فكرة أن هذه القوات «الديمقراطية» ممثلة للجميع ولا تمثل التوجهات الكردية! هذا الموقف التركي المعلن يتناقض مع صمت تركيا عن تنامي قوة هذه التنظيمات الكردية، بل انها سمحت بنقل أسلحة وذخائر إلى هذه القوات عندما كانت تقاتل في عين العرب/ كوباني، كما سمحت بانتقال قوات من البيشمركة الكردية العراقية للقتال هناك عبر الأراضي التركية! وصمتت ايضا أشهرا بعد انتقال قوات سوريا الديمقراطية بدعم جوي أمريكي عبر جسر قرقوزاق وسد تشرين إلى شرق نهر الفرات في نهاية مايو/ أيار الماضي، وظل الموقف التركي الصامت في معركة منبج الواقعة غرب نهر الفرات.
من جهة ثانية فان الحديث عن خط احمر مفترض يتمثل بنهر الفرات يبدو غير مفهوم تماما، فالمسافة التي تسيطر عليها القوات الكردية شرق الفرات تمتد بمحاذاة الحدود التركية الجنوبية لأكثر من 380 كم. وهي مسافة أكثر من كافية لإعلان كيان كردي حتى وإن لم تكن هذه القوات قادرة على الوصول إلى عفرين لتحقيق حلم إقليم روجآفا المفترض!
الاستدارة التركية جنوبا، والصفقة مع روسيا، والقبول الضمني الإقليمي والدولي، كل ذلك سوف يدخل تركيا للمرة الأولى طرفا في الصراع السوري، بعد أن حاولت في الماضي أن تكون مظلة للمعارضات السورية المختلفة. وهذا يعني أنها ستضطر إلى الاعتماد على حلفاء، ومحاربة خصوم، خاصة وان الساحة السورية مليئة بالفاعلين الخارجيين الذين يمكن أن يعترضوا على الصفقة ومخرجاتها. فإذا ما استطاعت تركيا تحقيق اهدافها في جرابلس، او منبج، فلا ضمانة انها قادرة على تحقيق اهدافها في حلب وحماه، حيث المواجهة الرئيسية اليوم، في ظل وجود قوات غير حليفة لتركيا فيهما. أما الحديث عن الاندفاع نحو الرقة، أي شرق الفرات، حيث الوجود الحقيقي للتنظيمات الكردية التي تصنفها تركيا «إرهابيه»، شمالا وشرقا، في ظل هذه الصفقة المنقوصة، فيبدو حديثا مبكرا جدا.

يحيى الكبيسي

المصدر: القدس العربي