تركيا وثمن الاعتذار لروسيا

35
إحدى عِبَر الحرب السورية أنه في زمن الانسحاب الأميركي من المنطقة، فإنّ من يتجرأ، ويتخذ الخطوة الأولى لملء الفراغ، يكسب المعركة، وعلى الأرجح الحرب. هكذا فعلت روسيا منذ سبتمبر/ أيلول 2015، حين كان النظام السوري يوضّب أمتعته ويبحث عن منفى لأركانه، فلم تنتظر مجلس أمن أو تنسيقاً دولياً. ضربت روسيا ضربتها القاضية، وأرسلت قواتها الحكومية المدججة بترسانتها القاتلة، ومرتزقتها الأشد إجراماً، واحتلت الأرض والقرار السوريين، وتركت الصراخ للآخرين وسخرت من ثرثرات أوروبية وأميركية عن ضرورة ضبط النفس والتراجع عن الخطوة أحادية الجانب والتوقف عن الاعتداء على القانون الدولي والإحجام عن قتل المدنيين السوريين.
حصل ذلك بينما كانت تركيا تفكر وتبحث منذ مطلع 2012، وهي لا تزال منذ حينها تفكر وتبحث إنشاء منطقة آمنة للمدنيين، نشرت عنها عشرات الخرائط، على أساس أن المنطقة تلك ستقيهم من الموت الأسدي وتحظى بحماية دولية وإلا تركية فقط. لم يحصل هذا أو ذاك كما بات معلوما، نتيجة الانسحاب الأميركي والوهن الأوروبي، بل كل ما حصل كان معاقبة لمن قرر إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، ومن بينهم رئيس الحكومة التركي أحمد داود أوغلو الذي اشتهر في حينها بعبارة “لن نعتذر للروس”، لكي يأتي بعدها الاعتذار من الرئيس رجب طيب أردوغان شخصياً، تلته مغادرة داود أوغلو منصبه أو إقالته. الأسوأ أن الاعتذار كان مقدمة لتسليم أنقرة الملف السوري إلى موسكو في إطار لعبة ألفاظ قاتلة اسمها “مسار أستانة”، فيها تمت إعادة اختراع شكل الحرب السورية وإعادة تعريف العدو والصديق والهدف والوسيلة. بالنسبة لتركيا، لم يعد النظام السوري هو العدو بل الحلم القومي الكردي على الضفة السورية من النهر. لم يعد الهدف سورية جديدة ديمقراطية للجميع تبدأ بإنشاء منطقة آمنة تكون منطلقاً لتحرير كل سورية، مثلما كان الخطاب التركي الرسمي يكرر منذ مطلع 2012، بل منطقة حدودية تكون آمنة من “الخطر الكردي” على امتداد الفرات. هدف متواضع إلى درجة أنه نال الموافقة الروسية المسبقة في إطار عمليات درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، وعرف إعلامياً وسياسياً بمعادلات بعدد أسماء المدن والمناطق السورية التي احتلّها الروس بمعية مرتزقة سوريين أو إيرانيين ولبنانيين عراقيين، كانت أكثرها عبثية: حلب مقابل الباب، أو إدلب مقابل شرق الفرات أو غوطة دمشق مقابل عفرين أو درعا مقابل قرية حدودية ما… إلى ما هناك من تنازلات وصلت اليوم ذروتها بالنسبة لتركيا: تقول تركيا إنها قصف 46 هدفاً للنظام السوري رداً على قتل نظام الأسد ستة من جنودها في إدلب، فتسارع وزارة الدفاع الروسية إلى تكذيب الأتراك علناً، وتقول إن الجنود الأتراك الستة سقطوا خلال استهداف إرهابيين، أي أن هؤلاء كانوا إما إلى جانب الإرهابيين أو أنهم كانوا يحمونهم، لتواصل الرواية الروسية الإهانة المقصودة للحليف التركي، فيشير بيان وزارة الدفاع الروسية إلى أن “الطائرات الحربية التركية لم تخرق الحدود السورية، كما لم يتم تسجيل ضربات ضد مواقع القوات السورية”. 
الإهانة في العلاقات الدولية، مثلما هي في العلاقات الشخصية، تنتج في السياسة عن تنازل مبدئي عما لا يمكن التنازل عنه: الاعتذار عن إسقاط السوخوي الروسية عندما كانت تقتل السوريين المدنيين خريف عام 2015، كان الخطيئة التركية الأصلية، المتممة لقرار عدم اتخاذ الخطوة الأولى التي سبقتها إليها روسيا في الميدان السوري. التدخل التركي لو حصل كان يمكن أن يكون تحت عنوان “التدخل الإنساني” لحماية المدنيين السوريين، وربما كان وفّر موتاً مديداً، لكنه لم يحصل ليترك الساحة مفتوحة أمام تدخل عسكري هدفه إعادة الاعتبار للنفوذ الروسي في العالم، انطلاقاً من قتل إرهابيين أطفال في قرى وبلدات الرقة وإدلب وحماة وداريا والزبداني وحلب، على الطريقة الإيرانية التي تخبرنا عن طريق القدس التي تمرّ بأحياء دير الزور وحمص.
الكاتب:ارنست خوري  – المصدر: العربي الجديد
“هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه/كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي المرصد السوري”