تنامي ظاهرة التخلي عن الأطفال حديثي الولادة في عموم المناطق السورية.. أمر مقلق

41

تقول ريما ( اسم مستعار): ليس سهلا أن أتخلّى كأم عن فلذة كبدي بعد حمله في أحشائي تسعة أشهر، إضافة إلى معاناة مرضي قبل الولادة حين أصبت بمرض نادر.. كان ابني نتيجة علاقة زواج شرعية بأبن عمّي الذي فرضته العائلة عليّ بدواعي ” ستري” بل التخلّص منّي وكأنني مشكلة.. كنت أتفهم قليلا وضع أسرتي التي لا تجد ثمن الخبز وتعيش على فضلات القمامة أحيانا، فقبلت بذلك الزواج الذي بدأت معه معاناتي بالضرب والإهانة من قبل زوجي وأيضا استغلالي جنسيا من قبل مشغلّي مقابل بعض الليرات.. كانت معاناتي كبيرة بين الجوع والضرب والعطش والعراء، كنت حاملا بابني لكنني لم أكن أريد إنجابه فقررت التخلّص منه بعد ولادتي بأيّام حتى لا يرى معاناتي ويجوع كما جعت.. كنت أدعو الله أن تجده عائلة وتحمله حتى يرى حياة أفضل.. بعد أيام عدة إلى نفس المكان الذي وضعته فيه فلم أجده، وأخبرت زوجي بأنه توفّي حين ولدته في المشفى.. لا أعرف كيف مصيره اليوم، هل توفّي أم تم إنقاذه..

قمت بذلك وداخلي قهر وألم، قمت بذلك فقط لإنقاذه من الحياة البائسة التي تنتظره، نتخلى عن أطفالنا مجبرين لا مخيرين، في مخيلة كل أم تتخلى عن فلذة كبدها أن تكون حياته أفضل..

قصة ريما مثلها آلاف القصص، هن أمهات يتخلصن من فلذات أكبادهن ظنا منهن أنهن يخلصنهم من حياة الفقر والخصاصة والتعب والألم،.. أمّهات أذنبن مرتين حين أنجبن وحين تخلصن من الرضع.. لكن حتى معضلة الفقر والخصاصة لا تعطيك الحق في رمي ملاك طاهر بين القمامة.

من أصعب ما قد يعيشه الإنسان، أمّا أو أباً، تخلّيه عن فلذة كبده ورميه بين أكوام الزبالة أو المجاري للتخلّص منه، في مشهد مأساوي لا إنساني تتقطع له الأفئدة، هذا المشهد بات معتادا في سورية بعد سنوات من الدمار والخراب الذي أتى على الأخضر واليابس وجوّع الأهالي ونسف كل مقومات الحياة الكريمة، وما تصاعد ظاهرة التخلّي عن الأطفال الرضّع حديثي الولادة إلاّ نتيجة من نتائج تلك الأزمة المستعصية التي لم تنته بعد بل تشعّبت وأخذت منعرجات وتغيّرات أخرى بعيدة عن المصلحة السورية.

ووثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يندّد بشدّة بمثل هذه الظواهر الدخيلة عن المجتمع السوري المسالم الرحيم ، منذ بداية العام الحالي ، 17 حالة تخلي في مختلف جهات السيطرة وتوزّعت بين 7 ضمن مناطق سيطرة قوات النظام، و9 ضمن مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، و1 ضمن مناطق سيطرة الفصائل الموالية لتركيا، هذا دون احتساب الأطفال ضحايا العلاقات غير المقنّنة والذين يتم التخلّص منهم بالقتل ورميهم في أكياس بلاستيكية في حاويات القمامة والمناطق المهجورة أو وضعهم أمام المساجد أو في دور الأيتام.

ولطالما تحدّث المرصد السوري عن مفارقة عديد الأطفال حديثي الولادة الحياة بعد العثور عليهم في حالات يرثى لها صحّيا، وحتى من تبقّى على قيد الحياة يصعب كثيرا إيجاد عائلات لتربيته والاهتمام به بسبب الوضع الاقتصادي المأساوي والصعب وغياب فرص العمل لتوفير القوت اليومي مع الارتفاع الحاد في نسب البطالة الذي أدّى إلى تدنّي المقدرة الشرائية في بلد يتقاضى فيه الموظّف أقل من عشرين دولارا في الشهر وتعيش العائلة المتكونة من أربعة أفراد على أقل من دولار في اليوم وهو معدّل تحت خطّ الفقر العالمي.

الأمم المتحدة التي وصفت يوما ما حياة ومستقبل الأطفال بالمعلقة بخيط رفيع لا تعرف أنّ هؤلاء الأطفال يرمون في القمامة والمساجد والشوارع بسبب ضيق الحال وعدم قدرة الأهل على تربية الرضيع وتوفير الحليب الذي بات يخلط في بعض المناطق بالماء في مشهد حاد ومؤلم، فالعجز الأسري عن توفير ضروريات الحياة من أكل وملبس وعلاج ومسكن لا تترجمه بيانات وخطابات العالم كلّه، فأن يعجز معيل الأسرة عن توفير الأساسيات ويضطر للتخلّص من ابنه بطريقة ما، هو مشهد دراماتيكي مأساوي لا يمكن أن يصدّقه عقل لكنه واقع موثّق.

وكانت منظمة “يونيسف” قد أكّدت في تقرير سابق أنّ وضع العديد من الأطفال محفوف بالمخاطر، إذ أن حوالي 90 في المائة من الأطفال يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية.

هذا علاوة على الأطفال الذين تركتهم أمهاتهم وهم نتاج علاقاتهن مع مقاتلين أجانب، وهو أمر خطير وجب التطرق إليه بالمعاجلة وإيجاد الحلول لهذه الفئة من اليافعين الذين لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا في بلد ابتلي بصراع داخلي مرير وتدخل أطراف خارجية، وهو وضع نجم عنه القتل والتشريد والتجويع والتهجير القسري والتدمير الممنهج للبلاد.

الوضع الاقتصادي السيء أثّر سلبا على كل مجالات الحياة وحتى على الاستقرار الأسري والاجتماعي، وقد أدّى تصاعد التضخّم وانهيار الليرة والنقص الحاد في الوقود والانقطاع المستمر في الكهرباء إلى بروز سلوكات عنيفة وغير مقبولة في حقّ براعم لا يد لهم فيها ولا ساق.

ففي وقت وصلت احتياجات الشعب السوري إلى أسوأ المستويات منذ بدء الصراع، كما وصفها مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية غير بيدرسون أمام مجلس الأمن الدولي، في ديسمبر الماضي، بات من الضرورة الإنسانية والأخلاقية إيجاد حلول واقعية وسن استراتيجيات ملائمة للنظر في مثل هذه الظواهر الدخيلة على المجتمع السوري، وتوعية الأهالي والشباب بعدم اقتراف هكذا جرائم فضلا عن أهمية العمل من أجل وضع حد للصراع السوري المتواصل في كل الجهات والذي كان بابا لمثل هذه التصرفات غير الشرعية، خاصة أن الضحايا رضّع لا ذنب لهم فيما اقترفت أسرهم .

وندعو من منبرنا هذا، المجتمع الدولي إلى التسريع بفرض الحل السياسي وتنفيذ القرارات الدولية لإنهاء النزاع وبناء دولة القانون والمؤسسات والالتزام بالاتفاقيات التي وقعتها سورية لحماية الأطفال، ونجددّ التذكير بأن مثل هذه السلوكيات الدخيلة كانت الحرب بابها الواسع لتصبح ظاهرة خطيرة ومقلقة فضلا عن سريان قانون الغاب والحكم للأقوى ولمالك السلاح والميدان ما شجّع على تنامي تلك الحوادث.

وندعو المجتمع المدني والحقوقي إلى توعية الشباب من مخاطر إنجاب طفل خارج السياق القانوني والتضحية به بالتخلص منه ورميه في القمامة أو تركه جائعا وعاريا حتى يفارق الحياة في مشهد درامي مخزي.

هل يعاقب القانون السوري المتخلين؟

يقول قانون العقوبات السوري: “من يسيب أو يطرح ولدا ما دون السابعة من عمره يعاقب من ثلاثة أشهر إلى سنة سجنا إذا سيبه أو طرحه في مكان غير قفر (والقفر أي المكان الذي لا يوجد فيه مارة) وفي حال كان المكان قفرا شددت العقوبة من سنة إلى ثلاث سنوات، وتضمنت المادة 484 من القانون أنه من طرح أو سيب ولدا دون السابعة من عمره أو أي شخص آخر عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة، وإذا طرح الولد أو العاجز أو سيب في مكان قفر كان العقاب من سنة إلى ثلاث سنوات”.

ويتابع: الأب والأم اللذان يتركان في حالة احتياج ولدهما الشرعي أو غير الشرعي أو ولدا تبنياه سواء رفضا تنفيذ موجب الإعالة الذي يقع على عاتقهما أو أهملا الحصول على الوسائل التي تمكنهما من قضائه يعاقبان بالحبس مع التشغيل ثلاثة أشهر وذلك وفقا للمادة 487 من قانون العقوبات”.

وقد شهدت السنوات الماضية أيضاً مئات الحالات لأطفال حديثي الولادة بعمر الأيام عثر عليهم إما أحياء أو على جثثهم في عموم المناطق السورية، ودائماً ما تتصدر مناطق سيطرة قوات النظام قائمة الأكثر تفشياً لهذه الظاهرة الاجتماعية والخطيرة والمؤلمة.