ثلاثة مسارات تنتظر سورية

18

في كانون الثاني (يناير) 2014، انفجر التحول السياسي الأكبر في الشرق الأوسط مع إعلان حرب مفاجئة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» آنذاك، في سورية والعراق في آن معاً. تشابهت الظروف في الجارين الجغرافيين إذ وقفت كيانات «قبل- مجتمعية» في موقع متقدم نسبياً على الدول والجيوش نفسها في كلتا الدولتين. حددت قبائل ومجموعات شعبية غير ناضجة أولوياتها في الوقوف في وجه التشكيل الإرهابي الحديث، بينما هي في الوقت نفسه تحارب قمع وتهميش السلطات السياسية والأمنية، بينما كانت تلك الأخيرة مرهونة بخيارات التعايش مع إرهاب داعش واستغلاله للتخلص من أي حراك مناوئ شعبياً وعسكرياً.

في الجانب الأول كان ثمة عراق متهالك فشل على مدى اثنتي عشرة سنة في إنتاج آليات «مجتمعية» حقيقية، وبقيت كياناته «الجماعاتية» منفصلة ومنطوية ومتنافرة في ظل الاستقطاب المذهبي والتناحر الطائفي والتهميش السياسي، مما سمح لداعش وأخواتها بالتغلغل ضمن نسيج المجتمع واستغلال أسوأ ما في اليأس الذي يلفه. في الجانب الآخر يكاد السيناريو ينسخ نفسه نسخاً. وعلى رغم وجود تأثيرات سياسية لا تخفى، تتلخص الصورة الرئيسية في وقوف أهم العشائر العراقية بين مطرقة حكومة المالكي العمياء وسندان الدولة الإسلامية الباطشة، بينما وقفت كيانات «قبل مجتمعية» مماثلة في سورية بين نارين لمحاربة النظام وداعش في الآن ذاته.

لكن على المستوى الأعلى والأكثر عولمية، تعاملت القوى الدولية مع العراق على أنه مشروعها الربيب الذي لم يكتمل والذي لا بد من العمل على إنقاذه، بينما اعتبرت سورية ساحة حرب ضرورية لاستنفاد جهود الخصوم. من هنا انقسمت سياسة العالم في حربه على داعش إلى سياستين: في العراق كان الطريق إلى محاربة الإرهاب يبدأ من تشكيل حكومة وحدة وطنية وإشراك العشائر في قرار الحرب وآليات تنفيذها، وبالتالي تحويل حالتها القبلية إلى «مجتمع سوق» تساهم فيه بقواها العاملة ومحاربيها وتكسب في المقابل دعمها الاقتصادي والاجتماعي الذي يمر عبر «دولة» حقيقية تمثلها حكومة العبادي المركزية.

أما في سورية فطريق محاربة الإرهاب يتطلب دعم السلطات الحاكمة في أولوياتها لمحاربة أولئك الذين يحاربون داعش، بل ربما محاربتهم باستخدام داعش. وبذلك فإن المسار الرئيسي كان تكريس الحالة الجماعاتية وإعاقة انخراط هذه المجموعات في أي مسار مجتمعي في إطار الدولة، وبمعنى آخر فإن من حق الدولة السورية شيطنة هؤلاء وإلحاقهم بداعش، فيما يندفعون بدورهم إلى شيطنة الدولة وإلحاقها بداعش. يحارب العالم الدولة الإسلامية في المنطقة بطريقتين: إحباط سياسة المالكي في العراق، وتشجيع السياسة نفسها في سورية.

بعد فشل المفاوضات في جنيف 2 في العام نفسه، تم التخلي عن تجربة المسار العراقي في سورية – أو تأجيلها – بسبب اختلاف الفرقاء، رغم أن التجربة العراقية قدمت مخرجات ناجحة في تخفيف التوتر الداخلي مذهبياً وطائفياً ضمن النسيج العراقي وساهمت في دفع العشائر للتعاون مع الحكومة بدلاً من محاربتها. لكن بدلاً من تعميم التجربة والدفع باتجاهها في سورية، اتجه المجتمع عبر الأمم المتحدة إلى تهدئة الوضع كما هو من خلال الجهود التي يقوم بها المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا لتجميد النزاع في سوريا بين الجبهتين المتحاربتين (مع اعتباره داعش والنصرة غير موجودين أساساً). لم يكن هذا المسار الثاني أقل فشلاً على الأرض، كما أفقد جميع الأطراف الثقة بالأمم المتحدة وشركائها. ومع اعتبار ما تحاول الأمم المتحدة التعويض عنه، لم يكن من الغريب اعتبارها متحيزة للنظام السوري، واعتبار جهودها في هذا المسار محاولة لتجنب المسار الأول الناجح الذي تم تنفيذه في العراق.

لذلك وبعد فشل المسارين السابقين أو إحباطهما، تتجه الأنظار – ولا شك – إلى المسار الثالث الذي أفرزته معارك عاصفة الحزم في اليمن، وما نتج عنها من تشكيل قوات دفاع عربية مشتركة وتحالف موقت ضد الانقلاب الحوثي. وتدور في الأروقة السياسية والساحات المجتمعية أحاديث عن الأهداف البعيدة لمثل هذا التحالف والخطوات التالية التي ينبغي استكمالها، بما في ذلك التوجه شمالاً نحو سوريا باعتبارها ساحة للتدخل الإيراني «السافر» الذي لا يقل «فداحة» عن التدخل في اليمن، وباعتبار هذا التحالف ليس إلا ذراعاً «عربية» في وجه مد «إيراني».

ما زالت هذه المسارات الثلاثة قابلة للطرح والتفنيد نظرياً، والسعي لتحديد معوقاتها وصعوبات تكريسها وتنفيذها. لكن المسار الثالث، في ما يبدو، يحمل الآمال الأكبر لدعاة الحرب ودعاة التسلح ودعاة الثورة، لا لأنه لم يحبط بعد ولم يستنفد الأمل وحسب، بل لأنه يخدم استمرارية مسار أولئك الذين اتخذوا من الدعوة للحرب والتسلح منهجاً سياسياً خالصاً. لكن من وجهة نظر منصفة لا بد من التساؤل: كم حرباً يستطيع هذا البلد المنكوب أن يحتمل قبل أن ينتهي مرة وإلى الأبد؟ش

 

نائل حريري

الحياة