ثورة سورية ومعالم الانتصار

25

بالتزامن مع التحضير لاستكمال عملية تحرير كامل لمدينة درعا، يشهد الشمال السوري انهياراً متسارعاً لقوات نظام بشار الأسد، يقابله إحكام سيطرة الثوار على النقاط والمعابر الاستراتيجية في ريفي إدلب وحماة وبعض مناطق الريف الساحلي. يأتي هذا التطور بعد يوم من خطاب رأس النظام السوري والذي يكاد يكون أول خطاب له يستحق الوقوف عنده بجدية. فمنذ انطلاقة الثورة السورية في آذار (مارس) ٢٠١١، تدور مقابلات وخطب رأس النظام حول نظريات المؤامرة، وادعاء انتصارات غير موجودة، وتدبيج الكلام الفارغ من أي معنى، في انفصال تام عن الواقع. أما في خطابه يوم الأحد الماضي، فقد اعترف بشار بحقائق دامغة، وكشف عن نوايا لتوجهات مستقبلية يرى السوريون بوادرها منذ أن بدأ النظام يفقد السيطرة على مدن استراتيجية لمصلحة الثوار.

اعترف الأسد بأن جيشه يعاني من «نقص في الطاقة البشرية»، وهو ما يؤكد المعلومات المعروفة من أنه لم يعد يوجد سوريون كفاية للدفاع عن النظام، حتى من حاضنته التي كانت مخدوعة به أو مرتبطة به مصلحياً. الجيش السوري الذي كان عدد مقاتليه 305 آلاف عنصر، بات عاجزاً عن تجنيد ربع هذا العدد، وذلك بسبب رفض الالتحاق بالخدمة والهروب منها، والانشقاق، وبسبب العدد الهائل من القتلى والجرحى في صفوف ما تبقى من الجيش. وهناك سبب جديد هو استقطاب الإيرانيين لجنود وشباب مكلفين بالخدمة الإلزامية، لتشكيل ميليشيات تابعة كلياً لطهران، تتلقى منها الرواتب والأوامر وحتى العقيدة القتالية والعقيدة السياسية إن لم نقل المذهبية.

واعترف بشار بأنه يعتمد كثيراً على مقاتلي «حزب الله»، وقال إنهم «يلعبون دوراً عسكرياً هاماً في الدفاع عن الدولة» وهو يقصد بالدولة نظامه المتهالك.

وذهب رأس النظام بعيداً في اعترافاته، حين أقر أنه بقواته وبقوات حلفائه ومرتزقته، بات عاجزاً عن السيطرة على كل الأراضي السورية، ومضطراً للمفاضلة بين المناطق، وقدم فلسفة للمفاضلة وسلم الأولويات بين هذه المناطق، وخاصة التي تخلى عنها، وتلك التي سيتخلى عنها مكرهاً. فمرة يتحدث عن أن «حياة الجنود أهم من الأرض» وأخرى يتحدث فيها لأول مرة عن «تقسيم» سورية، وأخيراً يسهب في الحديث عن «إحباط الناس، وإرهاق في كل مؤسسات الدولة».

كما اعترف الأسد بحقيقة موقفه الذي كان يجهد لإخفائه، وهو الرفض التام لأي حل سياسي أو تسوية سلمية، مكرراً تبني الخيار العسكري والقتال حتى آخر جندي ومرتزق مجند لمصلحة النظام، وأنه اختار أن ينتهي نهاية القذافي لا نهاية بن علي ولا حتى صالح.

إضافة إلى اعترافه بالهزيمة، رسم الأسد صورة صريحة لما تبقى من نظامه، فبعد أن أثنى على «الدور الهام» الذي يلعبه «حزب الله»، استفاض في مديح إيران ودورها في الدفاع عن نظامه، وأبدى فرحه بـ «الانتصار الكبير» الذي حققته في اتفاقها النووي. ووصل به الأمر حد وصفها بالدولة «الشقيقة»، وهو وصف لا يطلق أبداً في دولة البعث إلا على الدول العربية. بينما لم يعد خافياً أن ما تفعله إيران في سورية تجاوز الحضور والنفوذ إلى الاحتلال المباشر.

وفي جملة سيذكرها العالم قال الأسد: «الوطن ليس لمن يعيش فيه أو يحمل جنسيته أو جواز سفره، وإنما هو لمن يدافع عنه». يطرح رأس النظام تصنيفاً خطيراً للمواطنة ومن له الحق بأن يكون سورياً وفق أدبيات نظام براميل القتل، ومع أن هذا الطرح هو تكرار للعقيدتين النازية والصهيونية اللتين تؤمنان بأن حدود الدولة هي المكان الذي تصل إليه حراب وأقدام جنودهما، مما يشكل تهديداً ليس للسلام الإقليمي فحسب، بل للأمن العالمي ويمهد لشريعة الغاب في القرن الواحد والعشرين التي يساعد النظام في الترويج لها من خلال الحفاظ على حالة الفوضى في المنطقة، إلا أن السياق هنا أتى في معرض الهزيمة وتبرير الاحتلال الأجنبي للبلاد بعد استنفاد طاقات الدولة في مواجهة شعب عازم على نيل الحرية، مما يجعل رأس النظام يلغي مهمته بنفسه كقائد سياسي ويعترف بأن استمرار وجوده في السلطة ليس بقدراته الذاتية، ولا بقاعدته الشعبية، وإنما بفضل الاستعانة بالأجنبي، وفي هذه الحالة تحديداً إيران والمليشيات الطائفية التابعة لها، والتي بدأ نظام الأسد منذ شعوره بالانهيار بالعمل على توطينها في المناطق التي أخلاها من قاطنيها، إما بالتهديد أو القتل كما يحصل مؤخراً في منطقة بقين في ريف دمشق. لكن خطة الأسد لبناء كيان طائفي تديره إيران وميليشياتها سواء في دمشق أو في الساحل السوري محكومة بالفشل. فأقدم عاصمة مأهولة في العالم، وثاني عاصمة للحضارة الإسلامية، تبدو عصية على مشروع التطهير المذهبي الذي يشاهد في أحياء المزة والسيدة زينب وغيرهما من أحياء وضواحي دمشق. وهذا المشروع الطائفي الذي يعمل على طرد ملايين الدمشقيين وكذلك القاطنين الجدد في الساحل الغربي الذين لجأوا من عدة مناطق بسبب الحرب واستبدالهم بملايين من الغرباء المشبعين بالكراهية المذهبية، المستعدين للدفاع عن تحقيق الأطماع التوسعية للولي الفقيه أكثر من جنود وشبيحة النظام أمر لن يكون قابلاً للتحقيق في منطقة من أعرق حضارات العالم.

وفي ظل تقوقع النظام في العاصمة والساحل السوري وتخليه عن باقي المناطق، يشهد الشمال السوري عملية عسكرية على الإرهاب الموجه من قبل النظام تقودها تركيا بدعم شعبي وإقليمي ودولي مما يشكل منعطفاً هاماً لمصلحة الثورة. فتحرير الشمال من عصابات «داعش» والجماعات الإرهابية التي ارتبط اقتصادها الداعم لوجودها بالنظام سيعيد ترتيب المناطق لمصلحة القوى الثورية والوطنية التي تعمل تحت مظلة «الائتلاف» أو تتسق معه والمتمثلة بقيادة الأركان والفصائل العسكرية والمجالس المحلية وهو الوضع الذي كان قائماً قبل أن تحتل «داعش» المناطق المحررة.

وفي هذا الإطار فإن الجهود التي بدأها «الائتلاف» لتشكيل قيادة عسكرية عليا تتناسب مع حجم القوى العسكرية الفاعلة للثورة تهدف إلى تشكيل جيش وطني حيادي تجاه مكونات الشعب السوري تكون وظيفته الأساسية حماية البلاد وليس إدارتها بدءاً بالمناطق المحررة التي بدأت رقعتها تتسع بالتزامن مع انحسار «داعش» والنظام على حد سواء إثر بدء العملية العسكرية ضد الإرهاب في الشمال. بينما تجهز الإدارة المدنية المشكلة من مجالس المحافظات والمجالس المحلية.

وفي هذا السياق، فإن مسار الحوار السوري – السوري مع أطياف المعارضة الأخرى لاستكمال التوافقات وتوحيد الرؤى حول مرحلة ما بعد الأسد مع تجاوز التحديات والتجاذبات الإقليمية، سيستمر بضم مكونات مجتمعية وسياسية أخرى حتى يتم الانتقال من مرحلة قيادة الثورة إلى مرحلة إدارة الدولة.

 

خالد خوجة

الحياة