«جبهة النصرة» بوصفها عماد الثورة السلفية السورية

21

ليس الخلاف على مصير بشار الأسد ما يعرقل مفاوضات جنيف، إنما الخلاف على «جبهة النصرة». فهو الذي يتسبب بعرقلتها وبخروق وقف إطلاق النار أيضاً. فروسيا تريد القضاء عليها لكسب صراعاتها مع دول إقليمية وغربية، وفي المقابل تريد هذه الدول هزيمة روسيا على الأرض السورية. والمفارقة أن روسيا قادرة على المجاهرة باستهداف «النصرة»، أما تلك الدول فتلوذ بالسكوت بدفاعها عنها بسبب أنها مصنفة جماعةً إرهابية لدى الأمم المتحدة، كونها فرع تنظيم القاعدة في سورية. وقد رفض قادتها التنصل من مبايعة القاعدة على رغم المحاولات الجدية والحثيثة لأطراف عدة لثنيهم عن ذلك.

موقف قيادات النصرة لا بد أنه تسبب بإحراج بليغ لعديد الدول الإقليمية والغربية المناوئة للأسد، إذ باتت عاجزة عن المجاهرة بالدفاع عن النصرة، مع أنها، في أغلب الظن، كانت ترغب بضم «النصرة» إلى كتلة المعارضة المعتدلة، كما فعلت مع تنظيمات أحرار الشام وجيش الإسلام بضمهم إلى مؤتمر الرياض للمعارضة المعتدلة، لكن «النصرة» لم تتخل عن تفرّعها عن القاعدة. وهذا الوضع جعل هذه الدول تستعيض عن المجاهرة بالصمت المطلق عن أي ذكر للنصرة.

روسيا تطالب بشدة بانفصال المجموعات «المعتدلة» جغرافياً عن «النصرة» كي لا تُستهدف خلال قصفها لمواقع «النصرة»، حسبما تقول موسكو. الدول النقيضة تماطل في تنفيذ هذا الأمر على رغم الاتفاق عليه في غير اجتماع، آخرها اجتماع فيينا الأخير حيث تكفلت واشنطن بتنفيذ هذا الفصل، حسب التصريحات الروسية.

لكن الدول المخاصمة لروسيا تدرك أن هذا الفصل بين المقاتلين، أو حتى مجرد إلغاء المساحات التي تسيطر عليها «النصرة» من حصة المعارضة المنصوصة في الجردة العامة التي اعتمدتها حسابات العملية التفاوضية في جنيف، سيعني اضمحلال مكانة وثقل المعارضة في مواجهة النظام، وتغيّراً جوهرياً في هذه الحسابات. بل يمكن أن تتضاعف الخسارة إن تمكنت موسكو، مستخدمة القوات البرية للنظام السوري، من الاستيلاء على المواقع والمناطق الواقعة تحت سيطرة «النصرة» وضمها إلى حصة النظام. لهذا لا توفر تلك الدول أي جهد في الحيلولة دون ذلك، وتراهن على انقضاء هذا الصيف وحلول الانتخابات الأميركية، عساها تكون قادرة على تحقيق تغييرات على صعيد توازن القوى بين النظام ومعارضيه «المعتدلين»، أي غير المصنفين إرهابيين لدى الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة.

هنا يُستَبطن المأزق الحالي، فالمساحات المحسوبة للمعارضة، والتي على أساسها احتُسب حجمها وثقلها في الواقع السوري، هي في غالبها تحت سيطرة «النصرة»، وبالتالي بمجرد فصل الحدود الجغرافية بين النصرة والمعارضة تصبح هذه الأخيرة المسماة معارضة الرياض فاقدة أي وزن في الواقع السوري، وتصبح الدول الإقليمية والأوروبية الداعمة والراعية لها تقاتل بسيف من كرتون.

روسيا تدرك ذلك جيداً، لهذا نجدها تسثمر هذا الأمر في محاولتها النيل من الدول الخصم، فنراها تحاول الاستفادة من قرارات مجلس الأمن، التي كانت شريكاً رئيساً في صياغتها، وتنتقي منها البنود المتعلقة بمقاتلة «النصرة» والاستيلاء على مواقعها والمناطق التي تسيطر عليها.

«جبهة النصرة»، كما هو معروف، فرع «تنظيم القاعدة» في سورية، وهي مصنفة جماعة إرهابية في الأمم المتحدة، ما جعلها مستثناة من وقف إطلاق النار في قرار مجلس الأمن ٢٢٥٤ الذي دعا أيضاً إلى مقاتلتها أسوة بداعش. وعلى رغم ذلك فهي تحتل موقع المركز في «الثورة» السلفية الجهادية السورية، التي هي الصورة الزائفة للثورة السورية المفترضة. فقد حظيت النصرة منذ تشكيلها بثناء ومديح عدد من ألمع قادة المعارضة المسلمين منهم والمسيحيين والمسلمات كما المسيحيات. ونسجت شخصيات المعارضة أروع الحكايات عن النصرة وعناصرها، وقالوا فيها الكثير في سياق خطابهم، مثل القول إن أغلب قادتها وجنودها سوريون، وأنهم مقاتلون أشداء تشهد لهم ميادين المعارك مع قوات النظام وقوات المعارضة على حد سواء، وأن سكان المناطق التي تحت سيطرتهم يُظهرون الكثير من الرضا والممنونية. كذلك لا يفوت المعارضين السوريين أبدا سرد فوارق يعتبرونها جوهرية بين النصرة وداعش، كأن يؤكدون أن النصرة ليست على تشدد داعش، فهي لا تعتمد الذبح، مثلاً، كوسيلة رئيسة في إعدام الكفرة والمرتدين والنصيرية.

لا يجوز مطلقاً تضمين جبهة النصرة/ القاعدة ضمن مقولة الثورة السورية المفترضة. أقول هنا المفترضة لأن الثورة السورية حالة غير متعينة، فليس لها لون بارز ولا شكل مرئي ولا عنوان صريح، وبالتالي سأفترضها هي ذاتها التي ضحينا من أجلها ربيع ٢٠١١، تلك الثورة التي أردنا من خلالها نقل البلاد من حالة التخلف إلى حالة من التقدم والحداثة، ومن الحالة الطغيانية التي يمثلها النظام، إلى حالة يتساوى فيها البشر من دون أدنى تمييز، ويصوغون من رؤوسهم الشرائع التي يريدون العيش على أساسها.

بناء على هذا يمكننا النظر إلى النصرة/ القاعدة على أنها مجرد محاولة عدمية في المعترك السوري. فتنظيم كهذا ليس له إمكانية للاستمرار في العيش في سورية خارج جبهات القتال. فالقاعدة ليست مطلقاً استجابة لتطلعات وطموحات البشر الطبيعية، فكيف بالسوريين الذين يطمح قسم كبير منهم بتمثل التوجه الأوروبي والغربي عموماً، ولا توجد إلا قلة قليلة جداً تنظر بإعجاب إلى نماذج الدول الدينية السنية أو الشيعية.

لا تحتاج الثورة السورية المفتَرضة لتنظيم القاعدة/ النصرة إذا كانت ثورة حُرّوية، أي ثورة حريات وكرامة، بل سيكون تنظيم القاعدة حينها من أشد خصومها. ولكن حين تكون النصرة عماد الثورة الرئيس فإن هذه الثورة ستكون مجرد ارتداد سلفي جهادي على الواقع السوري برمته، وليس في مواجهة النظام فحسب. إذ ليس النظام الطغياني الأمر الوحيد الذي تعاديه القاعدة، فهي تعادي كل النمط الحياتي السوري، بعلمانيته وإسلامه وعاداته وذهنيته وثقافته وكل شيء فيه.

أهمية القاعدة عند المعارضة متأتية من كونها شديدة المراس في مقاتلة النظام في ميادين القتال، من دون أن يكون لها أي ميزة بنائية إطلاقاً. لكن الثورة ليست حرباً ولا معارك ولا سلاحاً. وإن احتاجت الثورة في لحظة ما إلى توسل العنف فيجب أن يتبع هذا العنف طرحاً بنائياً يهدف إلى إقامة بناء دولاتي أفضل مما كان موجوداً، وإلى تشكيل نسيج مجتمعي أوضح وأمتن مما هو موجود. لكن القاعدة/ النصرة ليس لديها مثل هذا الطرح، لا بل على العكس من ذلك تماماً، فهي لا تقبل بالكيان الحديث للدولة الذي يقوم على المواطنة وقيمها، لا على العقيدة، ولا تقبل بنسيج اجتماعي يعتمد المساواة بين المواطنين، بل ذاك الذي يقوم على الغلبة، غلبة المسلمين على من عداهم.

النصرة/ القاعدة ليست سوى قوة طغيانية من الطغيانيات التي تكاثرت في سورية من لدن النظام. وهي بالتالي تتساوى مع النظام وداعش في الأداء الطغياني، فهي أيضاً تريد فرض أيديولوجيتها وقياداتها وسياساتها بالعنف وقوة السلاح، إنها مجرد قوة جهادية هدامة.

يَعتبر بعض «غلاة» الثورة والمتاجرين بها أنها ثورة سنية قامت على مظلومية سنية، وبالتالي لا بأس بأن تكون القاعدة/ النصرة طليعة هذه الثورة. لكن هذا الكلام عن مظلومية سنية لا يتمايز قيد أُنملة عن الكلام عن المظلومية العلوية، ولا عن المظلومية الكردية، من دون أن ننسى المظلومية المسيحية والسريانية ومظلوميات جميع المكونات المجتمعية السورية الأخرى. هذه النقطة يجب إفرادها بمقال مستقل، حيث تحوّل المجتمع السوري إلى كديس من المظلوميات التي تعتاش على ردود الأفعال وليس على الأفعال. فبتنا من النادر أن نسمع الآن كلاماً ريادياً، وجميع ما نسمعه عبارة عن كلام ارتدادي لا يمكنه أن يشكل قاطرة جامعة للسوريين أفراداً أو مكونات.

وبالعودة إلى البدء، نختصر مأزقنا العويص بما يلي: «النصرة» لا تبرح «تنظيم القاعدة»، قرارات مجلس الأمن توجب مقاتلتها، روسيا تستثمر هذه النقطة جيداً، الدول المناوئة للأسد غير قادرة على تبني النصرة/ القاعدة، المجموعات «المعتدلة» لا تستطيع التغلب عليها وأغلبها لا يقبل مقاتلتها، إن استولى النظام على مناطقها بات هو المنتصر المطلق على المعارضة السلفية بشقيها السياسي والمسلح.

يعتبر الكثيرون أن كلاماً كالذي سقته هنا يصب في مصلحة النظام، بل هو يخدمه. هذا صحيح إذا اعتمدنا التفكير الساذج الذي يحكم خطاب المعارضة الذي يعتمد القاعدة الفاشلة: عدو عدوي صديقي. لكن إن عرفنا أن تنظيمات عدمية عنفية كالنصرة/ القاعدة كانت تبني ذهنيتها في كنف أنظمة استبدادية كالنظام السوري، الذي رعاها ودللها لسنوات طوال على حساب القوى العلمانية والتنويرية، أقلّه منذ سقوط بغداد ٢٠٠٣، حينها ندرك تماماً أن أي مواجهة لهذه التنظيمات هي مواجهة جذرية لكل الطغيانات وفي مقدمتها النظام الحالي باعتباره طغياناً تأسيسياً.

لؤي حسين

الحياة